“في باطن الأرض”.. أسرار النشأة المدفونة بين النيازك والأجرام القريبة

هذا الكوكب الذي نعده موطنا لنا هو أبعد ما يكون عن الهدوء بزلازله وانفجاراته البركانية وأمواج تسونامي، إن الأرض كوكب خطير لا يمكن التنبؤ به، وسنذهب بجولة مع باحثي معهد باريس لفيزياء الأرض في مهمة لمراقبة الظواهر الطبيعية، منذ خلق الأرض وحتى يومنا هذا.

يحاول العلماء في كل أنحاء الأرض أن يفهموا بشكل أفضل كيف يؤدي كوكبنا وظائفه، وكيف يتطور، ويدرسون الهواجس الطبيعية للتحذير من الأخطار الوشيكة التي تتربص بكوكب الأرض وما وراءه.

وفي الفيلم الوثائقي “في باطن الأرض.. البنية” (سلسلة من جزئين) الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، نشارك الحياة اليومية لعلماء معهد الفيزياء، ونشاركهم الشغف بعلوم الأرض والكواكب، فمهمتهم هي مراقبة ودراسة الظواهر الطبيعية وخاصة الأحداث الزلزالية والبركانية.

وتكمن مهمتهم الأساسية في فهم كيفية عمل الأرض واكتشاف أخطارها المستقبلية وتطورها، حتى إنهم يذهبون إلى أبعد الحدود من خلال إرسال بعثات إلى كوكب المريخ. ويتناول الوثائقي 3 ظواهر علمية، وهي التجربة الزلزالية للبنية الداخلية، ودراسة النيازك، والغلاف الجوي الطبقي.

“إنسايت”.. مهمة لنبش أسرار الكوكب المتعطل

نبدأ مع الزلازل البركانية، فللمرة الأولى على الإطلاق يعمل العلماء والمهندسون الفرنسيون على مشروع دولي جديد شديد التعقيد، وهو إرسال مقياس زلازل إلى كوكب المريخ، بالتعاون مع وكالة ناسا، في مهمة أطلق عليها اسم “إنسايت”.

يقول مدير مشروع التجربة الزلزالية للبنية الداخلية “فيليب لوديه”: إنه مشروع مريخي، أي أن علينا الذهاب إلى المريخ لتطبيق أداة مقياس الزلزال من أجل إجراء البحوث الزلزالية هناك، وعلى مدار سنوات عمل المركز الوطني للدارسات الفضائية -إلى جانب معهد باريس لفيزياء الأرض- على تصميم مقياس زلزال كوكبي.  يُمكننا علم الزلازل من دراسة باطن الأرض وتوقع الزلزال، وقمنا بذلك على القمر في بعثة “أبولو”، لكننا لم نصل للمريخ بعد.

قبل 5 مليارات عام كان لكوكبنا 3 إخوة، هم عطارد والزهرة والمريخ، ولكن لنفهم الأرض علينا فهم إخوتها، فدراسة عطارد معقدة جدا بسبب قربه من الشمس، أما الزهرة فدراسته غير عملية، لأن حرارة سطحه تبلغ 500 درجة، والضغط فيه هائل، وغلافه الجوي مكون بالكامل -تقريبا- من الحمض الكبريتي، ولهذا لن يعمل مقياس الزلازل هناك أكثر من 15 دقيقة، والتشابه الوحيد بين الزهرة والأرض إنما هو في الحجم، أما المريخ فهو أصغر من الأرض وأكبر من القمر، ودراسته حلم للمستكشفين، لكن الأمر يتجاوز ذلك، لأن التغير المناخي بات مصدر قلق حقيقي، ورغم أن مهمة “إنسايت” لن تقدم حلا جذريا، فإنها ستساهم في ذلك.

مركبة إنسايت التي أرسلتها ناسا للمريخ من أجل استكشافه

ويقول العقل المدبر وراء مقياس الزلازل “فيليب لونيون” عالم الجيوفيزياء في معهد باريس لفيزياء الأرض: قبل 4 مليارات ونصف المليار من السنين، كان المريخ كوكبا جميلا بحال جيدة، لكنه تعطل، فإذا تعطلت سيارتك ستفتح غطاء المحرك لتفحصه، لكن في حالتنا فإننا نلجأ إلى علم الزلازل، لننظر إلى عمق المريخ، ونعرف السبب الذي منعه من أن يصبح كوكبا صالحا للسكن قبل 4 مليارات عام.

صناعة مقياس الزلازل.. تحديات ضخمة تكلل بالنجاح

يبدو أن مجال المريخ المغناطيسي توقف أولا، ثم تسببت الرياح الشمسية بتقشير غلافه الجوي وانخفاض درجة حرارته وتبخر مياهه، قبل أن تتوقف البراكين عن الثوران، ولا يخشى العلماء حدوث هذا على الكرة الأرضية، ولكن الأرض مهددة بأخطار أخرى على المدى القصير مثل الاحتباس الحراري، ولكن فهم حدوث ذلك على المريخ يساعد على فهم آليات الأرض.

وقد احتاج العلماء والمهندسون إلى 10 سنوات، لصناعة مقياس زلازل قادر على الذهاب إلى المريخ لدارسته. يقول “لوران نيكوليه” من شركة “سودرين لمعدات الفضاء”: صنع هذه الآلة كان صعبا جدا، فقد كان علينا تصميم مقاييس زلازل قادرة على رصد حركة تربة المريخ، وهي بحجم ذرة الهيدروجين، ولذلك كان علينا صنع مستشعرات زلزالية فائقة الحساسية، وواجهنا صعوبة في التخطيط، وكان أمامنا عامان فقط لصنع وتطوير مقياس الزلزال، كان تحديا كبيرا وتنفيذه صعبا جدا.

وفي 5 مايو/أيار 2018، انطلق صاروخ “أطلس 5” من قاعدة عسكرية بكاليفورنيا في رحلة لستة أشهر باتجاه المريخ، حاملا مقياس التجربة الزلزالية للبنية الداخلية، واستغرقت الرحلة 6 أشهر، أي أن المسار كان في خط مستقيم، لأنه كان صغيرا نسبيا، بينما كانت قدرة جهاز الإطلاق أعلى من مجرد إطلاق المسبار، لذا انطلقنا بأقصى ما يمكن، ووصلنا إلى المريخ خلال 6 أشهر.

ما بعد الإطلاق.. فريق يعيش على الوقت المريخي

يقول “تانغي نيبوت” المدير الفني لمشروع التجربة الزلزالية للبنية الداخلية: لم نقف مكتوفي الأيدي بعد مرحلة الإطلاق، بل واصلنا الاستعداد لنكون جاهزين لمرحلة نشر المعدات عند الوصول إلى المريخ، وما بين مرحلتي الإطلاق والهبوط، أجرى الأمريكيون والمركز الوطني للدراسات الفضائية ما سموه “اختبارات الجهوزية العملية”، واستغرق تحضيرها أسابيع قبل العمليات التي تجري بمجرد وصول الأداة إلى المريخ.

ويعد مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة الفضاء الأميركية “ناسا” مسؤولا عن المهمات العلمية بين الكواكب، ويقيم البعثات لا سيما المريخية منها، ويرسلها عبر المجموعة الشمسية. يقول “نيبوت”: نبدأ المهمة حسب التوقيت المريخي، أي أن المهمة المريخية تفرض علينا أوقات الاستيقاظ والنوم، إذ يعادل اليوم المريخي يومين على الأرض، ويجب أن تكون قادرا على الاستجابة بسرعة عند وصول البيانات.

فطوال 4 أو 5 أيام كان على الفريق نسيان طريقة حياته الباريسية وأن يعتاد نمط الحياة في كاليفورنيا، والنشاط المكثف لمركز الدفع النفاث.

مختبر المعدات الميداني.. محاكاة موقع هبوط المقياس

على أمل إكمال المهمة بنجاح، عمل علماء باريس لفيزياء الأرض ونظراؤهم من مركز الدفع النفاث لسنوات على مشروع “إنسايت”، وكانت هناك منافسة ليس فقط بين الفريقين، بل بينهما وبين فرق أخرى تعمل على اكتشاف الكواكب، لكنهم اكتشفوا لاحقا أن من الأفضل توحيد الصفوف للفوز بالسباق.

يقول “ويليام بروس بانيت” مدير مشروع “إنسايت” من وكالة الدفع النفاث: عملنا وفريق مركز باريس منذ عشرات السنوات على مستشعر للزلازل، ورأينا أن الفريقين يملكان تقنيات متطورة، ولهذا وحدنا صفوفنا وبدأنا نتبادل مقترحات تشمل مقياسي الزلازل، ثم انطلقنا بالمشروع.

واستعدادا لهبوط المسبار على سطح المريخ، أعاد مختبر الدفع النفاث محاكاة مكان هبوط مقياس حدوث الزلازل، وهناك مكان خاص يسمى “مختبر المعدات الميداني” يسمح للمهندسين بتوقع مكان الهبوط، وتخيل الصعوبات التي قد يواجهها المسبار.

والمدهش أن الأمريكيين -بحسب “تانغي نيبوت” المدير الفني لمشروع التجربة الزلزالية للبنية الداخلية- صنعوا نسخة من أرض المريخ بتفاصيل تضاريسها من ارتفاعات وانخفاضات، حتى أنهم وضعوا الحصى في مكانها، ونشروا المعدات بدقة عالية، لتتمكن من الاستجابة لأي مشكلة حال حدوثها.

يقول “نيبوت”: تفاجأنا بدعوتنا لزيارة غرفة التحكم في مركز الدفع النفاث التي تطلق الصواريخ من خلالها ويُتحكم بهبوطها، وقبل 20 دقيقة فقط من الزيارة سألونا عن ما إذا كنا نرغب بذلك، فوافقنا على الفور، لم تكن الغرفة كبيرة، ويوجد فيها نحو 50 شخصا، وأطلعونا على آخر المهام هناك.

ففي مختبر الدفع النفاث يتفاءلون بتناول الفستق بعد إنهاء إحدى المهمات بنجاح، ويأمل المهندسون الفرنسيون أن يحين وقتهم لتناول الفستق، بعد أن تهبط المركبة على المريخ بنجاح.

ساعة الهبوط.. خلل طفيف قد يدمر منظومة متكاملة

في باريس كان الحماس يغزو مدينة العلوم، فاجتمع مهندسو وعلماء برنامج “إنسايت” غير الموجودين في مختبر الدفع النفاث، ليشاركوا الجمهور تلك اللحظة المهيبة التي طال انتظارها، وهي هبوط المركبة على سطح المريخ.

يقول “فيليب لونيون” عالم الجيوفيزياء في معهد باريس لفيزياء الأرض: الهبوط على سطح المريخ ليس أمرا هينا، إذ لم تنجح فيه سوى وكالة “ناسا” وحصل هذا بعد عدة إخفاقات. لأن أي خلل حتى ولو كان طفيفا سيكون كفيلا بتدمير المنظومة بكاملها.

فنسبة التحطم خلال الهبوط على المريخ تبلغ 50%، وإذا نظرنا إلى إحصاءات ناسا لوجدناها أكثر من ذلك. وبالنسبة لأولئك الذين عملوا على هذا المشروع سنوات عدة، فإن التوتر الذين يشعرون به قبل عملية الهبوط هائل جدا، ولكن من حسن الحظ أن الهبوط كان ناجحا.

عندما تأكدت عملية الهبوط، بدا وكأن ثقلا عظيما أزيح عن كاهل العلماء، لأن عملهم الاعتيادي بات بمنزلة الأساطير، وهم فخورون بكونهم جزءا من هذا الإنجاز. يقول “فيليب لونيون” عالم الجيوفيزياء: آلة التصوير المثبتة تحت سطح المركبة تعمل بشكل كامل، فليست هناك صخرة كبيرة قد تعيق عملها وتحجب الرؤية، وقد هبطت المركبة بمكان مفتوح نستطيع نشر فيه معداتنا بسهولة.

بعد الهبوط الناجح، يستغرق الأمر عدة شهور وعددا من الاختبارات قبل نشر معدات المسبار على أرض المريخ. لقد بتنا نعرف أن المريخ ليس جافا مثل القمر، ورغم أنه لم يسجل زلازل قوية، فربما نشهدها خلال عام، لدينا كثير من النتائج العلمية التي تتيح لنا التعرف على البنية الداخلية لكوكب المريخ، وبعد وصولنا إلى عمق عشرات الكيلومترات، نأمل أن نصل إلى لبه خلال عام واحد.

النيازك.. أجسام غريبة يمطرها الفضاء على الأرض

تهبط أجسام غريبة من الفضاء على كوكبنا، وهي النيازك، ويهتم العلماء بهذه الظواهر الفضائية، فهي تكشف كنزا من المعلومات عن خلق الكون والأرض. ففي أنتوفاغاستا بتشيلي، يحاول “فردريك موينييه” الأستاذ في جامعة باريس وعالم الكيمياء الكونية في معهد باريس لفيزياء الأرض، أن يعثر على تلك الصخور القادمة من الفضاء، برفقة “لوك لابن” أحد أشهر صائدي النيازك في العالم.

يقول “فردريك موينييه”: صحراء أتاكاما بأنتوفاغاستا في التشيلي من أكثر المناطق جفافا في العالم، ومن أفضلها لجمع عينات تمثل أولى لحظات النظام الشمسي، وبالتحديد النيازك التي تأتي من مناطق مختلفة، ولكن معظمها يأتي من حزام الكويكبات الواقع بين المريخ والمشتري، فمنه يأتي قرابة 95% من النيازك التي نجدها في صحراء أتاكاما. ما يهمني هو اللحظات الأولى من عمر النظام الشمسي، وكيفية تكون المواد الصلبة الأولى، النيازك التي نختارها هي تلك غير المتمايزة، وهذه تعطينا معلومات عن كيفية تكون الكوكب.

صورة حقيقية لنيزك رصدته وكالة ناسا يسبح في الفضاء

إنها الصحراء الأكثر جفافا في العالم، إذ لم يسقط المطر عليها منذ مئات آلاف السنين، والطقس فيها عاصف جدا، ولهذا تخسر سطحها تدريجيا، وهي تضم أكبر تجمع للنيازك في العالم. يقول “فردريك موينييه”: ندرس بشكل مكثف أصل القمر وعلاقته بالأرض، وإضافة للعينات التي أحضرتها بعثة “أبولو”، سنبحث عن العينات القمرية التي يصعب التعرف عليها، فوجودها نادر جدا في الصحراء، ونأمل أن نجد بعضها.

ولكن للعثور على النيازك يحتاج العلماء إلى الصبر والمثابرة، ولا يمكنهم الاستسلام، وعليهم توقع أن يقضوا اليوم في السير عشرات الكيلومترات تحت أشعة الشمس في صحراء أتاكاما.

ويقول “لوك لابين” صائد نيازك: أسهل نوع يمكن الحصول عليه هو ذلك الذي يحتوي على قشرة انصهار سوداء تتكون عند دخول الغلاف الجوي، ويمكن تمييزها عن بعد. ورغم أن بعض الصخور الأرضية قد تشبه قشرة الانصهار، فإن التفريق بينهما سهل.

عشرون نيزكا في ثلاثة أيام.. غنائم الصحراء

بعد عدة ساعات من البحث عثر الفريق على أول نيزك، وهو عبارة عن قطعة من كوكب صغير تكونت قبل 4 مليارات و600 مليون سنة، وسقطت في الصحراء قبل عدة ملايين من السنوات، ورغم ذلك ما زالت قشرة الانصهار واضحة.

يقول “فردريك موينييه”: نعمل في هذا المختبر على الكيمياء الجيولوجية والكونية، أي كيمياء المواد الكونية، ونعمل على تحليلات كيميائية مفصلة ومكثفة جدا لهذه النيازك، تسمى “تحليلات التركيب النظائري”، وتتيح لنا فرصة أن تتحدث -إن جاز التعبير- لتعيدنا إلى لحظات النيزك الأولى، ومشكلة هذه النيازك أنها أمضت وقتا طويلا في الصحراء، بعد أن أمضت 4 مليارات و600 مليون عام في حزام الكويكبات، أي أنها مرت بالكثير منذ لحظة تكونها، وعلينا تصحيح كل ما أدى إلى تغييرها على مدار مليارات السنين، لنصل إلى أولى لحظات تكونها.

وتابع حديثه قائلا: من خلال طرق القياس الكيميائية في المختبر سنتمكن من تحديد تاريخ النيزك وتركيبه الكيميائي بشكل مفصل، وهذا يقودنا إلى تحديد التركيب الشامل للكرة الأرضية ونواتها ووشاحها، وفهم تكوينات المواد الصلبة الأولى واللحظات الأولى في عمر المجموعة الشمسية، وكيف تشكلت الكواكب الأولى، وسنفهم كيف تطورت الأرض من ذرة غبار إلى حصاة صغيرة، ثم إلى الكوكب الذي نعرفه اليوم.

فالنيازك مختلفة عن أي صخرة أرضية، ومن المثير الحفاظ على قطعة منها، فهي سقطت على الأرض قبل آلاف الأعوام، وهي قطعة من صخرة عمرها 4 مليارات و600 مليون عام.

عثر الفريق في الصحراء على 20 نيزكا في 3 أيام، وقد تكون بينها نيازك كربونية، وهي نادرة، وهذه النيازك كفيلة بأن تعطينا معلومات عن تكون الأرض وعن الكربون، بصفته الجزيء الأول الذي أسهم في نشأة أصل الحياة على الأرض.

والنيازك قد تمثل أولى لحظات النظام الشمسي، أو المادة الأولى التي شكلت الأرض، أو مجرد نيزك تشكل على سطح القمر. وسيتطلب الأمر عدة دراسات ليحل علماؤنا لغز تشكل كوكبنا.

دراسة الغلاف الجوي.. أسرار منطقة لا تصل إليها إلا المناطيد

هناك علماء آخرون مهتمون بالنيازك مثل أستاذ الكيمياء الجيولوجية “مانويل موريرا” الذي قال: ما نعرفه عن تكون الأرض هو أن الغازات أو العناصر المتطايرة جاءت نتيجة أجسام تسمى النيازك ولا سيما الحجرية منها، وكانت الغازات موجودة في تلك الأجسام التي كونت الأرض، وربما اصطدمت الأرض في البداية بعدد من النيازك التي انصهرت جزئيا، ثم تحولت لما نسميه “محيط الصهارة”، مما أدى إلى إطلاق الغلاف الجوي الغازي من الأرض المنصهرة.

وأضاف: نحاول فهم أصل وتطور الغلاف الجوي عبر الأزمنة الجيولوجية، مثل الماء الذي لا نعرف أصله بشكل جيد، ونعتقد أنه تكون لاحقا في تاريخ الأرض، نريد أن نفهم آليات عمل غلافنا الجوي على مدار 4 مليارات ونصف المليار سنة.

الغلاف الجوي للأرض كما يبدو من الأعلى

يسافر “موريرا” إلى كندا لدراسة الغلاف الجوي الطبقي، لكن لا حاجة للصواريخ أو الطائرات هنا، إذ يستخدم المناطيد المسبارية لتنفيذ مهمته. ويقول “فينسينت دوبورغ” مدير المناطيد المسبارية في المركز الوطني للأبحاث الفضائية: إنها تقنية يتمتع مركز الأبحاث الفضائية بخبرة كبيرة فيها، وحدهم الأمريكيون اكتسبوا هذه الخبرة باستخدام المناطيد لهذه الغايات العلمية والتكنولوجية.

هذه التقنية فريدة، لأن المنطاد هو الوحيد الذي يسمح له بقياس طبقة الجو العليا (ستراتوسفير)، ويتراوح ارتفاعها بين 15-40 كيلومترا، ويبلغ ارتفاع طبقة الأوزون بين 15-25 كيلومترا، وهو مكان لا يصل إليه سوى عدد قليل من الطائرات، وتعبره الصواريخ المسبارية بسرعة عالية، ولا تراه الأقمار الصناعية إلا من الأعلى، لذا فالمنطاد هو الوسيلة المثلى لتزويدنا بقياسات إضافية.

تسرب الزينون.. لغز يحير العلماء في طبقات الجو

يتطلب إطلاق المناطيد رياحا ضعيفة نسبيا على سطح الأرض، بسرعة لا تتجاوز 3 إلى 5 أمتار في الثانية، ويصنع المنطاد من البلاستيك، لذا فهو ضعيف جدا طالما هو مثبت على الأرض، ولكن عند إطلاقه يختلف الأمر، لأن الرياح تحمله بعيدا، فإذا كنا نستهدف منطقة معينة، فيجب أن تحمله الرياح إليها، ولكن يجب أن تكون الرياح مؤاتية على الأرض وفي الأعلى أيضا.

ما يهتم “مانويل” بدراسته بشكل خاص في طبقة “ستراتوسفير” هو غاز الزينون. ويقول “موريرا”: الزينون هو أحد الغازات النبيلة، ويثير اهتمام علماء الكيمياء الجيولوجية الذين يدرسون الغلاف الجوي، ومع أنه الغاز الأثقل في الغلاف الجوي فهو الغاز الذي أفلت 90% منه من الأرض، وهي المعضلة التي لا نستطيع شرحها ونسميها (الزينون المفقود)”.

ثم قال: لا نعرف العملية الفيزيائية التي سمحت للزينون بالإفلات من غلافنا الجوي، لذا فإننا نبحث عن ما إذا كانت هناك ظواهر تأين لغاز الزينون فوق طبقة الأوزون، لنعرف ما إذا كان من الممكن زراعته وامتصاصه في الغبار الجوي، الأمر الذي قد يفسر تفريغ غاز الزينون.

وتابع: الغرض من التجربة بسيط، فهي تتضمن عينات غاز من طبقة “ستراتوسفير” على ارتفاع 32 كيلومترا في هذه الصهاريج التي تخضع لنظام الفراغ الفائق، وخلال الإطلاق نُفعِّل هذه الصمامات التي تتحكم وتسمح للهواء بالدخول، ثم نغلق الصمامات، وبعدها نرسلها لدراسة الغاز.

الزينون هو الغاز الأثقل في الغلاف الجوي، وإذا استطاع العلماء فهم سبب تسربه فهذا يفتح لهم طريق دراسة الغازات الأكثر ارتباطا بالإنسان مثل الأوكسجين والنيتروجين وبخار الماء وثاني أوكسيد الكربون، فهذه “الغازات ذات الكتل الأخف تأثرت بتسرب غاز الزينون، ففهمنا لطبيعة تسرب هذا الغاز يسمح لنا بفهم أصل غلافنا الجوي”، بحسب موريرا.

وبعد هبوط المنطاد على الأرض ونقله إلى المختبر لدراسات عينات الغازات النبيلة التي يحملها، لم تظهر النتائج أي اختلافات بين الغاز على طبقة “ستراتسفير” ونظيره على الأرض، وهذا يزيد تعقيد نظرية إفلات غاز الزينون من الأرض. ولهذا يبقى إفلات غاز الزينون من الغلاف الجوي للأرض لغزا محيرا.

ولكي يفهموا أسباب اختفاء غاز الزينون يتعين على العلماء إرسال مناطيد جديدة لاستكشاف طبقة “ستراتسفير” والكشف عن ألغازها.


إعلان