يوم القيامة الإلكتروني.. حين يلتهم الوحش السيبراني اقتصاد العالم

لا تكاد تتوقف التهديدات اليومية التي تلاحق البشرية في عالمنا اليوم، بداية بالكوارث الطبيعية المرتبطة بالتغيرات المناخية، مرورا بأخطار اصطدام الكويكبات القادمة من الفضاء بالأرض، وصولا إلى استعمال الأسلحة النووية، ونشوب حرب عالمية ثالثة.
وكان علماء نوويون حذروا منذ العام 2017 من أن ساعة “يوم القيامة” الرمزية تقترب أكثر من ساعة الصفر بدقيقتين ونصف الدقيقة، وهي أقرب نقطة يحددها العلماء منذ 64 عام، بسبب أخطار الأسلحة النووية وتغير المناخ، وانتخاب “دونالد ترامب” آنذاك رئيسا للولايات المتحدة.
وتبدو التحديات التي يعيشها العالم اليوم أكبر من تلك المطروحة في 2017، فالتدهور المناخي ازداد حدة، وخطر اندلاع النزاع النووي أصبح قريبا أكثر من أي وقت مضى، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، والتجارب النووية لكوريا الشمالية. كما أن “طائرة يوم القيامة” حلقت فوق سماء موسكو، و”غواصة يوم القيامة” الروسية دخلت الخدمة.
ووسط كل هذه المخاوف والتهديدات، يبرز كذلك الانهيار التكنولوجي أو الإلكتروني الذي قد يكون أيضا مكلفا للبشرية، بالنظر إلى تعلق حياتنا اليومية بشكل كبير بشبكات الإنترنت والاتصالات، حتى أن تخيل عالم بدون تكنولوجيا وما قد يسببه ذلك من اضطرابات وفوضى، تحول إلى “يوم قيامة” إلكتروني.
فما هي إذن السيناريوهات والتوقعات التي تنبأت باحتمال وقوع الانهيار التكنولوجي؟ وما هي الأسباب التي قد توصلنا إلى هذا اليوم المشؤوم؟ وهل هناك وسائل وطرق ناجحة لحماية هذه المنظومة الرقمية التي نستعملها يوميا وتجنب هذه التهديدات المستقبلية؟
انهيار الإنترنت.. شبح مخيف في عالم تخنقه الأزمات
ما زال العالم يعيش على وقع الصدمات والكوارث منذ دخول عام 2020، الذي انتشرت خلاله جائحة كوفيد 19، وعطلت مسار الحياة الطبيعي لفترات عدة. وبينما كان الجميع يطمح للخروج من نفق هذه الجائحة، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، ليدخل معها العالم مجددا في أزمة اقتصادية، تسببت في ارتفاع أسعار الطاقة، وتسجيل مستويات تضخم عالية، تزامنت مع موجات جفاف غير مسبوقة، أيقظت شبح الجوع في عدد من الدول.
ولا شك أن الحديث عن أزمة أخرى في 2023 سيكون مأساويا، خصوصا إذا تعلق الأمر بالجانب التكنولوجي الذي يعول عليه لتحقيق نقلة نوعية لمستقبل الإنسانية. وقد حذر خبراء وباحثون منذ سنة 2001، من احتمال انهيار الإنترنت في المستقبل، بسبب الضغط الكبير الذي ستتعرض له الشبكة، إذ يلج إليها اليوم أكثر من 5 مليارات شخص، وفقا لآخر إحصائيات العام 2022، وهو ما يمثل حوالي 64% من إجمالي سكان العالم الذي تجاوز الـ8 مليارات نسمة.
لكن باحثين يستبعدون هذا الاحتمال في الوقت الراهن بسبب تطور إمكانيات الشبكة مع ازدياد المستخدمين، كما أن أي انهيار محتمل لن يكون شاملا، بل جزئيا فقط، وسيؤثر على جزء من الشبكة لا على النظام كله. وقد عايشنا في النصف الثاني من سنة 2022 كيف أثر توقف جزئي لعدد من شبكات التواصل الاجتماعي مثل واتساب وفيسبوك وإنستغرام دام ساعات قليلة، على ملايين المستخدمين حول العالم.
تدفقات الرياح الشمسية.. خطر يهدد الأقمار الصناعية والكهرباء
إذا كان خبراء التكنولوجيا يستبعدون أي انهيار شامل لشبكة الإنترنت في الوقت الراهن، فإن الخطر الكبير الذي يصعب التنبؤ به قد يأتي من خارج الكرة الأرضية، وبالضبط من الشمس التي تضيء سماءنا يوميا، وتبعث الدفء الذي يضمن بقاءنا على قيد الحياة.
وتنفث الشمس عادة جزيئات عالية السرعة عبر الفضاء وبين الكواكب، وهي عبارة عن تدفقات كبيرة للبلازما تسمى “الرياح الشمسية”، وقد تصل قوتها لما يعادل 20 مليون انفجار نووي. ويمكن لهذه الانفجارات القوية أن تصل تداعياتها إلى الأرض، رغم وجود المجال المغناطيسي والغلاف الجوي الذي يحميها عادة من هذه الرياح، لكن قوتها يمكن أن تكون مدمرة إذا تجاوزت المعدلات الطبيعية.
ويرى خبراء أن الأقمار الصناعية خارج الغلاف الجوي ستكون الأكثر تأثرا، تليها شبكات الكهرباء، مما سيؤدي إلى انهيار أنظمة الاتصالات والملاحة.
ويعتبر هذا السيناريو -في حال حدوثه- كارثيا بالنسبة للبشرية، خصوصا أن التنبؤ به يبقى صعبا للغاية، ويستحيل تفادي عواقبه، رغم أن بعض العلماء يستبعدون حدوثه بالحدة التي قد تدمر كليا شبكات الكهرباء والاتصالات والإنترنت.
ويشير باحثون في علم الفلك، إلى أن الشمس تعيش دورة نشاط مدتها 11 عاما تقريبا، ولاحظوا أن أنشطتها تزداد حدة منذ العام 2019، وهو ما يدفعهم بالتنبؤ باحتمال بلوغ ذروة نشاطها ما بين 2024-2026.
قراصنة الويب.. حرب رقمية بين الدول والمخربين
بعيدا عن هذه التنبؤات الفلكية المخيفة التي يصعب التكهن بها أو بحجم أضرارها على شبكات الاتصالات، يبقى قراصنة الإنترنت الأقرب في الوقت الراهن للإطاحة بالشبكة العنكبوتية وإخراجها من الخدمة، عن طريق اختراق الخوادم الرئيسية للشبكة.
ويصعب تصور الانهيار الشامل للإنترنت بسبب عمليات القرصنة الإلكترونية، لكن احتمال حدوث انهيار جزئي يبقى قائما بشكل كبير، أمام التحول والتنافس الذي يشهده هذا المجال بين المخترقين، وتطور الأمر أحيانا إلى حروب غير مباشرة بين الدول والحكومات. ولا يقتصر نشاط قراصنة الإنترنت على اختراق أجهزة الحاسوب ومواقع الإنترنت وسرقة بيانات الأفراد والمؤسسات، بل يصل إلى تهديد منشآت حيوية للدول كالمفاعلات النووية ومحطات الكهرباء.
وهذا ما يثير القلق أكثر من أي وقت مضى، لأن هذه المنشآت الحيوية أصبحت تعتمد في تسييرها وتشغيلها على الأنظمة المعلوماتية المرتبطة بالإنترنت، مما يسبب لها هشاشة كبيرة في حالة اختراقها من قبل “قراصنة الويب”. ولم تعد هذه “الأسلحة السيبرانية” تقل خطورة عن الأسلحة التقليدية، فهي تستطيع تدمير البنية التحتية للمياه والطاقة أو المستشفيات، وإخراجها من نطاق الخدمة كما تفعل الصواريخ والقنابل.
وكانت إحدى أكبر الهجمات الإلكترونية في العالم قد تسببت سنة 2017 في تعطيل عشرات الآلاف من أجهزة الحاسوب في 100 دولة بحسب الشرطة الأوروبية “يوروبول”. وتسبب برنامج الفدية الخبيثة “واناكراي” آنذاك في تضرر خدمة الصحة العامة في بريطانيا والنظام المصرفي الروسي، وعدد من المؤسسات والمنظمات خصوصا في أوروبا، بعد استغلال ثغرة في أنظمة تشغيل الحواسيب “ويندوز”، سُرّبت في وثائق سرية لوكالة الأمن القومي الأمريكية.
“إنترنت الأشياء”.. مفتاح المخترقين إلى بيوتنا
لا شك أن الهجمات الإلكترونية الكبرى التي عاشها العالم ومن بينها الهجمات ببرامج “الفدية”، قد تسببت في أضرار كبرى لعدد من المؤسسات والشركات والأشخاص، وقدرت خسائرها بملايين الدولارات، لكنها في الأخير تستهدف أجهزة الحاسب الآلي في جل الحالات، مما يعني أن الأضرار تقتصر على هذه الأجهزة ومحتوياتها، لكن مع التطور الحاصل اليوم وظهور إنترنت الأشياء، وغزو الذكاء الاصطناعي للمنازل والسيارات، فإننا سنشهد خسائر أكبر وأوسع من السابق.
وتتوقع المجلة المتخصصة “سايبر سيكيورتي فينتشرز” (Cybersecurity Ventures) أن يخسر العالم بحلول العام 2025 ما يعادل 10.5 تريليونات دولار بسبب برامج الفدية الإلكترونية لوحدها، وتتسارع وتيرة التعرض لهذه الهجمات الإلكترونية، ليصل عددها إلى هجمة واحدة كل ثانيتين في أفق العام 2031.
وقد تصبح المنازل أو السيارات عرضة للسطو بسبب أنظمتها الإلكترونية التي ستصبح أيضا قابلة للاختراق، وسيتحول هذا التطور التكنولوجي إلى مصدر هشاشة، ويفتح الباب على مصراعيه أمام المخترقين، للبحث أكثر في الثغرات الأمنية في هذه الأنظمة الذكية.
وينتظر أن يرفع عدد أجهزة إنترنت الأشياء في سنة 2025 ليصل إلى 22 مليار جهاز مقابل 10 مليارات جهاز سنة 2020، مما يعني أن هجوما محتملا قد يصيب العالم بالشلل، مع احتمال انهيار منظومة الإنترنت بأكملها.
وقد عاشت الولايات المتحدة سنة 2016 هجوما مصغرا استهدف أدوات إلكترونية منزلية بسيطة متصلة بالإنترنت، ثم استغلت لهجمات أكبر على منصات إلكترونية معروفة مثل تويتر ونتفليكس، وتسببت في انقطاع خدمات مواقع أخرى لساعات.
انهيار الأنظمة المالية.. هاجس يؤرق مؤسسات الأمن السيبراني
لم تتوقف يوما التحذيرات من احتمال انهيار النظام المالي العالمي القائم حاليا، وتزايدت هذه التحذيرات بعد أزمة كوفيد 19، وبعد نشوب الحرب في أوكرانيا وما تبعها من أزمة اقتصادية تأثر بها بالأساس قطاع الطاقة، وأدت إلى موجة تضخم غير مسبوقة. لكن انهيار الأنظمة المالية الحالية قد لا يأتي بالضرورة بسبب أزمة اقتصادية تقليدية، بل قد يكون ذلك بسبب اختراقات إلكترونية، أو هجمات سيبرانية تقوض الاستقرار المالي والخدمات المالية الرقمية التي أصبحنا نعتمد عليها بشكل يومي.
فقد أصبح اليوم الأمن السيبراني هاجسا يؤرق بال الجهات الرقابية المشرفة على المؤسسات المالية حول العالم، فحجم الأضرار التي يمكن أن تسببها الهجمات الإلكترونية أصبح كبيرا، وقدرت الخسائر العالمية الناجمة عن هذه الهجمات بـ6 تريليونات دولار في عام 2021، وفقا للاتحاد الدولي للاتصالات.
وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن عدد الهجمات السيبرانية تضاعف 3 مرات على مدار العقد الماضي، وتستهدف بالأساس الخدمات المالية. ويقدر البنك الدولي بأن قطاع الخدمات المالية يشهد هجمات تفوق القطاعات الأخرى بنسبة 65%، ويمكن -بحسب عدة دراسات- أن يكلف توقف سير العمل في بنك لمدة ساعة ما لا يقل عن 300 ألف دولار في المعدل المتوسط، بينما يؤدي خرق البيانات إلى خسائر قدرها 6 ملايين دولار.
“الهاكرز”.. لصوص البنوك الجدد يسببون الهلع المصرفي
يقول خبراء إن خطر انهيار النظام المالي العالمي بسبب المخترقين أصبح مرجحا بشكل كبير، سواء بسبب الهجمات الصغيرة المتكررة التي تفقد العملاء الثقة في الأنظمة المصرفية وأمانها، أو عن طريق استغلال الأزمات وبث رسائل مضللة لإحداث “الهلع المصرفي” كما وقع في بلغاريا عام 2014 مع بنك “فيبانك” (Fibank).
كما يمكن أن تستهدف هذه الهجمات الإلكترونية البنية التحتية المالية، من خلال أنظمة الدفع العالمية وأنظمة المراسلة والبورصة وغيرها، وهي الأخطر على الإطلاق، لأنها قد تسبب في توقف الخدمات المصرفية على نطاق واسع.

كما استطاع “لصوصُ البنوك” الجدد في السنوات الماضية السطوَ على ملايين الدولارات في عدد من الدول، سواء من خلال اختراق الشبابيك الإلكترونية، أو الحسابات الخاصة بالأفراد والشركات، وكذلك النظام العالمي للاتصالات المصرفية، المعروف اختصارا باسم “سويفت”، إذ تعرض هذا النظام سنة 2016 لهجمة ضخمة من قبل قراصنة من كوريا الشمالية، وقد سطوا خلالها على 81 مليون دولار من البنك المركزي في بنغلاديش.
وغالبا ما تتصدر روسيا والصين الهجمات الإلكترونية التي تستهدف النظام المالي العالمي، بالإضافة إلى الولايات المتحدة التي أنفق نظامها المصرفي في 2020 أكثر من 23 مليار دولار على الأمن السيبراني. وقد اتُهمت واشنطن في 2017 بالتجسس على المعاملات المالية حول العالم عبر نظام “سويفت”، من خلال أدوات صُممت من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية، قبل تسريبها وبيعها في السوق السوداء، لتستغل في اختراق الدفاعات الأمنية في أنظمة الاتصالات المصرفية العالمية.
جيش الخبراء.. إجراءات الوقاية ضد السيناريو الأسود
ينتظر مجال الأمن المعلوماتي والمشتغلون به مستقبلا واعدا، إذ سيكون تأمين الأنظمة الإلكترونية ضد الهجمات والقرصنة أحد أبرز التحديات التي ستواجه تطور كثير من المجالات، خصوصا مع الاعتماد المتزايد على الهواتف الذكية، ومنصات التخزين السحابية، واستعمال تقنيات الذكاء الصناعي في الأدوات المنزلية والكهربائية والصحية والرياضية.
ويتوقع خبراء أن تحتاج كل دول العالم إلى جيش من خبراء الأنظمة الإلكترونية، بحيث يكون قادرا على تصميم برامج وأنظمة دون ثغرات، ولديه الكفاءة المطلوبة من أجل التدخل لمواجهة أي هجمات محتملة وإيقافها والتتبع العكسي لها، تماما كما تفعل الجيوش التقليدية. خصوصا أن عدد الأجهزة المتصلة بالإنترنت تضاعف في السنوات الماضية، وارتفعت وتيرة رقمنة الخدمات المصرفية والعمل عن بعد.
وتشمل الإجراءات الاستباقية الكفيلة بتفادي السيناريو الأسود في عالم الإنترنت تأهيل الجانب التقني بالأساس، من خلال التحديث الدائم والمستمر لأنظمة التشغيل -سواء في المنازل أو أماكن العمل- وتشفير البيانات، والتأكد من الأفراد والجهات المستخدمة لها، لجعل عمليات الاختراق أكثر صعوبة، والحرص بشمل دائم على الاحتفاظ بنسخ احتياطية من البيانات المهمة على أجهزة خارجية، أو إنشاء شبكات احتياطية بديلة لاستعمالها في حال توقف الخدمة في الشبكة الرئيسية، خصوصا إذا تعلق الأمر بالشبكات الحيوية للطاقة أو الاتصالات أو الإنترنت.