“جيمس ويب”.. هكذا يظهر الكون حين ننظر إليه بعيون أخرى

منذ اللحظة الأولى التي ظهرت فيها صور تلسكوب الفضاء “جيمس ويب”، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي العربية بالجدل حول طبيعتها، حتى استخدم البعض لفظة “فوتوشوب” للتدليل على زيفها، مدللا على ادعائه بأن ناسا نفسها تعترف أن تلك الصور يجري العمل عليها وتُعدل قبل عرضها على الجمهور، بحيث تنقل واقعا غير الذي تلتقطه.
والمشكلة الرئيسية التي تواجهنا أثناء التعامل مع هذا الادعاء، هي أننا بحاجة للتأني قليلا والتعلم عن الأمر، قبل فهم الإجابة. ومع الأسف ليس ذلك من طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد السرعة كوسيلة للحياة.
عيون البشر.. عوالم طيفية يعجز الإنسان عن إدراكها
لنبدأ من سؤال بسيط: ما الذي تراه بعنيك الآن؟
ليكن المصباح أصفر اللون في سقف الحجرة مثلا، هذا اللون الذي وصل إلى عينيك من المصباح ليس إلا نزرا يسيرا جدا من الإشعاع، يسمى “طيف الضوء المرئي”. فالمستقبلات العصبية الموجودة في العينين البشريتين تنقسم لثلاث فئات، كل منها يتمكن من استشعار أحد الألوان (الأحمر أو الأخضر أو الأزرق)، وخلط الإدراك بين مستقبلات هذه الألوان معا ينتج كل الألوان الأخرى التي نعرفها، فالأبيض مثلا يعني اتحاد جميع ألوان الطيف، والأصفر هو خليط من الأخضر والأحمر.. وهكذا.

لكن العالم بالنسبة لنا -نحن البشر- يختلف عن العالم بالنسبة لبعض الطيور والحشرات مثلا، إذ يمتلك بعضها أربع فئات من مستشعرات الألوان تمكنها من رؤية ما يسمى “الأشعة فوق البنفسجية”، أما الثعابين فهي قادرة على رؤية “الأشعة تحت الحمراء”، ويعني ذلك أن هذه الطيور والحشرات والثعابين ترى ألوانا لا نراها ولا نتمكن من إدراكها.
وتقع جميع أنواع الإشعاعات كالأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية والضوء المرئي وغيرها في نطاق كبير يسمى “الطيف الكهرومغناطيسي”.
“جيمس ويب”.. ابتكار يعوض نقص الرؤية البشرية في السماء
لم يمتلك البشر في أجسامهم أجهزة لاستشعار هذه النطاقات الأخرى، لكنهم امتلكوا العقل الذي مكنهم من ابتكار أجهزة تعوّض ذلك النقص، ومنها تلسكوبات مثل “جيمس ويب” الذي يستطيع رصد المجرات والسحب النجمية في نطاق الأشعة تحت الحمراء، بل في أجزاء متنوعة داخل هذا النطاق.
ويستخدم التلسكوب أربع أدوات لهذا الغرض كل منها يختص بجزء صغير من نطاق الأشعة تحت الحمراء، فالكاميرا “نيركام” (NIRCam) مثلا تلتقط صورا في ما يسمى بنطاق الأشعة تحت الحمراء القريبة، أما الكاميرا “ميري” (MIRI)، فتلتقط الصور في نطاق الأشعة تحت الحمراء المتوسطة.
من أجل ذلك، فإنك ستجد أن فريق الباحثين الخاص بجيمس ويب قد أصدروا مثلا صورتين مختلفتين لمنطقة واحدة من السماء، تسمى “سديم القاعدة” (Carina Nebula)، ويقع على مسافة 7600 سنة ضوئية من الأرض! ففي الصورة الأولى، يبدو السديم بلون أقرب للون الرمادي، أما في الثانية فيبدو أقرب للون البرتقالي.
اختراق السدم.. تصوير في نطاقات الأشعة تحت الحمراء
هناك ملحوظة أخرى مهمة، وهي أن السديم في الصورة الرمادية يبدو أكثر شفافية، ويمكنك بوضوح أن ترى أعدادا كبيرة من النجوم الواقعة في خلفية السحب الغازية.
هذا في الحقيقة هو أهم ما يميز التقاط الصور في نطاقات الأشعة تحت الحمراء، فقد تمكن العلماء من اختراق السحب الغازية في الفضاء، ويشبه الأمر -لغرض التقريب- أن تنكسر عظمة الفخذ عند أحد الأطفال بينما يلعب الكرة مع أصدقائه، وحينما يذهب للمستشفى يطلب الطبيب تصويره بالأشعة السينية، ذلك لأن الأشعة السينية يمكن أن تخترق طبقات الجلد لتبين العظام.

الأمر كذلك بالنسبة لجيمس ويب، فاستخدام الأشعة تحت الحمراء يمكن العلماء من اختراق السدم مثل “القاعدة”، أضف لذلك أسبابا أخرى تدفع العلماء لالتقاط الصور في نطاق الأشعة تحت الحمراء، مثل أن الضوء المنبعث من المجرات الأولى التي تشكلت في الكون المبكر قد تحول إلى نطاق الأشعة تحت الحمراء، لأسباب تتعلق بتوسع الكون، وبالتالي ستمكننا الأشعة تحت الحمراء من رصد عدد هائل من المجرات أثناء نشأتها.
مواقع المجرات.. صور ملونة لأغراض علمية
يعيدنا ذلك إلى الغرض الرئيسي من التلسكوبات مثل “جيمس ويب”، وهو ليس التصوير كما ظن البعض، بل جمع البيانات من تلك الأجرام البعيدة، ثم نقلها إلى الأرض للعلماء باستخدام شبكة الفضاء العميقة (DSN) التابعة لوكالة الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا)، توجد ثلاثة مراكز تابعة لشبكة الفضاء العميقة، في كاليفورنيا في الولايات المتحدة ومدريد في إسبانيا وكانبيرا في أستراليا، تتوزع هذه المراكز جغرافيًا بحيث يكون أحدها دائما قادر على التقاط البيانات من جيمس ويب (وغيره) في أي وقت من اليوم. تأتي البيانات إلى الأرض بمعدلات بطيئة، عدد قليل من الميغابايت في الثانية. لكن سترقّى هذه المنظومة قريبا لتصبح أسرع بعشرات المرات.

حينما تصل البيانات للأرض فإنها لا تشبه أي شيء تعرفه، يحتاج العلماء للعمل عليها لمدة عدة أسابيع إلى شهر كي يصلوا إلى الصورة النهائية الملونة، وتلوين هذه الصور لا يكون لأغراض جمالية أو لإثارة انتباه الناس على فيسبوك أو تويتر، بل يريد العلماء تعيين لون محدد لكل عنصر في السديم مثلا، فالهيدروجين يعين عادة باللون الأحمر، والأخضر يشير إلى الأوكسيجين المتأين… إلخ.
أما في صور المجرات، فإن اللون الأزرق طول موجي أقصر، واللون الأحمر يعني طول موجة أطول، وكلما مالت المجرات للون الأحمر يعني ذلك أنها أبعد، حينما يقيس العلماء قدر التفاوت في درجات اللون الأحمر، ثم يقارنوه بصور أخرى معيارية، تتبين لهم المسافات إلى أبعد المجرات، ولهذا السبب يمكن للعلماء الحديث بثقة عن مجرة تبتعد 11 مليار سنة ضوئية، وأخرى تبتعد 13.2 مليار سنة ضوئية، يمكنك التفكير في الأمر على أنه ترجمة للغة لا تفهمها.
اختراق السحب الغازية.. قد يرى التلسكوب ما لا تراه العين
لا يهدف العلماء إذن إلى الحصول على صور جميلة، بل بيانات مهمة، وفي كل صورة تراها يكون هناك قدر هائل من البيانات لا تراه عينيك أو لا تهتم له، لكن في النهاية فإن هذه الصور التي تراها تمثل أجراما حقيقية بالفعل، إنها نفس السحب ونفس النجوم بينها ونفس التموجات، لكنها فقط ليست نفس الألوان بالضبط.
يشبه الأمر أن يقوم أحدهم باعادة نفس الأغنية أو المقطوعة الموسيقية ببيانو وغيتار وعود، في كل مرة يكون هناك اختلاف، لكن المقطوعة موجودة ولها سمات واضحة لا تختلف باختلاف الآلة، الأمر كذلك لو قررت التقاط صورة في نطاق الضوء المرئي وأخرى في نطاق الأشعة تحت الحمراء، لمصباح منير، أو شخص يمشي في الشارع، أو أي شيء آخر.

أما بالنسبة للسدم والمجرات، فإنها موجودة بالفعل وبهذا الشكل، وهذا أمر يمكن أن تراه بعينيك إن وددت، فقط قم بالحصول على تلسكوب، ثم وجّهه ناحية هذا السديم أو تلك المجرة، وستراها بحسب قدرات التلسكوب، لكنك لن تراها ملوّنة بل تظهر باللونين الأبيض والأسود، يحدث ذلك لأن هذه الأجرام بعيدة جدا لا يصل إلينا الكثير من ضوئها، وعيوننا تحتوي نوعين من الخلايا لاستشعار الأشياء، الخلايا المخروطية والخلايا العصوية، وتساعدنا المخروطية على رؤية الأشياء الساطعة والملونة التي تطلق الكثير من الضوء، أما العصوية فتستخدم في حالة الأجسام التي تطلق القليل من الضوء، لكنها لا تُظهر ألوانها، بل تبدو لنا بالأبيض والأسود، كأن ترى شيئا يتحرك في حجرة مظلمة بدرجة كبيرة.
تجميع الضوء.. سر المرشحات ذات الألوان المبهرة
لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يمكنك أن ترى الصور بألوانها الحقيقية، فقط تحتاج أن تشتري كاميرا وعدة أدوات لتطوير تلسكوبك، فمستشعر الكاميرا الخاصة بالتصوير الفلكي يشبه عيوننا في آلية التقاطه للصور، لكن مع فارق واحد، وهو أن عيوننا ذات قدرة بصرية لحظية ترى المنظر على ما هو عليه دون الحاجة إلى تجميع الضوء. أما المستشعر الخاص بالكاميرا فيمكن أن يلتقط صورة في ساعة أو اثنتين أو عشرة أو أكثر، في أثناء ذلك يجمع قدرا أكبر من الضوء، مما يُظهر الأجرام السماوية بالألوان.

ولجعل الصورة حقيقية أكثر، يستخدم الفلكيون ما يعرف بالمرشحات الضوئية (الفلاتر) ذات الألوان المختلفة، ويعمل كل منها بحساسية خاصة بطول موجي معين، فتلتقط الصورة عدة مرات، لكن كل مرة بمرشح مختلف، ثم تجمع هذه الصور جميعا، فتكون النتيجة صورة ملونة مبهرة كالتي رآها تلسكوب جيمس ويب للعنقود المجري أو لسديم عين القطة أو لسديم النسر أو لغيرها من أجرام السماء السحيقة.
المصادر
1- The James Webb Space Telescope Instruments
https://www.nasa.gov/mission_pages/webb/instruments/index.html
2- Webb Reveals Cosmic Cliffs, Glittering Landscape of Star Birth
https://esawebb.org/news/weic2205/
3- Webb Delivers Deepest Infrared Image of Universe Yet In Special Briefing
https://esawebb.org/announcements/ann2207/
4- Webb Conversations: It’s All About Infrared – Why Build the James Webb Space Telescope
https://www.nasa.gov/content/goddard/webb-conversations-its-all-about-infrared-why-build-the-james-webb-space-telescope/