الزلازل والبراكين.. صدام الصفائح التكتونية الذي يمزق جسد الكوكب

في مساء لطيف يوم 7 أبريل/نيسان عام 1815، كان سكان جزيرة سومباوا في إندونيسيا يتجهزون لنهاية اليوم، عادةً ما يعمل السكان الأصليون في هذه المناطق في حرفة أجدادهم التي استمرت آلاف السنين، وهي الجمع والالتقاط، يستكفون بغذاء اليوم ويبحثون غدا عن الجديد من خيرات البر والبحر، وهكذا كل يوم، لكن هذا المساء تحديدا شهد حدثا استثنائيا، فقد انفجر بركان تامبورا القريب.
ليست هذه أول مرة يثور فيها البركان، لذلك ظن الناس أنه مجرد ثوران طبيعي معتاد، وسيهدأ كل شيء قريبا، لكن ذلك لم يحدث، فقد كان هؤلاء والعالم أجمع على موعد مع أكبر ثوران بركاني معروف إلى الآن، كان من القوة بحيث قتل عشرات الآلاف في الجزر المحيطة، وأطلق من المادة مليارات الأطنان، غباره الذي نُفث في الغلاف الجوي غيّر مناخ الأرض كلها، وتسبب فيما سمي بعد ذلك “سنة بلا صيف”، إذ انخفضت فيه درجات الحرارة، وأدى ذلك إلى تلف عدد من المحاصيل، ووصل أثره إلى كل مكان على وجه البسيطة.
ولطالما اعتقد السكان الأصليون لهذه المنطقة على مدى آلاف السنوات، أن تلك لعنة تتعلق بغضب أحد أبطال الأساطير، كان ذلك شائعا في الحضارات القديمة كلها تقريبا، ففي اليونان سمي هذا البطل “فالكان” أو “بيلي” في الأساطير بهاواي، لكننا الآن نعرف أن تلك البراكين، ومعها الزلازل الكبرى -كذلك الذي ضرب سوريا وتركيا قبل أيام متسببا في مقتل حوالي 36 ألف إنسان- كانت التعبير الأقسى عن أهم سمات هذا الكوكب الأزرق، إنها حركات الصفائح التكتونية.
غلاف الأرض.. أحجية ورقية تتحرك في باطن الكوكب
لكي نفهم الأمر نبدأ من طبقات الأرض، فكُرتنا الأرضية تشبه في تركيبها طبقات البصلة، لكنها تختلف فيما بينها في السُّمك، فالقشرة الأرضية مثلا يبلغ سمكها في القارات بين 30-70 كيلومترا، بينما يبلغ سمكها في المحيطات بين 6-12 كيلومترا، ورغم كل هذ السمك فهي أرق الطبقات، ولو قررنا أن نشبه الأرض بالبصلة لكانت قشرة الأرض بسُمك قشرة البصلة الرقيقة.

والطبقة التالية تسمى الوشاح، ويبلغ سمكها حوالي 2800 كيلومتر، وتتحد القشرة مع الجزء العلوي الصلب لطبقة الوشاح، لتصنع ما يسميه العلماء “غلاف الأرض الصخري”، وتحت هذا الغلاف تكون الصخور في حالة شبه منصهرة وساخنة (عدة آلاف من الدرجات المئوية). ويلي الوشاح طبقتي النواة (الداخلية والخارجية).
لكن غلاف الأرض الصخري ليس كتلة واحدة كما يمكن أن تظن، بل يشبه إلى حد كبير الأحجيات الورقية (Puzzle)، تلك التي تكون فيها صورة لحيوان ما مثلا أو لمشهد طبيعي، وتكون مقسمة إلى أجزاء، ويطلب منك أن تركبها معا لتصنع صورة كاملة. فغلاف الأرض الصخري كذلك يتكون من حوالي 20 قطعة كبيرة وصغيرة تتداخل معا، هذه القطع تسبح بشكل أو بآخر على الوشاح السفلي، وتتحرك بالنسبة لبعضها مسافة سنتيمترات كل عام، لذلك لا نشعر بحركتها، وهي ما يسميها العلماء “الصفائح التكتونية”.
“الانجراف القاري”.. حيوانات وحفريات تروي تاريخ الوحدة
ظهرت فكرة الصفائح التكتونية بعد قرن من الثوران العظيم لبركان تامبورا، عندما اقترح “ألفريد فيغنر” -العالم والفلكي الألماني الذي اهتم بدراسة فيزياء الأرض وعلم الأرصاد الجوية- نظريته عن “الانجراف القاري”، وكان قد اهتم بملاحظة لها تاريخ قديم من قدم الخرائط نفسها، وهي أن جغرافيا بعض قارات الأرض تبدو كأنها مكملة لبعضها، فالساحل الغربي لقارة أفريقيا مثلا يتلاءم مع الأمريكتين ويمكن أن يوضع بينهما، مما يعني أن قارات العالم بالفعل كانت يوما ما قارة واحدة.

لكن “فيغنر” طور نظريته بأكثر من مجرد التماثل الشكلي، فقد وجد -مثلا- أن هناك حفريات لنفس الأنواع من الكائنات الحية عاشت في أفريقيا قديما وفي أميركا الجنوبية، كيف عبرت المحيط الأطلسي كاملا؟! هذا ليس ممكنا، فبعضها كائنات لا تحسن السباحة أصلا إلى جانب المسافة الضخمة التي لا يمكن لأي كائن عبورها حتى لو كان متمكنا من السباحة، لا بد إذن أنه في زمن ما لم يكن هناك مسافة بين القارتين، بل كانتا شيئا واحدا.
أضف لذلك دلائل جاءت من علم المناخ القديم، فقد احتوت الأرض الأفريقية المدارية على دلائل أنها يوما ما كانت منطقة ثلوج، كيف هذا وهي المنطقة التي تتركز فيها الشمس طوال العام؟! لا بد أن هذه المناطق أيضا كانت يوما ما في مكان آخر.
رُفضت نظرية “فيغنر” من قبل المجتمع العلمي على مدى عقود حتى وفاته، وتطلب الأمر عدة عقود إضافية حتى تتأكد نظريته عن حركة الصفائح التكتونية، وتصبح أحد أهم إنجازات علم الجيولوجيا إلى الآن، والسبب في حدوث الزلازل والبراكين.
زلزال سوريا وتركيا.. كارثة صدام صفيحة العرب والأناضول
يعيدنا ذلك من جديد إلى الكارثة الحديثة، فقد ضرب جنوبَ تركيا وشمالَ سوريا -فجر يوم الاثنين السادس من فبراير/شباط- زلزالٌ بلغت قوته 7.8 درجات على مقياس رختر، وتبعه زلزال آخر بعد تسع ساعات بقيمة حوالي 7.6 درجة، وكان مركز الزلزالين بين مدينتي قهرمان مرعش وغازي عنتاب التركيتين، وعلى طول هذا الخط تعرضت عدة من المدن لهزة كارثية سوّت كل المنازل بالأرض في بعض المناطق.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض تركيا فيها لزلزال شبيه، لكنه كان الأقوى منذ زلزال أرزنجان الذي ضرب شرق تركيا في 27 ديسمبر/كانون أول عام 1939 وقتل حوالي 33 ألف إنسان، وخلال الفترة بين الزلزالين ضُربت تركيا تحديدا بحوالي 15 زلزالا كبيرا بمقياس أكبر من 7 درجات، يعني ذلك أنها زلازل شديدة يمكن أن تحطم المباني وتقتل الناس، ومن المؤسف فإن هذا ما حدث في الكثير منها.

هذه معدلات كبيرة للزلازل، ومرد ذلك أن تلك المنطقة من العالم تقع على صفيحة الأناضول التكتونية، وهي تتأثر بالدفع القادم من الصفيحتين العربية والأوراسية، وكذلك صفيحة ثالثة تسمى الصفيحة الأفريقية. وحيث إن الصفائح التكتونية تتحرك بالنسبة لبعضها، فتتباعد في أماكن وتتقارب في أخرى، فحينما يتقارب طرفا صفيحتين تكتونيتين، فإنهما تحتكان في بعض الأحيان، بناء على ما يسمى “الفالق”.
قد تنزلق أطراف الصفائح في الفوالق ببطء وسلاسة، لكن في بعض الأحيان يكون الاحتكاك شديدا، وتعلق الصفيحتان معا في منطقة يختزن فيها قدر هائل من الطاقة يقدر بقوة عشرات أو مئات القنابل النووية، ثم في لحظة ما ينفلت هذا القدر من الطاقة صانعا الموجات الزلزالية التي تجوب أنحاء الأرض لكنها تضرب بأكبر قوة في المنطقة التي تعلوها، وفي هذه الحالة فإننا نتحدث عن جنوب تركيا.
تسببت الاحتكاكات المستمرة بين هذه الصفائح التكتونية المحيطة بتركيا إلى بناء فالقين كبيرين، الأول هو فالق شمال الأناضول بطول حوالي 1200 كيلومتر، والثاني هو فالق شرق الأناضول بطول حوالي 700 كيلومتر، وكلاهما كان سببا في عدد من الزلازل الكارثية على مدى التاريخ.
ويجري الأمر كذلك على مناطق عدة حول العالم تقع فيها دول على نقاط التقاء صفائح تكتونية بنفس الطريقة التي تحدثنا عنها، وبذلك فهي أيضا المناطق ذات أقوى الزلازل في تاريخنا، فهناك مثلا “حزام ما حول المحيط الهادئ”، وهي المنطقة ذات النشاط الزلزالي الأعلى حول العالم، وتمتد على حدود الصفائح التكتونية في المناطق الساحلية الغربية للأمريكتين ثم من ألاسكا، وتمتد إلى شرق آسيا مرورا باليابان والجزر الإندونيسية جنوبا.
تداخل الصفائح.. أنفاس الغضب المكتوم تفجر البراكين
حول نفس الحزام كذلك توجد أكبر البراكين، مثل بركان تامبورا، وفي هذه الحالة تحديدا فإن الصفائح التكتونية تتداخل بشكل أكثر عمقا فلا تصطدم فقط، بل يدخل أحد أطراف الصفيحة التكتونية أسفل الآخر لدرجة أنه يخترق طبقة الوشاح السفلية، فيمثل ذلك ضغطا على الصخور المنصهرة في الوشاح، لتضغط هي أيضا على عدة مناطق في غلاف الأرض الصخري.
مع هذا الضغط الشديد تجد تلك الصخور المنصهرة طريقها عبر إحداث ثقوب في قشرة الأرض، تلك هي البراكين، وما تنفسه من حمم بركانية ما هو إلا تلك الصخور المنصهرة (الصهارة أو الماغما) القادمة من باطن الأرض عند الوشاح. وهناك أكثر من 1500 بركان نشط معروف حول العالم، ومعظمها يقع قريبا من مناطق تداخلت فيها الصفائح التكتونية بالشكل نفسه، فالبراكين إذن ليست إلا وجه العملة الآخر للزلازل، فكلاهما يعبر عن أحد الجوانب الكارثية لعلاقة الصفائح التكتونية ببعضها.

لكن الأمر لا يتوقف عند الزلازل والبراكين، إذ تتداخل الصفائح التكتونية بصور متنوعة، فقد تلتقي معا في بعض الأحيان مثلما تلتقي السيارات في حالات التصادم، فتدفع قشرة الأرض للانبعاج صانعةً الجبال، مثل قمم الهيمالايا التي تكتسب ارتفاعا مقداره عدة سنتيمترات كل عام، بسبب التقاء الصفائح التكتونية الكبيرة، أو قد تبتعد تلك الصفائح عن بعضها، فتصنع قيعان البحار والمحيطات والوديان، مثل الوادي المتصدع الكبير في شرق قارة أفريقيا.
هذا التغير الدائم في حالة الصفائح التكتونية وما تسببه من تغير في جغرافيا الأرض على مدى تاريخها دفع العلماء إلى افتراض مثير جدا للانتباه، يقول إن الصفائح التكتونية لم تكن فقط السبب في أكبر الكوارث على مر تاريخنا من براكين وزلازل، بل كانت أيضا هبة الأرض التي تسببت في استقرار الحياة بها على مدى مليارات السنوات الماضية.
حركة الصفائح.. قارب النجاة يوم خذلتنا الشمس
على مدى عقود عدة، تساءل العلماء في نطاق البيولوجيا الفلكية عن السر في استقرار المناخ نسبيا على كوكب الأرض بشكل يجعله صالحا للحياة كي تنتشر وتزدهر. وفي عام 2015 قام “جيمس دوم” و”شيجينوري ماروياما” من معهد طوكيو للتكنولوجيا ببناء فرضية جديدة سميت: “الثالوث الصالح للسكنى”.
تفترض تلك الرؤية أنه لكي يكون كوكب ما صالحا للحياة، فلا يكفي فقط أن يكون على مسافة من أحد النجوم كما هو مشهور، بحيث تكون المياه سائلة، فلا يكون قريبا كفاية فتتبخر المياه، ولا بعيدا فتتجمد، بل يقول العالمان إنه لا بد من احتواء الكوكب على غلاف جوي مناسب، وكتلة أرضية يمكن أن تتبادل الموارد مع هذا الغلاف الجوي، في دورة عظيمة مستمرة لا تتوقف أبدا، وهنا تحديدا يظهر الدور الأساسي الذي تلعبه الصفائح التكتونية، فهي تُعيد تدوير الماء وثاني أوكسيد الكربون، ومعهما العناصر الضرورية للحياة.

إلى جانب ذلك يرى العلماء أن الصفائح التكتونية لعبت دور منظم الحرارة العالمي على مدى مليارات السنين، فمثلا منذ حوالي 2.5 مليار سنة كانت الشمس شديدة البرودة، لدرجة أن المحيطات السائلة على سطح الأرض كان ينبغي أن تتجمد، لكنها لم تتجمد، لأن حركة الصفائح التكتونية تسببت في إنشاء البراكين التي نفث المزيد من ثاني أوكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي، مما تسبب في احترار عالمي كثيف أذاب الثلوج وأسال المياه.
بعد ذلك -عندما أصبحت الشمس أسخن- هطلت الأمطار بشكل كثيف على مدى آلاف إلى ملايين السنوات، وأخذت معها ثاني أوكسيد الكربون من الغلاف الجوي، ثم تسببت حركة الصفائح التكتونية لاحقا في سحبه إلى وشاح الأرض مما أدى إلى عزله بعيدا. حاليا يرى العلماء أن هناك دورة مدتها مليون سنة تقريبا بين الصفائح التكتونية والغلاف الجوي، هي التي كانت سببا في استقرار مناخ الأرض نسبيا، أو بما يكفي لدعم أشكال الحياة المتنوعة.

هل نجد في المجموعة الشمسية كواكب أخرى تحتوي على صفائح تكتونية متحركة؟ الإجابة هي “لا”، لكن يرى بعض العلماء أن المريخ كان كذلك يوما ما قبل عدة مليارات من السنين، وذلك ما ساعده على الحفاظ على الماء وربما النباتات وأشكال الحياة الأخرى، لكنه لسبب ما توقَّف، ففقد أحد أهم مزاياه باعتباره كوكبا صالحا للحياة. كما أننا لا نمتلك إلا تقنيات محدودة لتكشف لنا مدى شيوع الصفائح التكتونية في الكواكب حول النجوم الأخرى، لذا فإننا نجهل إن كانت الكواكب التي تدور حول نجوم غير الشمس تحتوي على صفائح تكتونية أم لا.
وما زلنا بحاجة إلى كثير من الأبحاث في هذا النطاق للتأكد من فرضية “الثالوث الصالح للسكنى”، لكن العلماء حاليا يميلون إلى أن صفائح أرضنا التكتونية كانت سببا أساسيا في دوام الحياة على سطحها، يعني ذلك أن البراكين والزلازل التي قتلت أشكالا متنوعة من الحياة منها بنو الإنسان، على مدى تاريخ هذا الكوكب الطويل، كانت أيضا أحد أسباب استقرارهم.
المصادر
1- Tambora 1815: Just How Big Was The Eruption?
https://www.wired.com/2015/04/tambora-1815-just-big-eruption/
2- what is a volcano
https://www.nationalgeographic.org/forces-nature/volcanoes.html
3- What is plate tectonics?
https://www.livescience.com/37706-what-is-plate-tectonics.html
4- Earth Our Home Planet
https://solarsystem.nasa.gov/planets/earth/in-depth/
5- Anatolian Fault, Turkey
6- The Anatolian Plate
http://eurasiatectonics.weebly.com/anatolian-plate.html
8- Earth’s Tectonic Activity May Be Crucial for Life–and Rare in Our Galaxy
9- Why Earth’s Cracked Crust May Be Essential for Life
https://www.quantamagazine.org/why-earths-cracked-crust-may-be-essential-for-life-20180607/