“الجَمال السام”.. صناعة مستحضرات التجميل التي تفتك بالنساء

تقف “ميمي نوين” أمام المرآة، وتردد كلمات أمها لها في طفولتها، بينما تحدثنا عن حياتها اليومية التي لا تخلو من مستحضرات تجميل، ومنتجات لترطيب الجسم والشعر، ومنتجات أخرى لتفتيح البشرة وتفادي التجاعيد ومكافحة علامات التقدم في السن.
ومع أن “ميمي” لم تتجاوز ربيعها الرابع والعشرين، وما زالت بشرتها فاتحة بطبيعة الحال لم تتسلل إليها التجاعيد، فإنها مهوسة بشراء تلك المنتجات، وتسير وفق ما تعلمته من أمها في طفولتها، فالجمال هو الشرط الوحيد كي يحبها الناس أكثر.
“أنتِ فتاة، يجب أن تبدي جميلة.. سيحكم عليكِ الناس وفقا لمظهرك”

تحاكي “ميمي” صورة الجمال المثالي التي تعرفها، فهي ترغب بأن تكون صورة أخرى مختلفة عن طبيعتها. في الفيلم الوثائقي “الجَمال السامّ” (Toxic Beauty) للمخرجة “فيليس إليس”، تخوض “ميمي” رحلة تتعرف فيها معنا على خطورة منتجات التجميل على أجساد النساء، وما قد تسببه من أمراض مسرطنة وأمراض أخرى تناسلية، رحلة تكتشف فيها “ميمي” نفسها من جديد، فتقرر أن تجري تحاليل طبية، لتتأكد بعدها أن جسدها يحمل مواد كيميائية مضرة، وأن عليها أن تأخذ قرارا حاسما بشأن المنتجات التي تزدحم بها غرفتها، وتتسرب إلى جلدها الذي يمتص يوميا كل هذه السموم.
تفشي السرطان.. وجه الجمال الآخر يمزق حياة النساء
ليس من السهل اكتشاف السبب الرئيس لتفشي السرطان في جسد المريض، طالما أنه ليس وراثيا في العائلة، لكن ثمة أسبابا علمية ومواد كيميائية معروفٌ أنها تسبب السرطان.
وتحكي واحدة من النساء المصابات بالسرطان في الفيلم أنها في بداية رحلتها العلاجية أعطاها طبيبها المعالج كتيّبا به الاحتمالات المختلفة لمسببات السرطان، وكان من بينها مسحوق “تالك” (Talc)، فأصابتها صدمة مخيفة، فقد كانت على مدار سنوات طويلة من شبابها تستخدم “تالك” هي والنساء في أسرتها، ودفعها الأمر للنظر إلى عبوات مسحوق “تالك” المتاحة، فلم تجد عليها أي إشارة تفيد أن المنتج قد يسبب السرطان بشكل أو بآخر.

تظهر عشرات النساء في الفيلم يتحدثن عن تجاربهن المؤلمة مع مرض السرطان، وتشترك النساء في المرض وأيضا في استخدامهن الدائم لـ”تالك” الذي يرينه عنصرا أساسيا من الحنين إلى فترة الشباب “نوستالجيا”، حيث العناية المفرطة بالبشرة والجسم، لكن لم يهتم أحد بالفحص والتدقيق في المكونات التي تنتج منها المستحضرات.
“صناعة مستحضرات التجميل أكبر من صناعة التبغ”
يتحدث طبيب عمل سابقا بإحدى شركات التجميل قائلا: مجال صناعة مستحضرات التجميل أكبر من مجال صناعة التبغ، لأننا هنا نتحدث عن آلاف المواد الكيميائية المختلفة.
تلك المواد السامة -ببساطة شديدة- تجري في دمائنا دون أن ندري. لكن ما هي تلك الكيميائيات المستخدمة التي قد تسبب للنساء ضررا؟

تقول إحدى الأساتذة بالمعهد الوطني للبحث العلمي بمونتريال، إن منتجات التجميل التي نستخدمها يوميا تحاكي الأستروجين، أو قد تعرقل الأندروجين، وتؤثر في الغدة الدرقية، وأن مادة “الفثالات” أو “البارابين” التي تعد مكونا مهما في المستحضرات، تؤثر بالسلب في الهرمونات.
هنا يأتي دور الأبحاث الطبية التي تبحث في وجود رابط بين معرقلات الغدد الصماء وحدوث سرطان الثدي أو الرحم، أو حتى سرطان البروستاتا، وتأثيرات تلك المواد على الخصوبة بشكل عام، وهو ما توصل له بالفعل الدكتور “دانيال كريمر” منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، عبر مقال طبي منشور يؤكد فيه وجود رابط علمي بين بودرة “تالك” وسرطان المبيض، ويظهر الدكتور بنفسه في الفيلم، ويحدثنا عن تجربته البحثية.
“تالك”.. مادة سامة تلوث مستحضرات التجميل
“تالك” هو مادة كيميائية مستخرجة من سيليكات المغنسيوم والإسبست، وتلك المكونات لم تكن لتكتب على عبوات منتجات “تالك” مثل “جونسون أند جونسون” الذي يستخدم حتى اليوم على مستوى العالم من قبل النساء.

ولا يكشف الفيلم حقائق مغيبة ولم تكن معروفة، لا سيما في المجتمع الأمريكي، بل المثير للتأمل هنا أن خطورة مستحضرات التجميل على اختلافها تُتجاهل، ويقل صوت المناهضين لها أمام آلات منظومة الشركات الكبرى.
ففي عام 1936 أصدر “رويال إس كوبلاند” كتابا بعنوان “غرفة الرعب الأمريكية”، وهو أقرب لوثيقة تعرّي الوجه القبيح لصناعة الغذاء والأدوية ومستحضرات التجميل، وتكشف فظائع ما تسببه منتجات العناية الخاصة بالنساء في إصابتهن بالعمى بسبب الماسكارا، وأمراض أخرى بسبب كريمات التجميل التي تحتوي على الرصاص والزرنيخ، والمقويات التي تحتوي على الراديوم.
كل هذه الأخطار تدفعنا لنتساءل: مع وجود كل هذه الأخطار، لماذا تستمر النساء في استخدام منتجات تجميلية سامة؟
صناعة الثقة.. سلاح لا يفارق حقيبة المرأة العصرية
في كل مكان حولنا، في الشوارع والمولات والمحلات التجارية، ثمة لوحة إعلانية كبرى لامرأة جميلة أو ممثلة مشهورة تعرض لنا منتجا علينا أن نشتريه لنكون مثلها، بشرة صافية، وشعر حريري، ورموش طويلة وكثيفة، وجسد ممشوق يخلو من الترهلات والدهون، ووجه منحوت لا تكاد تميزه عن وجوه الدمى.

لم يعد استخدام منتجات التجميل خيارا أمام النساء، بل تحولت إلى ثقافة أنثوية تتشكل منها أفكار النساء ونظرتهن الداخلية لأنفسهن
هي كلها مظاهر نمطية لما يجب أن تكون عليه المرأة العصرية، وهي معايير تملى عليها، لكن لا أحد يعرف حجم الضغوط النفسية التي تشعر بها النساء ليكن جميلات، وفقا للمعايير المجتمعية والاستهلاكية، فلم يعد استخدام منتجات التجميل خيارا أمام النساء، بل تحول إلى ثقافة أنثوية تتشكل منها أفكار النساء ونظرتهن الداخلية لأنفسهن.
تقول “ميمي” إن المكياج يزيد من ثقتها بنفسها، ولا سيما إن كانت مقبلة على مقابلة عمل جديدة، أو في خروج مع صديقاتها، فيجب عليها أن تكون مثلهن لامعة بمستحضرات التجميل.
فلم تعد أغلبية النساء متصالحات مع مظهرهن الطبيعي دون إضافات خارجية، لأن كل النساء منخرطات في نفس الدوائر، يواكبن الموضة وينفقن الأموال على تلك المنتجات المزيفة والمسمومة أيضا.

وفي إطار الأنظمة الرأسمالية الكبرى التي تحرك العالم، يُقنع النساء بأنهن بحاجة إلى تلك المنتجات، والهدف هو الامتثال لمعايير الجمال الأنثوي التي تتوفر في عبوات صغيرة بأسعار غالية. وهكذا تنجح الرأسمالية في أن تنسينا خطورتها السامة، فتدور عجلة رأس المال، وتجني الشركات الملايين على مستوى العالم.
معايير الجمال.. قواعد الأنوثة في عالم متغير
يستعرض فيلم “الجَمال السامّ” لقطات من إعلانات مستحضرات التجميل قديما، لم تكن مجرد دعاية للمنتج فحسب، بل تتعمد أن تشوه نظرة النساء لأنفسهن، وتحفز رغبتهن الدائمة في أن يكنّ على خطى معايير الجمال العالمية التي تفرض عليهن.
ففي واحد من الإعلانات القديمة، تقف امرأة أمام مئات النساء تخبرهن بحقائق مطلقة عن أنوثتهن، قائلة: نحن النساء نهتم كثيرا بمظهرنا لكن هذا ليس صحيحا، ففي النهاية، سيؤثر مظهرنا كثيرا في شعورنا، وفي شعور الآخرين تجاهنا.

وبعد سنوات طويلة من هذا الإعلان، يمكننا إعادة النظر في الطريقة التي تلقت بها النساء قديما معايير الجمال، ويمكننا مقارنة الماضي بالحاضر، لا سيما في ظل وجود نساء “مؤثرات” على منصتي “إنستغرام” و”تيك توك” وغيرهما، فبات تأثيرهن تلك المنصات أقوى بكثير من إعلانات التليفزيون، بل إن طريقتهن في التعريف بأنفسهن وجمالهن تتغير عن السابق.
وتسعى شركات منتجات التجميل إلى مجاراة التغيرات التي تحدث الآن في تغيير معايير الجمال الأنثوي، فالفتاة النحيفة جميلة، والزائدة عن الوزن جميلة أيضا، وتشارك في الحملات الدعائية للشركات، فالمعايير تتغير ولم تعد البشرة البيضاء هي الجمال المطلق فحسب، فكل هذه التصورات ينتج عنها خطاب جديد تعيد الرأسمالية إنتاجه، لا لمعايير أخلاقية، بل لاستقطاب فئات أكثر من النساء، لأنه في نهاية المطاف، ومع تغيير معايير الجمال، ما زالت النساء تستخدم المنتجات ذات المواد الكيميائية، وتتبع النصائح والروتين اليومي للمؤثرات اللاتي يستخدمن المنتجات على بشرتهن كل يوم أمام كاميرا الهاتف.
محاكمة الجاني.. لعبة قضائية لا تردع إنتاج السموم
إن الوعي بالأخطار الصحية لا يدفعنا فحسب لتجنب استخدام المنتجات ذات المكونات الكيميائية وتوعية النساء بشأنها، صحيح أنه بالإمكان أن نلقي اللوم على النساء، لأنهن ينفقن مالا ووقتا في منتجات ستضرهن على المدى البعيد، لكن لوم الضحايا دائما أسهل من محاكمة الصياد، أو حتى محاكمة الشركات والحكومات والمنظمات الدولية التي تعرف بمدى الخطورة التي تسببها تلك الشركات، ولا توقف عجلة عملها مهما كانت التكلفة، وهذه الخطورة لا تقل بحال عن الحروب النووية والأسلحة البيولوجية التي تهدد سلام الكوكب، وكأن كل ما هو نسائي هو محض رفاهية لا أكثر.

يكشف الفيلم في نهايته أن امرأة من ضحايا السرطان، قاضت شركة “جونسون أند جونسون”، واتهمتها بأن منتجها كان سببا في مرضها، وقد أدان القضاء الشركة، لكنه لم يحكم بدفع تعويض مادي لها، وانتهى الأمر عند نقطة رمادية. وها هي ذي الشركة مستمرة في إنتاجاتها، لأن القضاء في النهاية لن يردعها.

ولا تقف سموم الجمال عند المواد الكيميائية وحدها، فثمة سموم نفسية أخرى تتكون وتترسب في عقول وأجساد النساء، لا سيما وهن يقارنّ أنفسهن بصورة الجمال التي تُرسم لهن، ويُطالَبن يوميا أن يقتفين أثرها، وأمام كل صورة ومنتج جديد يأخذن مسافة أكبر تبعدهن عن شخصياتهن الحقيقية، وتكسبهن قيمة زائفة عن ذواتهن، والأهم من ذلك اقتناعهن بأن قيمة المرأة في مظهرها لا شخصيتها، وهو ما يؤكد أن سموم الجمال قد زحفت إلى داخلهن بالفعل.