“نحن والفيروسات”.. صديق يفتك بنا وعدو يمنحنا أنفاس الحياة

توجد الفيروسات في كل مكان من هذا الكون الفسيح، وهي مكون أساسي في الكائنات الحية، إذ تعيش آلاف الأنواع منها داخل أجسامنا، ويرجح أن كلا منا له فيروساته الخاصة به. وتعمل الفيروسات والبكتيريا ضمن توازن دقيق عجيب، بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى، وإلا فالأمراض والأوبئة هي المصير المحتوم.

في هذا الفيلم الذي عرضته قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “نحن والفيروسات”، سوف نتعرف على هذه الكائنات الدقيقة التي تتحكم في كافة مناحي النشاط الحيوي على هذه الأرض. ونتعرف على العوامل والمحددات التي تبقيها ضمن دائرة التوازن المحمود.

جيوش الفيروسات.. دروع تصد البكتيريا الخطرة وتصنع الحياة

في جزيرة كوراساو قبالة سواحل فنزويلا، يقوم علماء الأحياء البحرية بفحص التوازن الضعيف للشعاب المرجانية، وقد اتضحت لهم أهمية الفيروسات خلال السنوات العشر الماضية فقط، فالفيروسات تبقي مجتمع البكتيريا تحت السيطرة إلى حد ما، وتحتوي الشعاب السليمة على نصف مليون إلى مليون بكتيريا في المليمتر المكعب الواحد، وعشرة أضعافها من الفيروسات الطليقة.

وتحافظ الفيروسات على صحة الشعاب المرجانية، فهي تقضي على البكتيريا الخطرة، ولها دور في الحفاظ على التوازن، وتلتصق الشعاب بقوة في أعماق المحيط، وهي تحتاج إلى حلفاء لتبقى حية، فالطحالب تزودها بالطاقة من ضوء الشمس، وتتلقى بالمقابل الغذاء، بينما تحافظ الفيروسات على البكتيريا تحت السيطرة.

تحتوي الشعاب السليمة على نصف مليون إلى مليون بكتيريا في المليمتر المكعب الواحد

توجد عشرات مليارات الفيروسات في لترٍ واحد من مياه البحر، ويسمي العلماء هذا المجتمع “هولوبايوند”، وهو موجود في جميع الكائنات الحية حتى البشر، فالبكتيريا والفيروسات مهمة جدا في الجهاز الهضمي، ولولاها فلا وجود للحياة، وتتحالف الفيروسات مع الكائنات الحية لحمايتها من البكتيريا المعادية، وتهاجم عند الضرورة.

ويسمى الشكل الأكثر شيوعا للفيروسات “العاثيات”، ويطابق كل نوع منها بكتيريا معينة، وتتكاثر العاثيات باختراق غشاء الخلية البكتيرية، وإطلاق حمضها النووي داخلها، وتنمو سلاسل الحمض النووي لتشكل عاثيات جديدة، فتخترق جدار الخلية إلى الخارج لتغزو خلايا بكتيرية أخرى.

توازن القوى.. كلمة السر في عوالم الكائنات الحية

تتعرض 75% من الشعاب في العالم للخطر، بسبب أن المجتمعات البشرية الكثيفة تنتج مياه صرف كثيرة تخلّ بالنظام البيئي، مثل سفن الركاب والفنادق والمستوطنات الكثيفة، وكلما نقص تركيز الفيروسات تنمو البكتيريا العدائية وتهاجم الشعاب المرجانية، كما أن ارتفاع درجات الحرارة يخل بالتوازن بين الميكروبات الأساسية لنمو الشعاب.

تفرز الشعاب المرجانية إفرازات مخاطية تعيش فيها الفيروسات التي تهاجم البكتيريا المعادية، وهذه الأغشية المخاطية موجودة في معظم الحيوانات بما في ذلك البشر، وتقوم بالوظيفة نفسها. ولا يمكن رؤية عالم الفيروسات إلا من خلال المجهر الإلكتروني، ومع ذلك فهي تتحكم بكل مظاهر الحياة، بينما يمكن رؤية البكتيريا تحت المجهر العادي، فهي أكبر من الفيروس بمئة مرة تقريبا.

تفرز الشعاب المرجانية إفرازات مخاطية تعيش فيها الفيروسات التي تهاجم البكتيريا المعادية

والفيروسات هي المكون الأكبر في جسم الكائن الحي، فلا يستطيع العيش في عزلة عنها، ومن المحتمل أن كل إنسان يحمل فيروسات وعاثيات خاصة به مختلفة عن غيره، ومن هذه الأنواع ينتج آلاف الأنواع الجديدة في أكثر من 400 فئة متنوعة.

وكلمة السر هي التوازن، فهنالك عدد من الفيروسات الموجودة في الكائن الحي، وهنالك أيضا عدد من البكتيريا، وهنالك تفاعل دقيق بينها وتشابك معقد، وأي اختلال في هذه التفاعلات يؤدي إلى حدوث مشكلة. والفيروسات مشاركة في تكوين الحياة منذ البداية، فمنذ لحظة الولادة يحصل عليها الجنين من أمه، وتدعمه العاثيات لينمو.

“آكلات البكتيريا”.. علاج الأمراض الفتاكة بالعاثيات

أصبح العلاج بالعاثيات شائعا لمقاومة أمراض متعددة، حين لم تعد المضادات الحيوية قادرة على كبح جماح البكتيريا المتطورة، مثل التهابات العين والحنجرة والجيوب، ومشكلات الأمعاء والتهابات الجروح والمسالك البولية.

لكل بكتيريا خصم معين من عالم الفيروسات، ويقوم العلماء بتطوير واستنساخ الفيروس المناسب لكل نوع بكتيريا ضارة، وبعد زراعة البكتيريا يهاجمونها بأنواع مختلفة من العاثيات، لتحديد النوع المناسب لكل بكتيريا، والعلاج بالعاثيات موجود منذ مئات السنين، ولكن تطوير المضادات الحيوية صناعيا جعلها الأكثر استخداما والأوفر ربحية.

يطلق على العلماء على العاثيات لقب “آكلات البكتيريا” لقدرتها على كبح جماح البكتيريا المتطورة

فقد اكتشف “فيليكس ديريل” تلك الظاهرة، وأطلق على تلك العاثيات “آكلات البكتيريا”، واستخدمها في بعض الحالات السريرية فنجحت، وقد استُخدمت في الهند لعلاج الكوليرا، واستمر استخدامها في الاتحاد السوفياتي، وأصبحت جورجيا وعاصمتها تبليسي منذ ذلك الوقت مركزا دوليا لإنتاج العاثيات وتطوير بنك للعاثيات للقضاء على أطياف واسعة من البكتيريا، والشفاء من أمراض عدة.

“الأمبولا”.. صدَفة تخفي أقدم أشكال الحياة

قلّما تكون للعلاج بالعاثيات آثارٌ جانبية، ولكن هنالك حاجة لمعايير دولية موحدة للموافقة على استخدامها كعقاقير صيدلانية. ولأن البكتيريا دائمة التحور، فإننا نضطر إلى تغيير العاثيات التي تقتلها من فترة لأخرى، وهذا هو التحدي الكبير، وتجد الفيروسات طرقا شتى للبقاء حية، فإذا لم تفلح في التكاثر داخل الخلية لوجود آليات مناعة، فإنها تندمج في المادة الوراثية للخلية.

والعلم الحديث منقسم حول ما إذا كانت الفيروسات هي أقدم أشكال الحياة، ويبحث العلماء في مناطق البراكين الخطرة عن النشأة الأولى للحياة، فقد اكتشفوا أقدم الفيروسات “الأمبولا” التي تحمي مادتها الجينية بصدفة كبسولية قوية تشبه القنينة.

فيروسات “الأمبولا” هي أقدم الفيروسات المكتشفة وهي تحمي مادتها الجينية بصدفة كبسولية قوية تشبه القنينة

إنه لأمر محير، كيف تحمي الأمبولا خصائصها البيولوجية في بيئة عدوانية جدا مثل البراكين، والخاصية الأخرى غير المتوقعة هي التنوع المورفولوجي لتلك الفيروسات، إذ لم يُرصد في أي مكان آخر في الطبيعة.

على مدى ملايين السنين أحدثت الفيروسات طفرات، وطوّرت أنواعا هائلة العدد من الأطياف المختلفة بعمرٍ يقترب من 5 مليارات سنة، ويرجح العلماء أن الفيروسات هي التي كانت في بدء الحياة وهي من يتحكم بها.

فيروسات الأوبئة.. هلاك خفي ينتقل من الحيوان إلى الإنسان

في منطقة وادي موسى جنوب الأردن، يرى العلماء أن سكان هذه المنطقة الأوائل هم أول من خلق بيئة لنمو الأنواع الخطرة من الفيروسات التي أحدثت الأوبئة والأمراض، فقبل عشرة آلاف عام سكن هذه البقعة الضيقة أكبر تجمع بشري يقدر بحوالي ألفي نسمة، واعتمدوا الزراعة والرعي في معاشهم، الأمر الذي طوّر أنواعا جديدة من الفيروسات الخطرة التي تنقل الأوبئة من الحيوان إلى البشر.

وفي المومياوات وجد العلماء أقدم الفيروسات التي أحدثت الأوبئة التي تؤثر فينا حتى الآن، والسؤال الذي يحاول العلماء الإجابة عنه هو: لماذا تنتقل الفيروسات من الحيوانات إلى البشر؟ ولماذا تؤثر في البشر في الوقت الذي لا تُحدث فيه ضررا للحيوان؟

السكان الأوائل لمنطقة وادي موسى بالأردن كانوا أول من خلق بيئة لنمو الأنواع الخطرة من الفيروسات

يرى العلماء أن أول جائحة حصبة أصابت مجتمعا بشريا كانت بسبب فيروس انتقل من الماشية، وحتى الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة 50 مليون إنسان حول العالم، فقد كانت عن طريق انتقال عدوى من جنود أمريكيين التحقوا بالحرب العالمية الأولى في أوروبا، وكان معظم المصابين منهم على اتصال وثيق بالماشية.

أمراض القرن القاتلة.. اجتياح الأمراض البكتيرية للأرض

في عشرينيات القرن الماضي لاحظ العلماء عددا من الأمراض البكتيرية، ورصدوا عددا أكبر من أمراض لا تسببها البكتيريا، ولكن استطاعوا أن يربطوا بين انتشارها وبين مزارع كبيرة للماشية.

وهناك فيروس نقص المناعة “الإيدز” الذي انتقل من قرد الشامبانزي للإنسان عن طريق الصيد، ففي 1981 حار الأطباء من انتشار مرض غامض في مجتمعات الشواذ، حيث ينهار جهاز المناعة لسبب غير واضح، ثم يأتي الموت بعد محنة طويلة من المعاناة.

وبعد عامين اكتشف العلماء الفيروس المسبب “إتش آي” (HI)، الذي يستقر في جهاز الخلايا المناعية ويسبب شللها، وانتشر الوباء في أفريقيا بمعدلات تنذر بالخطر، إذ لا يُكتشف إلا بعد فترات طويلة من الزمن، مما أتاح له الانتشار المريح والكثيف، واستمرت المحاولات لأكثر من عقد من الزمن قبل تطوير لقاح فعال ضده.

سباق الإنسان مع الأمراض الفتاكة… مخاوف المستقبل

كان الإيدز مفاجأة عالمية كبيرة، مع أنه كان محدود الانتشار، مما دفع العلماء إلى التفكير في وباء فيروسي عالمي قادم، وقد لاحظ العلماء أن الفيروسات غير المعروفة سابقا يمكن أن تؤدي إلى تفشي الأمراض بشكل مفاجئ، ويعتبر فيروس “إيبولا” في غرب أفريقيا أوضح مثال على مخاوف العلماء.

تحمل الخفافيش فيروس كورونا، لكنها متعايشة معه تماما بحيث لا يشكل لها أدنى خطر

يعاني مصابو إيبولا من ارتفاع حاد في الحرارة وآلام شديدة في البطن ونزيف داخلي وتلف في الأعضاء، ويموت حوالي 90% خلال عشرة أيام، وما يزال منشأ إيبولا لغزا حتى اليوم، ويرى العلماء أن الخفافيش ربما تكون حاضنة الفيروس، فهي تحتاج إلى بيئة حيوية للتكاثر، وإذا لم تجد ما يكفي فإنها تتحور.

أما فيروس كورونا فتحمله الخفافيش، ولكنها متعايشة معه تماما، بحيث لا يشكل لها أدنى خطر، ولكن بمجرد انتقالها للإنسان فإنها تفتك به. ففي فيينا وأثناء ربيع 2021 سجلت ألف إصابة يوميا بفيروس كورونا المستجد، وكان التبليغ عن المخالطين والحجر السريري هو العامل المساعد للحد من الانتشار، ففيروس كورونا يتحور بسرعة، مما يعني أنه سيرافقنا لفترة، حتى مع فعالية اللقاح.

اختلال التوازن البيئي.. كوكب يتداعى كله لآلام بعضه

إن ازدياد الكثافة السكانية في أفريقيا، وتغيرات المناخ والفقر البيئي، كلها عوامل تؤدي إلى نفوق الحيوانات، مما يؤدي إلى هجرة أنواع من الفيروسات إلى البشر، مسببة الأوبئة الخطيرة.

كما أن الشركات العالمية الكبرى تستولي على الأراضي الخصبة في غرب أفريقيا، وتحولها إلى مزارع ضخمة، لإنتاج السلع التي سوف تتكدس على أرفف المحلات في الدول الغربية، وهم يغفلون أو يتغافلون عن حقيقة أن إهلاك تلك البيئات يضر بالجميع.

في المناطق المكتظة، يؤدي نفوق الحيوانات إلى هجرة أنواع من الفيروسات إلى البشر، متسببة بالأوبئة الخطيرة

وفي أكبر الغابات المطيرة غرب أفريقيا، يحاول العلماء الإبقاء على سلامة التوازن البيئي، لضمان عدم انتقال الفيروسات إلى الإنسان، فتأمين حياة الأنواع المتعددة من الحيوانات هناك يحافظ على أنواعها، أما صيدها أو مجرد إزعاجها فيؤدي إلى المرض والموت، وبالتالي هجرة الفيروسات إلى البشر وحدوث الأوبئة.

فكلمة السر تكمن في الحفاظ على التنوع والتوازن، من أكبر الثدييات إلى أصغر الفيروسات، ونحن سلسلة من هذه الحلقة الكبيرة، وأي كسر في هذه السلسلة سيضر الجميع، بما فيهم البشر، وهذا هو مضمون برنامج “صحة واحدة”، للبيئة والإنسان والحيوان.

إن الفيروسات بدايةُ كل حياة، ولكنها تنهيها أيضا إذا واصلنا العبث بالنظام البيئي المتوازن.