آثار الأسلحة الفتاكة.. ضريبة باهظة تدفعها البيئة والإنسان البسيط

في غضون 40 يوما من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، كان الكيان الصهيوني قد ألقى ما يزيد عن 30 ألف طن من المتفجّرات، وهو ما يعادل أثر انفجار القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي مجتمعتين، فألحقت تلك الانفجارات العشوائية المتواصلة أضرارا كبيرة بأكثر من 50% من الوحدات السكنية في أنحاء غزّة، وتعرض نحو 40 ألف وحدة سكنية في القطاع المحاصر للتدمير الكامل.

ووفقا للمكتب الإعلامي لحماس في غزّة، فإنّ أضرارا بليغة وخسائر أولية لحقت بالبنية التحتية وقطاع الإسكان، قُدّرت بحوالي 4 مليارات دولار. وذكرت تقارير صادرة عن مكتب الأمم المتحدة بأنّ 278 منشأة تعليمية و270 منشأة صحية و69 مكانا للعبادة قد أصيبت بأضرار متفاوتة.1

دمار شامل رافقه هجوم عنيف لم يترك شيئا سالما من إنسان وحيوان ونبات وجماد، حتى التربة التي تعد شاهدا على أصحاب الأرض لم تسلم أيضا، وذلك بسبب الأسلحة الكيميائية، مثل الفسفور الأبيض المحرّم دوليا، فقد رُصد استخدام الطيران الإسرائيلي له، وفقا لما أكدته تقارير المنظمة الحقوقية “هيومن رايتس ووتش”، وهو سلاح تتسرّب مادته السامة في التربة وفي قيعان المسطحات المائية، تاركا وراءه بيئة مميتة لا تصلح للحياة ولا للاستخدام البشري.

إنتاج الأسلحة.. تلوث عسكري يسبق ميلاد الصراعات

إن الأثر السيئ لاستخدام الأسلحة ينطلق من بداية تصنيعها، ومن استهلاك الموارد الطبيعية لإنتاجها، فالتحضير المسبق للعمليات العسكرية في بناء المعسكرات والقواعد والمصانع يتطلّب استهلاك موارد هائلة من المعادن والطاقة، وتنتج عنهما انبعاثات بيئية مضرّة شديدة، وتشير التقارير إلى أنّ جيوش العالم مجتمعة تساهم بحوالي 5.5% من انبعاثات الغازات الدفيئة حول العالم. كما تتطلب الأنشطة العسكرية مساحات بريّة وبحرية واسعة تغطي 6% من مساحات اليابسة على الأرض، وغالبا ما تشمل هذه الأراضي مناطق حيوية.2

كميات كبيرة من غازات الدفيئة تنتج عن الحرائق والانفجارات التي تتسبب بها الحروب

وتتطلب صناعة الأسلحة صيانة مستمرة للمعدات واستبدالها، وفي أحيانا كثيرة يتخلص منها بسبب تقادم التكنولوجيا المستخدمة فيها، فتنتج عن ذلك كلفة باهظة على حساب البيئة. فعلى سبيل المثال تعد مقبرة الطائرات “ديفيس-مونثان” في ولاية أريزونا الأمريكية موطنا لأكثر من 400 ألف قطعة من الأدوات والآلات المفككة من الطائرات، وتشتهر هذه المقبرة بأنها موقع لتخزين وصيانة صواريخ وطائرات القوات الجوية الأمريكية، وهي أكبر مقبرة طائرات في العالم.3

إن الحفاظ على المعدات العسكرية وتجديدها يؤدي بالضرورة إلى استمرار تكاليف التخلص منها، مع ما يترتب عليه من آثار بيئية، والأمر لا يتعلّق بالأسلحة النووية والكيميائية الخطيرة فحسب، فحتى الأسلحة التقليدية تخضع لذات المعادلة، لا سيما عند التخلص منها عن طريق الحرق في الهواء الطلق أو تفجيرها. وعلى مدار التاريخ، أُلقيت كميات هائلة من الذخائر الفائصة في قعر البحار واستقرّت هناك.

“البيروفلوروالكيل” مواد كيميائية مصنّعة بشريا ومستخدمة على نطاقات واسعة وهي تقاوم التحلل

وبسبب غياب الرقابة البيئية في بلدان كثيرة، ولا سيما تلك التي تتمتّع بحصانة خاصة بتصنيع السلاح واستخدامه، لا يمكن تقدير حجم الخطر المتوقّع في المستقبل على البيئة والإنسان. وقد شوهد بأن مواد كيميائية مثل البيروفلوروالكيل (PFAS) المصنّعة بشريا والمستخدمة على نطاقات واسعة تقاوم التحلل، أي أنها تستمر فترات طويلة في التربة والماء والهواء، وتنتج عن التعرض لها أخطار صحية، مثل الإصابة ببعض أنواع السرطان واختلال الجهاز المناعي.

عشوائية القتل.. ضريبة حربية يدفع المدنيون أثمانها

في الحروب تغيب الهوية الفردية، وتبرز الأرقام والإحصائيات، فلا يموت الضحايا فرادى بل ضمن مجموعات كاملة، بسبب عشوائية القتل والتعدّي، لا سيما حين تطال آلة الدمار المناطق المدنية المكتظّة بالسكان، والحديث عن العدوان الصهيوني على قطاع غزّة اليوم مثال حي على ذلك.

وعلى مر التاريخ، كانت استباحة الدماء أثناء الحروب تتعدى المُحارب والمشارك في القتال، حتى أنّ المدنيين كانوا دوما جزءا من المعركة، وعلى الرغم من التحضّر الذي تدّعي البشرية وصوله، نجد أنّ ضحايا المدنيين في كثير من الحروب التي شاركت فيها دول العالم الأوّل تتجاوز عدد العسكريين أنفسهم.

ففي العدوان الأمريكي -الذي شاركت فيه دول كبرى- على العراق عام 2003، قُتل ربع مليون عراقي مدني على الأقل، وفقا لتقرير صدر عن جامعة “براون” الأمريكية. وهكذا فإننا نجد خسائر بشرية هائلة بالنظر إلى الحروب التي خاضتها أمريكا بعد عمليات 11 سبتمبر/ أيلول في العراق وأفغانستان واليمن وسوريا وباكستان.

فحتى منتصف عام 2023، لقي حوالي نصف مليون إنسان حتفهم نتيجة للحرب والعدوان بشكل مباشر، كما أن ما يفوق 4 ملايين شخص قد توفوا لظروف مغايرة، مثل انتشار الأمراض ونقص الغذاء نتيجة الحرب. وقد ذكرت وزارة الصحة الأفغانية أنّ ثلثي الأفغان يعانون من مشاكل عقلية نتيجة للحرب.4

الانفجاران النوويان في ناغازاكي وهيروشيما سنة 1945

وأما في اليابان، فقد ألقت القوات الجوية الأمريكية قنبلتين نوويتين على مدينة هيروشيما وناغازاكي على التوالي في شهر آب/ أغسطس 1945 بفاصل زمني مدته 3 أيام فحسب، وقد راح ضحية ذلك الهجوم المدمّر أكثر من 200 ألف مدني على الفور، عدا عن النتائج الخطيرة التي تبعت استخدام السلاح النووي على الإنسان والحيوان والنبات، ولاحقا على مدار العقود التي تلت، وذلك وفقا لدراسة نشرها في السبعينيات علماء مناهضون للسلاح النووي.5

وبطبيعة الحال، ونظرا لأن الحروب صفة سائدة في الحضارات والتاريخ البشري لما قد تستدعيه الضرورة، لم يجد العالم تعاليم أرحم من تلك التي أمر بها نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، ووصّى بها صحابته الكرام، وأمر المسلمين بالتمسك بها والعمل عليها، فنهى عن الغدر والغلو والتمثيل بالجثث، ووصّى بحرمة الأطفال والنساء والشيوخ ومن لم يشارك في الحرب، ونهى عن الاعتداء على الشجر والنخل والبناء، واستوصى بالأسرى خيرا، وذلك من عظيم آداب الحرب التي يجب أن يتبعها العالم المتحضر.

تجارب الأسلحة النووية.. كوارث تلاحق الأجيال ولو بعد حين

تدفع البشرية جمعاء ثمنا باهظا لوجود أسوأ أنواع الأسلحة المعروفة بأسلحة الدمار الشامل، وقد بدأ برنامج تصنيعها مع بداية الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في عام 1942 مع بدء العمل على مشروع “مانهاتن” السري في أمريكا. فالعالم بأجمعه سيكون عرضة لأي استخدام مشروع أو غير مشروع للسلاح النووي، مع أنّ 9 دول فقط هي من تمتلكه.

وبين عامي 1945-2017، أجريت أكثر من 2000 تجربة للقنابل النووية حول العالم، كان معظمها في الغلاف الجوّي، وقد نتجت عن ذلك إشعاعات فتاكة تسببت بالسرطان وغيرها من الأمراض المزمنة في عدد من التجارب. ولا تزال مساحات كبيرة من تلك الأراضي مشعة وغير آمنة للسكن، حتى بعد مرور عقود طويلة على إغلاق مواقع الاختبار.

سحابة عيش الغراب تمثل القمة الأعلى للانفجار النووي

ففي صحراء نيو مكسيكو، وقبل ثلاثة أسابيع فقط من إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي، أجرت الولايات المتحدة أول برنامج تجريبي لتفجير نووي في العالم، وأطلقت عليه اسم الثالوث “ترينتي” (Trinity)، إذ برزت كرة نارية عملاقة من العدم، وبدأت بالتصاعد والتضخم على نحو مهيب، لتتحوّل الرمال على أثر الحرارة العالية إلى زجاج ، كما أنّ الجبال المحيطة بالمنطقة أضيئت بالكامل، وظهرت سحابة عيش الغراب في أقل من 10 دقائق على ارتفاع 12 كيلومترا في السماء، علما بأنّ أعلى قمة في العالم قمة إيفرست لا يتجاوز ارتفاعها 9 كيلومترات.6

ومع أن عصر تجارب الأسلحة النووية بدا أنّه انتهى مع آخر تجربة أُجريت على يد كوريا الشمالية عام 2017، فإنّ تبعات تلك التجارب طيلة العقود الماضية ما زالت حاضرة بشدة. ونظرا إلى النظم البيئية الشهيرة على كوكب الأرض، فإن الآثار السلبية المتراكمة تظهر عند جيل بعد آخر.

تركات الحروب.. ذخائر غير منفجرة تهدد سكان المعمورة

يُعرف عن الحرب العالمية الثانية أنها أكثر الحروب ضراوة وشراسة وشمولية، وأكثرها دموية كذلك، فقد تجاوزت حصيلة القتلى 75 مليون قتيل، منهم فقط 20 مليون من العسكر، أمّا البقية فكانوا من المدنيين الذين أصابتهم عدوى الحروب.

فقد كانت دائرة الصراع قد امتدت واتسعت لتشمل أجزاء كبيرة من أوروبا وروسيا وشرق آسيا وجزرا في المحيط الهادئ، لتترك وراءها إرثا حربيا كبيرا، فمع أنّ الحرب العالمية قد وضعت أوزارها قبل نحو 78 عاما، فما زال العالم يعاني من أثر الذخائر التي لم تنفجر، وهي تشمل القنابل والقذائف والقنابل اليدوية والألغام الأرضية والألغام البحرية وغيرها، وهي لم تنفجر بسبب غياب الظروف الملائمة لانفجارها.

قنابل ومتفجرات لم تنفجر تهدد الناس في المناطق التي شهدت حروبا سابقة

ومع أن ذلك مرت عليه عقود طوال، فإن الاستكشافات وعمليات التنقيب تعلن عن وجود مجموعة مواد متفجّرة في مختلف بقاع المعمورة، لا سيما في المناطق التي كانت تخضع للتهديدات المستمرة للغزو الأجنبي، كما حدث في منتصف العام 2023، بعد العثور على قنبلة تزن 250 كيلوغراما قرب جسر علوي للسكك الحديدية في مدينة فروتسواف البولندية الواقعة غربي البلاد، وكان ذلك في أثناء عمليات البناء، واستدعى الأمر إجلاء 2500 من سكّان المنطقة حتى معاجلة المشكلة. وقد أفادت القوات المسلحة البولندية أنّ القنبلة التي عُثر عليها هي قنبلة جوية ألمانية من طراز SC-250.

وفي مطلع 2023 كذلك، ظهرت قنبلة أخرى عُثر عليها صدفة في مدينة “غريت يارموث” في إنجلترا، بوزن 250 كيلوغراما. وفي أثناء محاولة تفكيك القنبلة انفجرت عن طريق الخطأ في لقطات مسجّلة، ولم يتعرض أحد للأذية كما قالت السلطات المحلية.7

وقد وضعت دراسة حديثة جهدها في رفع الغطاء عن تبعات استخدام الأسلحة على البنية التحتية، وكان الدمارُ الذي حلّ على الأراضي السورية -بفعل القصف المستمر من قبل النظام السوري بالتعاون مع روسيا وإيران- أحدَ المحاور الأساسية في الدراسة، إذ أشارت إلى أنّ مدينة حلب وحدها تحتوي الآن على 15 مليون طن من الأنقاض، وهو الأمر الذي يستغرق 6 سنوات على الأقل من العمل المتواصل لإزالته. كما سيتطلب 30 عاما أو أكثر لإزالة جميع الذخائر غير المنفجرة في جميع أنحاء البلاد. ويشير التقرير إلى أنّ أكثر من نصف سكان سوريا معرضون بشكل مباشر لأخطار المتفجرات.

الحرب على مدينة حلب خلفت 15 مليون طن من الأنقاض

وقد امتد الأثر البيئي حتى على الغطاء النباتي، إذ يشير التقرير ذاته إلى أن مدينة إدلب الخضراء تعرضت لهجوم عنيف، أدّى إلى زوال 70% من أشجارها -سواء بحرقها أو قطعها- بحلول عام 2018، إضافة إلى غياب أنواع من الحيوانات تُعد الآن عرضة للانقراض، مثل الغزلان الجبلية التي كانت توجد منها المئات سابقا.8

 

المصادر:

[1] محررو الموقع (2023). ألحق القصف الإسرائيلي أضرارا بأكثر من نصف الوحدات السكنية في غزة. الاسترداد من: https://www.aljazeera.com/news/2023/11/10/israeli-bombardments-damage-more-than-half-of-gazas-housing-units

[2] محررو الموقع (2022). تقرير حديث: الجيوش العالمية مسؤولة عن انبعاثات أكثر ما تصدره روسيا. الاسترداد من: https://ceobs.org/new-estimate-global-military-is-responsible-for-more-emissions-than-russia/

[3] دويلنغ، ستيفين (2018). ماذا يحدث عندما لا تكون هناك حاجة للطائرة؟ في الصحراء الجافة بجنوب غرب الولايات المتحدة، توجد “مزارع عظمية” شاسعة تؤوي آلاف الطائرات، حسبما كتب ستيفن داولينج. الاسترداد من: https://www.bbc.com/future/article/20140918-secrets-of-the-aircraft-boneyards

[4] محررو الموقع (2023). مقتل المدنيين وجرحاهم. الاسترداد من: https://watson.brown.edu/costsofwar/costs/human/civilians

[5] ويلرستين، أليكس (2020). إحصاء ضحايا هيروشيما وناغازاكي. الاسترداد من: https://thebulletin.org/2020/08/counting-the-dead-at-hiroshima-and-nagasaki/

[6] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). التكلفة البشرية للتجارب النووية. الاسترداد من: https://www.icanw.org/nuclear_tests#:~:text=Even%20those%20that%20have%20been,soil%2C%20air%2C%20and%20water.

[7] برين، كيري (2023). انفجرت قنبلة من حقبة الحرب العالمية الثانية في إنجلترا في تفجير “غير مخطط له”. الاسترداد من: https://www.cbsnews.com/news/wwii-era-bomb-explodes-in-england-in-unplanned-detonation/

[8] داثان، جينيفر (2020). دراسة بحثية: الأرض المكسورة: العواقب البيئية لاستخدام الأسلحة المتفجرة. الاسترداد من: https://reliefweb.int/report/syrian-arab-republic/broken-land-environmental-consequences-explosive-weapon-use#:~:text=They%20can%20reduce%20buildings%20to,the%20world%20out%20of%20balance.


إعلان