كوكب المريخ.. نحو العيش على الكوكب الأحمر

تحيط بالمريخ هالة رومانسية، إنه مكانٌ آخر وعالم آخر، وهو أكثر الكواكب شبها بالأرض في المجموعة الشمسية، وعندما تقوم بعمل ما للمرة الأولى، تكون الاحتمالات والإمكانات مفتوحة، فهل نحن وحدنا؟ ما هي القصة التي سيرويها المريخ للأرض؟ فهذا، وغيره الكثير، ستجده في هذه الحلقة التي تعرض ضمن سلسلة “أسرار المجموعة الشمسية” التي خصصتها الجزيرة الوثائقية للحديث عن الكوكب الأحمر، المريخ.

أثار المريخ اهتمام الناس منذ القدم لأنهم نسجوا أساطير متخيلة حوله، وبفضل العلم والخيال العلمي بات المريخ موطنا لحضارة فضائية مزدهرة، وقد ألّف “بيرسي بلول” عدة كتب عن المريخ وحضاراته، وتحدث عن قنوات مشيدة لنقل الماء، ومن هنا نشأ ارتباط وثيق بين الكائنات الفضائية والمريخ، وأنها ربما تكون أكثر ذكاء من سكان الأرض.

“إنها انتكاسة”.. صور المريخ الأولى تصل إلى الأرض

تتمثل مهمة “مارينر-4” في إرسال مركبة فضائية إلى المريخ في رحلة تستغرق تسعة شهور، وتقارب نصف المسافة إلى الشمس في مسبار غير مسبوق، كان الإطلاق مخيفا لأن نحو نصف عمليات الإطلاق انتهت بانفجار المركبة على المنصة، وكانت هناك حالات فشل أخرى عديدة. لكن “مارينر-4” كانت تحمل الكثير من الأمل.

تبعد “مارينر-4” مسافة 216 مليون كيلومترا عن الأرض، وهي على بعد 81 ألف كيلومتر عن كوكب المريخ، كان ذلك في يوليو/تموز 1965 حين كانت على وشك لقاء المريخ، وقد وصلت إشارة تفيد بأن المركبة قد رصدت الكوكب، وخلال دقائق سيعمل جهاز التسجيل، على أمل وجود الصور عند تشغيل الشريط.

الصاروخ الذي يحمل على متنه “مارينر-4” (1965) أول مركبة ستدور حول كوكب المريخ

يستغرق التحليق القريب بضع ساعات، وقد التقطت المركبة الفضائية 22 صورة، وتغطي الصورة نحو 433 كيلومترا مربعا، وها هي البيانات تصل، وهي مفيدة طبعا لكن الصور هي الأهم. كانت البيانات على شكل أرقام وعددها 40 ألف رقم، وكان كل واحد منها يمثل شدة ضوء ولونا معينا.

قام العلماء بقص أشرطة الأرقام وإعادة لصقها بالترتيب الصحيح، واستخدموا ألوان “الباستيل”، وهكذا ظهرت أول لوحة مدهشة للمريخ، وقد تناقلتها وسائل الإعلام بسرعة البرق، إذ كانت تلك أول صورة للمريخ تلتقط من أي مكان خارج الأرض، “وعندما رأينا الصور الحقيقية أخيرا شاهدنا عالما رماديّا وميتا، كانت حفرا كالتي على القمر، ولا آثار لحضارات قديمة، إنها انتكاسة”.

انقشاع العاصفة.. معالم جغرافية على سطح الكوكب الأحمر

أطلقت “مارينر-6″ و”مارينر-7” وأرسلتا مزيدا من الصور، ولكن ذلك لم يكن كافيا لسبر غور الكوكب الأحمر، ثم أطلقت “مارينر-9″، وبدا أننا أمام قبة كثيفة من الغبار تغطي سطح الكوكب، فأقرت “ناسا” برنامجا لإعادة “مارينر-9” وعدم استنزاف مواردها.

استمرت العاصفة الترابية ثلاثة شهور، ومن حسن الحظ أن انجلى الغبار وكشف عن معالم جغرافية مبهرة، منها قنوات وأخاديد، وأحد هذه الأخاديد بعرض الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأس تلك المعالم جبل أوليمبوس، قاعدته تغطي ولاية ميزوري، وتكاد قمته أن تخترق الغلاف الجوي للمريخ، لكنه يختلف كثيرا عن ما كان يظن الناس، فهو يحتوي كثيرا من القنوات والجزر بيضاوية الشكل والدلتا، كأن فيضانات مائية كبيرة تسببت في ذلك.

“مارينر-9” (1971) تلتقط أول صور جوية واضحة لسطح كوكب المريخ يظهر الأخاديد والفوهات والجبال

والسؤال المطروح هو: هل كان المريخ أزرق بما يكفي لنشأة الحياة هناك؟

قد تجيب “فايكنغ” التي انطلقت في أغسطس/آب 1975، وهي المهمة الأكثر طموحا، فقد كانت تضم مُكوّنَيْن بدلا من واحد، كما قررت “ناسا” محاولة إنزال مركبة على سطح المريخ لأول مرة، كانت كل مركبة من مركبتي الهبوط تضم كاميرات حديثة وأذرعا روبوتية، والأهم من ذلك أنهما كانتا معدّتين لإجراء تجارب علمية مخصصة لرصد الحياة.

“فايكنغ”.. معجزة الهبوط الأول على المريخ

كانت الرحلة شبيهة بأول رحلة لاستكشاف المحيطات في عصر النهضة، لكنها تتجه إلى كوكب آخر، هذه اللحظة هي تتويج لسنوات طويلة من العمل، وسوف تستغرق الرحلة تسعة شهور، ولا شك في أن الهبوط على المريخ سيكون من أصعب المهمات التكنولوجية التي جربها البشر. وصلت المركبة أعلى الغلاف الجوي، وما زالت سرعتها تفوق سرعة الصوت.

أول صورة لسطح وسماء المريخ في تاريخ البشرية بعدسة مركبة الفضاء الأمريكية فايكنغ (1976)

هبطت المركبة في تمام الساعة الثانية عشرة واثنتي عشرة دقيقة وسبعة أعشار الثانية، وقد كانت لحظة فارقة في تاريخ البشرية، ثم وصلت الصور في مقاطع متتابعة شيئا فشيئا، حجارة جميلة جدا، لا تبدو مميزة لكنها مهمة، التربة أولا ثم بعض الحجارة، من المدهش رؤية المريخ، كانت لحظة أكثر إثارة من أبولو-11.

لقد رأى العلماء عالما متكاملا؛ الجليد وهو يتراكم على المريخ، وغروب الشمس وشروقها في الصباح الباكر، والعواصف الرملية وهي تحجب مئات النجوم. إنها لحظات لا تنسى، ثم أقرّت بعض التجارب البسيطة والعبقرية لكشف ما إذا كان هنالك شكل من أشكال الحياة على المريخ.

“الليلة بدأ كل شيء”.. بقايا الأيض الحيوي على الكوكب

تضمنت التجربة البيولوجية على متن “فايكنغ” 3 اختبارات يبحث كل منها عن نوع مختلف من الأيض الحيوي. إحدى التجارب كانت البحث عن حبوب صغيرة، واختارت ناسا لهذه التجربة اسم “الإطلاق الموسوم”، وانتظر الفريق 12 يوما بعد هبوط “فايكنغ” قبل إجراء التجربة الأولى، حيث تمتد ذراعٌ لثلاثة أو أربعة أمتار من المركبة الفضائية لتأخذ عينتها، ثم تعود لمكانها لتضع العينة في صندوق التوزيع، ثم توزع العينات على التجارب الفردية، وقد استغرقت التجربة سبعة أيام.

انتظر الفريق 10 أيام أخرى قبل أن تأتي المعلومات، وفجأة وصلت وكانت الاستجابة إيجابية، بدا أن حياة وجدت هناك، وقّع 11 شخصا على المخطط الأول، وكتب أحد العلماء: الليلة بدأ كل شيء.

مركبة الفضاء فايكنغ (1976) تلتقط صورة للجليد المتراكم على سطح كوكب المريخ

لا بد أن خصائص بيولوجية في تربة المريخ تسببت في ظهور تلك النتيجة، أشياء غريبة كالأوكسيد الفائق، أو البيروكلورات، وهي أملاح يمكنها أن تتسبب في حدوث أشياء غريبة للتربة تؤثر على النتائج.

كان الهدف من التجارب الثلاث أن تعثر كل واحدة منها على الحياة لتكون هناك إشارة إيجابية لكل منها، لكن النتائج الأخرى لفحوصات رصد الحياة جاءت سلبية، وفي النهاية تأكد أن الأرض هي مأوى الحياة الوحيد في هذا الجزء من المجرة، فلندع الأحلام جانبا. وهكذا تسببت نتائج “فايكنغ” في تأخر استكشاف المريخ، وتوقفت أعمال البحث عن الحياة، ومعها توقف برنامج استكشاف المريخ 20 عاما.

حجر القطب الجنوبي.. عودة الأضواء بعد جفاء طويل

في عام 1996 عقدت “ناسا” مؤتمرا صحفيا كشفت فيه عن عثور العلماء في القارة القطبية الجنوبية على حجر ذي لون غير مألوف، وقد وصل الحجر إلى علماء “ناسا” الذين تمكنوا من تحليل مكوناته، وتبين أن الغازات المحتجزة داخل الحجر هي ذاتها الغازات التي وجدتها مركبة “فايكنغ” الفضائية على سطح المريخ.

نيزك مريخي عثر عليه في القطب المتجمد الجنوبي (1996) يحتوي كريات كربونية تبدو كبقايا كائن حي

كان الحجر يحتوي على كريات كربونية، وقد أخِذت منها عينات وأرسلت إلى جامعة ستانفورد، وعندما أجروا التحليل ثبت وجود مواد عضوية في العينات، وفي الحجر عثر أيضا على هياكل مجزأة شبيهة بدودة تحت التشريح، والتفسير الأبسط هو أن هذه بقايا كائن حي على المريخ، لقد كان ذلك اكتشافا مهما.

تردد صدى مؤتمر “ناسا” في أروقة السياسة، وتحدث الرئيس “كلينتون” أمام الإعلام عن حدث كونيّ هائل، إذا ما تأكد وجود حياة على المريخ، وقال إن كل القدرات العلمية والتكنولوجية والمالية مسخرة لإنجاح هذا البرنامج الكوني الفريد. لقد عاد المريخ إلى الواجهة من جديد.

هبوط المركبات الذكية.. رحلة البحث عن الماء بين الصخور

في منتصف 2003 قررت ناسا إطلاق “سبيريت” و”أبورتشونيتي”، وهما روبوتان يعملان بالطاقة الشمسية، ويستطيعان التحرك وتحريك الحجارة والتربة على سطح المريخ، وكان الهدف الرئيس هو البحث عن الماء، وفي يناير/كانون ثاني 2004 هبطت “سبيريت” على سطح الكوكب الأحمر في منطقة تدعى “فوهة غوسيف”.

وصول عربتي الفضاء سبيريت وأبورتشيونيتي إلى سطح المريخ في 2004

التقطت “سبيريت” صورا للتربة، ووجدت أن “فوهة غوسيف” تحتوي على قناة تصريف تمتد لآلاف الكيلومترات عبر التلال القديمة، وتبدو كما لو أنها تغذي بحيرة داخل الفوهة، ولكن من سوء الحظ أن لم تكن هنالك بحيرة، وإنما كل ما هناك هو المواد البركانية فقط. و”فوهة غوسيف” هذه هي سهل ملحي ناتج عن تدفق الحمم، لذا فإنه إذا كان قد حدث أي تسرب فسيكون مطمورا تحت المواد البركانية، كان شعورا محبطا.

أما “أبورتشونيتي” فلها حكاية أخرى، فقد أصابت عين الهدف عندما هبطت في مكان يدعى “فوهة النسر”، وارتطمت بنيزك كان قد سقط على سطح الكوكب في وقت سابق وأحدث فيه حفرة ضخمة، لقد كانت خارطة لتاريخ المريخ. مجموعة من الصخور الرسوبية والنتوءات الصخرية، هذا بالضبط ما يحب الجيولوجيون أن يروه.

دراسة التربة.. مفاجآت الحديد والأوكسيجين والهيماتيت

يبحث علماء الجيولوجيا هنا على كوكب الأرض عن طبقات الصخور الرسوبية التي تراكمت مع مرور الزمن، فهي الصفحات التي يتكون منها كتاب الأرض، فهنا عاشت الديناصورات عند هذا المستوى، وهنا انقرضت، وهنا بدأت حياة جديدة، كتاب التاريخ مفتوح لمن يريد أن يقرأه، هذا ما وجدته “سبيريت” على المريخ.

كانت المركبة مزودة بذراع روبوتي محمل بأجهزة مختلفة، وكان من السهل معرفة مكونات الصخور بالضبط، لقد عثر العلماء على كنز من المعلومات، إنها ليست صخورا بركانية، بل صخورا رسوبية تشكلت بفعل جريان الماء، إنه تسلسل رسوبي تقليدي شوهد في الكثير من المواقع على سطح الأرض، وهنا أصبح الأمر أكثر تشويقا.

مركبة “كيريوستي” تحفر عميقا في أرض المريخ بحثا عن الماء السائل تحت سطحه

كانت هنالك أجسام شبيهة بالخرز في التربة، وعند استخدام عدسات الأشعة تحت الحمراء تبين وجود الحديد والأوكسجين، ثم كانت الدهشة الكبرى باكتشاف الهيماتيت، وهو معدن يتشكل هنا على الأرض بفعل الماء، إذ يسهم جريان الماء في تشكل هذا المعدن الذي وجد منتشرا في كل مكان، إنه كنز.

“أبورتشونيتي”.. عاصفة تنهي مسيرة 15 عاما من الخدمة

كان الهدف من إرسال المركبات الجوالة إلى المريخ هو استكشافه والتجول على سطحه، وكان يتوقع أن تستمر مهمة “سبيريت” و”أبورتشونيتي” 90 يوما فقط، ولكن تبين أنهما قادرتان على العمل مدة أطول بكثير، فكانتا تنتقلان من فوهة إلى أخرى عشرات الكيلومترات، لقد قدمتا أكثر مما هو متوقع منهما بكثير. وفي نهاية المطاف تعطلت “سبيريت”، أما “أبورتشونيتي” فظلت تشع كالنجم الساطع، لا تتوقف عن الحركة أبدا.

“أبورتشونيتي” أعظم مركبات المريخ وأطولها عمرا (2004- 2019) وصاحبة الاكتشافات والصور المذهلة

لقد أثبتت “أبورتشونيتي” وجود ماء في الماضي، فهناك آثار معدنية تدل على وجود ماء كان جاريا في الماضي، ماء في شكل أنهار جارية ومياه جوفية. وفي 2012 حلّقت مركبة “كيريوسيتي” مجهزة بحفار ومحملة بمختبر كامل، وقد تحركت عجلاتها على سطح المريخ، وغيرت نظرة البشر له، إذ عثرت على الكربون والهيدروجين والأوكسجين والنيتروجين والفوسفور والكبريت، إنها مكونات الحياة.

قضت “أبورتشونيتي” 15 عاما على المريخ غطت خلالها بأدق التفاصيل 45 كم، وهو رقم غير مسبوق. وفي يونيو/حزيران 2018 كانت عاصفة رملية تهب من بعيد، فحجبت الشمس وانقطع الضوء عن الألواح الشمسية، وباءت بضعة شهور من المحاولات بالفشل، وفي 2019 خرجت العربة “أبورتشونيتي-253” من الخدمة.

أسرار المريخ.. كنوز معرفية متراكمة من تراث الرحلات

عندما نفكر في الرحلات السابقة سنجدها تراثا عظيما، فكل ما نعرفه عن المريخ هو محصلة سلسلة من المهمات التي توصل كل واحدة منها إلى اكتشاف متميز، لقد انتقلنا من الرحلة الأولى التي أرسلت 22 صورة إلى ما وصلنا إليه اليوم، لقد اكتشفنا أنه ليس عالما جافّا ميتا.

لو قدّر لأحدنا الوقوف على جبل أوليمبوس قبل 4 مليارات عام لرأينا محيطا ضخما، ولرأينا أرضا شاسعة، ولربما كانت تلك الأرض مكسوة بغطاء نباتي، لقد كان المريخ كوكبا دافئا وفير الماء جميلا، ولا يوجد سبب لافتراض أن الحياة لم تتطور على سطحه قبل 4 مليارات عام.

“فوهة غوسيف” تحتوي على قناة تصريف تمتد لآلاف الكيلومترات عبر التلال القديمة لسطح المريخ

وما زالت “ناسا” تحاول إثبات وجود حياة قديمة على سطح الكوكب الأحمر، ومن أجل هذا أرسلت آخر رحلاتها إلى هناك في عام 2020، وهي مركبة “بيرسيفيرانس” والتي هبطت على سطح المريخ يوم 18 فبراير/شباط 2021، في دليل آخر على أن طموح الإنسان وآماله لا تقف عند حد.


إعلان