“المستشعرون”.. كائنات ذكية ذات حواس سمعية وبصرية مذهلة

يتفحص البشر العالم بخمس حواس، لكن هناك عدة جوانب من هذا العالم لا يمكننا رؤيتها أو سماعها أو شمها أو لمسها أو تذوقها. أما الحيوانات فهي تستشعر كثيرا مما هو أبعد من قدراتنا. تخيلوا لو أمكننا استخدام مغناطيسية الأرض للتنقل، أو التواصل باستشعار الاهتزازات الزلزالية، وماذا لو كنا قادرين على الصيد بالكشف عن كهربية فرائسنا؟

نستعرض فيما يلي فيلم “المستشعرون” الذي بثته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “تكنولوجيا الحيوان”، ويسلط الضوء على ستة من هذه الحيوانات التي وهبها الله قدرات مذهلة في الوصول إلى المدخلات الحسية التي لا يمكن للبشر إلا أن يحلموا بها.

التقاط الذبذبات.. كائن عملاق يسمع بغير أذنيه

حين نتخيل الفيلة، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو آذانها، ومن حيث الحواس تجعلنا الأذن نفكر في السمع، لكن بالنسبة للفيل فالسمع بواسطة الأذنين ليس القصة بأكملها، إذ يُعتقد أنه يستطيع السماع بواسطة قدميه أيضا. فهل تحمل هذه المخلوقات إجابات لتصاميم أفضل لأجهزة السمع؟

يقول المهندس “روبرت سبارلينغ” إن الفيلة تتمتع بعدة آليات تكيّف ليست منتشرة في بقية مخلوقات المملكة الحيوانية، كقدرتها على استخدام الموجات تحت الصوتية للتواصل والتصرف كما لو كانت أجهزة لقياس الزلازل في عالم الحيوان.

تستطيع الفيلة أن تلتقط  بأقدامها الذبذبات الأرضية، سواء كانت تسونامي أو زلزالا وذلك قبل التقاط بقية الحيوانات لها

تتضمن حاسة السمع التقليدية أجزاء الأذن الثلاثة التي تعمل معا لإيصال صوت إلى الدماغ. ولأن الصوت عبارة عن اهتزاز فهو يحرك الهواء من حوله، فحين يقرع الجرس مثلا يتحرك الهواء الذي حوله ليخلق موجات صوتية تصطدم بالأذن الخارجية ثم الوسطى فالداخلية، قبل أن تنتقل إلى الدماغ. تعتمد الفيلة على السمع التقليدي طوال الوقت، ولكن يبدو كذلك أنها تلتقط الأصوات التي ليست في الهواء، إذ يمكنها أن تستشعر الهدير قبيل العاصفة.

ويُوضح “سبارلينغ” أن هناك كثيرا من الأدلة على أن الفيلة تلتقط الذبذبات الأرضية، سواء كانت تسونامي أو زلزالا قبل التقاط بقية الحيوانات لها، فتبدأ بالابتعاد أو بتغيير سلوكها استجابة لشيء ما قبل أن يرصده البشر.

انتقال الصوت في الأوساط الكثيفة.. سر الفيل

يتراوح نطاق السمع البشري من 20 هيرتز إلى 20 ألف هيرتز، بينما تستطيع الفيلة سماع ترددات يبلغ أعلاها 16 ألف هيرتز، وأدناها 5 هيرتز، وهي أصوات أخفض بكثير من أن نلتقطها نحن، ويمكن للفيلة إصدار الأصوات كذلك بترددات منخفضة، وفي حين يمكن لأي أحد بالقرب منها سماع صرخاتها عالية النبرة، فإن أصواتها المنخفضة قادرة على الانتقال لمسافات أبعد بكثير.

الفيلة تستخدم أقدامها الكبيرة للسمع وربما للحديث أيضا

وتقول عالمة الحيوان “كريستين رودريغو” إن الحبال الصوتية لدى الفيلة أطول بثماني مرات من ما عند البشر، وهي تهتز بترددات منخفضة، وتستطيع الفيلة إرسالها إلى الأرض في موجات متتابعة.

ويقول المهندس “سبارلينغ” إن الصوت ينتقل في الأوساط عالية الكثافة على نحو أفضل بكثير من الأوساط قليلة الكثافة. لذا حين يصدر الفيل صوتا ما، فهو ينتقل في الهواء لمسافة 9 أو 10 كم على الأكثر، لكن انتقاله عبر الأرض يكون أكثر كفاءة بكثير، حيث قد يقطع ما بين 16 و30 كم.

“التوصيل العظمي”.. أذن في القدم تسمع همسات الأعماق

في الماضي، إن أردت أن تعرف إن كان القطار قادما كنت تضع أذنك على السكة، وبسبب كثافة الحديد المرتفعة ينتقل الصوت فيه على نحو أكثر كفاءة، وبالتالي يمكنك سماع صوت حركة القطار بوضوح، قبل أن تسمع صوته عبر الهواء بوقت طويل.

حين يضغط الفيل بقدمه على الأرض فهو يتحسس الطاقة الميكانيكية مباشرة بدلا من المرور بمراحل استشعارها عبر الأذن

من المثير للدهشة أن قدم الفيل قد تكون أذنا كذلك عن طريق “التوصيل العظمي”، وقد تبدو هذه الحاسة من عالم آخر، لكن من المفيد أن نتذكر أن واحدا من أشهر الملحنين كان يستخدم أسلوبا مشابها، فقد ألّف “بيتهوفن” بعضا من أفضل أعماله بعد أن فقد حاسة السمع، بوضع قضيب في فمه لضبط البيانو، أي أنه استخدم “التوصيل العظمي” لسماع موسيقاه.

ويُوضح “سبارلينغ” أنه حين يضغط الفيل بقدمه على الأرض، فهو يتحسس حقيقة الطاقة الميكانيكية مباشرة بدلا من المرور بمراحل استشعارها عبر الأذن، فالأمر أشبه بشخص يربت عليك وتشعر بالتربيت بدلا من سماع صوته.

ولكن كيف يعمل هذا التوصيل بالضبط؟

“الجسيمات الباتشينية”.. قدرات تحمي النوع وتلهم التكنولوجيا

تمتلك الفيلة -شأنها شأن جميع الثدييات- مستقبلات تدعى “الجسيمات الباتشينية” في جلدها، وهي موصولة بجزء الدماغ المسؤول عن معالجة اللمس والاهتزاز، ولها عدد هائل من هذه المستقبلات على حواف أقدامها وأصابعها الكبيرة، وقد لاحظ الباحثون أنها حين تلتقط إشارة بعيدة تضغط بأقدامها على الأرض مما يتيح لها تكبير سطح القدم بمقدار 20%.

لم تساهم قدرة الفيل الفائقة للحواس عبر الذبذبات الأرضية في نجاح نوعه وحسب، لكنها ألهمت التكنولوجيا البشرية كما في أجهزة السمع التي تعمل بـ”التوصيل العظمي” بدلا من تضخيم الصوت، فالجنود اليوم يستخدمون هذه التقنية للسماع بسماعات رأس مدمجة في خوذاتهم مصممة خصيصا لهذا الغرض، حتى أن الغواصين استفادوا من الأثر الانتشاري لأبحاث الذبذبات عند الفيلة.

أجهزة السمع التي تعمل بـ”التوصيل العظمي” _كما يفعل الفيل_ مدمجة في خوذات العسكر

لقد أصبح ممكنا توصيل أجهزة جديدة بنظارات الغوص وضغطها على رأس الغواص لإيصال رسائل من أحد الغواصين المرافقين بواسطة “التوصيل العظمي”.

ملك الظلام.. طريقة مذهلة لصيد العشاء بالصدى

بينما تستخدم الفيلة أقدامها للسمع وربما للحديث أيضا، فهناك في أعالي السماء مخلوق مذهل آخر يستخدم حاسة سادسة مختلفة تماما لاصطياد عشائه في الظلام. إنه الخفاش، فهذه المخلوقات ليست قادرة على الرؤية بوضوح تماما كرؤيتنا في النور وحسب، بل لديها طريقة للرؤية في الظلام كذلك. أيمكن للخفافيش أن تُقدّم لنا الإجابات لمركبات أكثر حساسية وآلات طائرة؟

الخفافيش تحدد المواقع بواسطة الصدى للعثور على فرائسها واصطيادها

يشير المهندس “روبرت سبارلينغ” إلى أن ما يفعله “الخفاش” بتحديد المواقع بواسطة الصدى هو أمر تحاول البشرية فعله منذ عقود، وتكاد تقترب الآن من القدرة على صنع مركبات مستقلة ذاتية القيادة. وبشكل أساسي، لا بد أن تكون هذه المركبات قادرة على تشكيل صورة لمحيطها وفهمه.

والأكثر إثارة للدهشة هو كيفية استخدام الخفافيش تحديد المواقع بواسطة الصدى للعثور على فرائسها واصطيادها. فنظرا إلى صغر حجم الحشرات التي تصادفها وسرعتها في الحركة، تستخدم الخفافيش طريقة مذهلة للتفوق على الفريسة وعدم الوقوع فريسة لغيرها من الحيوانات في الوقت ذاته، وتكمن في استخدام النقر والصدى.

ولكن كيف يعمل تحديد المواقع بالصدى؟

نقرات الخفافيش.. تقنية تصطاد ألف حشرة في الساعة

تبدأ عملية تحديد المواقع بإصدار الخفاش للصوت بقبض حنجرته. ويقول عالم الأحياء “آندرو ليوين” إن الصوت ينتقل لمسافة معينة ثم يرتد عن جسم ما ليعود إليه، فيكون قادرا على تجميع أجزاء الصورة أثناء حركته، ورغم قدرتنا على سماع بعض تلك النقرات التي تُصدرها الخفافيش، فإن معظمها موجات فوق صوتية، وهي تتجمع بين الأصوات ذات التردد المنخفض والعالي.

يطلق الخفاش أصواتا عالية التردد تنتقل لمسافات محدودة تعطي دقة كبيرة في تحديد موقع الفريسة

ويقول المهندس “روبرت سبارلينغ” إن الأصوات عالية التردد تنتقل لمسافات محدودة، لكنها تعطي دقة جيدة جدا على عكس الأصوات ذات الترددات المنخفضة التي تنتقل لمسافات أبعد، وإن لم تحمل هذا القدر من المعلومات.

وتقول عالمة الأحياء “إيميلي روندل” إن الخفافيش قادرة على مباغتة المخلوقات بالهجوم، لأنها قادرة على الرؤية أو الاستشعار في الظلام، ويمكنها اصطياد أكثر من ألف حشرة في الساعة.

ولا يزال المهندسون يحلمون بالقدرة على تنفيذ ميكانيكا رسم الخرائط بنفس كفاءة الخفافيش، إذ تتراوح شدة الأصوات ما بين 50 إلى 120 ديسيبل، أي أعلى من جهاز إنذار الحريق الذي ينطلق صوته على مسافة 10 سنتيمترات من آذانكم، حتى إنها مرتفعة جدا على الخفافيش ذاتها، لدرجة أنها طورت آلية أخرى للتكيّف مع هذا، فمن المدهش أن عضلة أذنها الوسطى تنقبض بستة أجزاء من الثانية قبل إصدار النقرة، ثم تعود إلى الانبساط بعد مدة تتراوح ما بين جزأين إلى ثمانية أجزاء من الثانية، وحينها تكون الأذن جاهزة لتلقي الصدى حتى لا تُصم آذانها.

قدرة الخفاش على تحديد المواقع بالصدى يلهم المهندسين لتطوير تقنية سونار تساعد المكفوفين على السير

لم تلهم قدرة الخفاش على تحديد المواقع بالصدى المهندسين لتطوير تقنية السونار والمركبات ذاتية القيادة فحسب، بل إن علم الأعصاب استخدم هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة لتحقيق نتائج مدهشة. فقد أجريت عام 2019 أبحاث على أشخاص يعانون من إعاقات بصرية تعلموا استخدام الصدى في رسم خرائط لمحيطهم، وقد اكتُشف أن المنطقة الدماغية المسؤولة عن قراءة الضوء هي ذاتها المستخدمة في رسم خرائط المواقع المكانية بواسطة الصوت.

خُلد الماء.. حاسة سادسة تصطاد الفرائس في المياه العكرة

تشتهر أستراليا بحيواناتها من الكنغر إلى دبة الكوالا إلى خُلد الماء الذي يعد أكثر المخلوقات غرابة، فهو يتمتع بواحدة من أكثر القدرات الحسية استثنائية في المملكة الحيوانية، إذ لديه فم بطة، وذيل قندس، ومخالب وأقدام شبكية، كما أنه قادر على إفراز السم، وهو أحد نوعين فقط من الثدييات على وجه الأرض يضعان البيض.

لكن أكثر الصفات غرابة في خُلد الماء هي قدرته المميزة على إيجاد فرائسه، فقد استحوذت هذه الخاصية على اهتمام العلماء، خصوصا أولئك الذين يعملون في مجال المحاكاة الحيوية، فعلى سبيل المثال يمكن أن نتساءل في مجالات كصناعة الأطراف الصناعية، هل يمكن لتقليد الحاسة السادسة لدى خُلد الماء أن تساعد في تصميم أطراف صناعية مثالية؟

خُلد الماء يتمتع بواحدة من أكثر القدرات الحسية استثنائية في المملكة الحيوانية

ولنفهم إمكانات هذا المخلوق المُحيّر، علينا أن نُلقي نظرة على بيئته الطبيعية، فهو يتمكن بطريقة أو بأخرى من الإمساك بفرائسه في المياه العكرة، ولا يمكنه البقاء تحت الماء أكثر من دقيقتين، وهو يتغذى في القاع، وحين يرصد ديدانا أو يرقات أو حشرات يفتح فمه ويمسك بالفريسة بخديه ثم يتناولها بمجرد عودته إلى السطح، ولتأمين طعامه في الوقت المحدود الذي يمكنه فيه حبس أنفاسه، فهو يميل للبحث عن الطعام في المسطحات المائية الضحلة التي يتراوح عمقها ما بين 3-16 قدما.

رصد الحركة.. صياد ماهر يتسلح بآلاف المستشعرات

نظرا لغياب الرؤية والشم والسمع، قد يظن المرء أن خُلد الماء يمارس الصيد في حدوده الدنيا، لكن الحقيقة عكس ذلك تماما. تقول عالمة الحيوان “كريستين رودريغو” إنه صياد ماهر يأكل ما يصل إلى 50% من كتلة جسمه عند الصيد الذي يستمر إلى 12 ساعة.

شبكة واسعة ومعقدة من المستقبلات على منقار خلد الماء تمكنه من تحديد موقع فريسته

ولتحقيق ذلك، زوّد الخالق -سبحانه وتعالى- “خُلد الماء” بشيء ذي قوة خارقة؛ شبكة واسعة ومعقدة من المستقبلات على منقاره. وتقول “رودريغو” إن لديه نحو 60 ألف مستقبل ميكانيكي، و40 ألف مستقبل كهربائي، وجميع هذه المستقبلات تعمل معا في إيجاد الفرائس.

تكتشف المستقبلاتُ الميكانيكية الضغطَ والحركة في الماء اللذين تولدهما الفريسة نفسها، في حين تلتقط المستقبلات الكهربائية النبضات الكهربية الدقيقة التي يولدها النشاط العضلي ونبض قلب الفريسة.

وأحد الأمثلة على هذا النظام المزدوج هو استخدام الرعد والبرق للتنبؤ بالعاصفة؛ فتموجات اضطراب المياه تُشبه الرعد، في حين تُشبه النبضات الكهربائية المتولدة عن عضلات الفريسة البرق. وينتقل هذان النوعان من الإشارات معا إلى دماغ الخُلد، حيث تتشكل صورة شبيهة بالسونار لقاع النهر وما فيه من كائنات.

القوة الخارقة لخُلد الماء تلهم العلماء أفكارا لتطوير الأيدي الصناعية

يقول المهندس “روبرت سبارلينغ” إنه أثناء حركة الخُلد في الماء، إن تحرك حيوان صغير أو أحد القشريات يمكنه رصد تلك النبضات الكهربائية والتركيز عليها، وإن اقترب بما يكفي يلتقط بمستشعراته اللمسية مصدر الطعام ذلك ويمسك به.

وليس لدينا نحن البشر أي مستشعرات مباشرة للكهرباء، فليس من نظامنا الحسي قوة استشعار للحقول الكهربائية، أما خُلد الماء فهو حساس بما يكفي لالتقاط النبضات الكهربائية متناهية الصغر المتولدة من فرائسه. وقد تمنحنا دراسة القوة الخارقة لخُلد الماء أفكارا لتطوير تقنية حاسة سادسة متقدمة، كتجنب الاصطدام في المركبات أو العوالم الافتراضية في ألعاب الفيديو.

أفعى الحُفَر.. أشعة حمراء ترصد ذوات الدم الحار

كان التقدم الذي أحرزناه في تقنية الكاميرات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء مذهلا، ولكن ماذا لو كانت هذه التقنية مدمجة في بنيتنا الحيوية؟ قد يبدو هذا الأمر ضربا من الخيال العلمي بالنسبة لنا، ولكن بالنسبة لأفعى الحُفَر فالأمر مفروغ منه.

أفاعي الحفر هي مجموعة مكونة من 151 نوعا من الأفاعي

فأفاعي الحفر -بما فيها الأفعى الجرسية وأفعى الدسّاس- هي مجموعة مكونة من 151 نوعا من الأفاعي. تتنوع بيئتها الطبيعية ما بين الصحاري والغابات المطيرة، وهي تفضل الفرائس ذوات الدم الحار والصيد ليلا.

يقول المهندس “روبرت سبارلينغ” إنه في الطيف البصري -الذي نعتمد عليه في الرؤية- لن نرى شيئا في ظلام الليل، ولكن في طيف الأشعة تحت الحمراء نتلقى كمية كبيرة من المعلومات، لذا إن كان هناك حيوان باعث للحرارة -أي يُولّد الحرارة كجزء من تركيبته الحيوية- فستصبح كل تلك الحرارة مرئية.

للأفعى زوج من “عضو الحفر” وهو تجويف على جانبي رأسها بعرض مليمتر واحد تقريبا يمكنها من الرؤية الليلية

ضوء الأشعة تحت الحمراء هو إشعاع كهرومغناطيسي ذو أطوال موجية أكبر من الضوء المرئي، ولذلك فهو غير مرئي للعين البشرية بشكل عام، وما يمنح هذه الأفاعي رؤيتها للأشعة تحت الحمراء هو عضو الحفر، وتتمتع الأفعى بزوج منه عبارة عن تجويف على جانبي رأسها بعرض مليمتر واحد تقريبا، ويضم غشاء فيه أكثر من 1600 خلية مستقبلة تتصل بنهايات الأعصاب التي ترسل إلى دماغ الأفعى إشارات حول درجة حرارة فريستها.

الثعلب الأحمر.. رسم ثلاثي الأبعاد في رأس صياد منفرد

قد تعطينا الكاميرا التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء فكرة عن ما يحدث مع أفعى الحفر، لكن حيوانا آخر يعيش في نصف الكرة الشمالي يستخدم حاسة إضافية تُحيّر عقولنا نحن البشر؛ إنه الثعلب الأحمر الصيّاد المنفرد المخضرم.

يستخدم الثعلب حواس فائقة الدقة لتعقب الفرائس وقتلها، ومنها أذنان فائقتا الحساسية وعينان قادرتان على الرؤية الليلية، كما أنه يتمتع بمهارة فريدة لا يسعنا تصورها. يقول عالم الأحياء “آندرو ليوين”: الكيفية التي يصطاد بها تعتمد على الصوت والمجال المغناطيسي، ويشكلان مزيجا لرسم موقع ثلاثي الأبعاد للمكان الفعلي لوجود قارض ما، فهو مفترس فائق الكفاءة.

للثعلب حواس فائقة الدقة يتعقب بها فرائسه ويقتلها ومنها أذنان فائقتا الحساسية وعينان قادرتان على الرؤية الليلية

وتقول عالمة الحيوان “كريستين رودريغو” إنه يرسم خريطة أخرى غير التي يرسمها جهازه البصري، وهي ميزة إضافية تشبه ارتداء زوج إضافي من المناظير المغناطيسية، غير أنها تشكل جزءا أصيلا من جسمه.

ولكن كيف تعمل هذه الحاسة الاستثنائية؟ وكيف لمخلوق أن يستخدم قوة كالمجال المغناطيسي؟

اتجاه الشمال الشرقي.. تميمة حظ تخترق الثلوج والأعشاب

إننا ندرك منذ وقت طويل الميزات التطورية للثعلب في السمع والرؤية لمساعدته على الصيد، لكن العلماء لم يدركوا احتمال وجود شيء آخر إلا في عام 2010. فمن خلال مراقبة الثعلب الأحمر وهو يصطاد القوارض التي تختفي تحت الثلوج أو بين الأعشاب الطويلة، لاحظوا أن نسبة نجاحه تتحسن بشكل ملموس حين يكون في مواجهة اتجاه الشمال الشرقي، فعند الهجوم من هذه الزاوية تنجح الثعالب بنسبة 75% من المرات مقابل 20% فقط عند المهاجمة من اتجاهات أخرى.

باستعمال المجال المغناطيسي للأرض، يقدّر الثعلب المسافة بينه وبين فريسته وينقض عليها بشكل قوسي

قد يكون الثعلب يستخدم حاسة مغناطيسية أرضية، فبينما يتسلل باتجاه صوت القوارض البعيد، فإنه ينتظر الوصول إلى البقعة المناسبة التي تُحاذي فيها زاوية اصطدام الصوت بأذنيه منحنى المجال المغناطيسي للأرض، وعندها يدرك الثعلب أنه على مسافة ثابتة من فريسته، ويعرف إلى أي مدى عليه الانقضاض.

يُدعى استشعار المجال المغناطيسي للأرض بالاستقبال المغناطيسي، رغم أننا نعرف أن حيوانات أخرى تستخدم هذه الخاصية للملاحة كالطيور المهاجرة، لكن الثعلب الأحمر هو أول حيوان يعرف باستخدامها لغاية الصيد.

بروتينات العين.. جهاز يجعل القفزة العمياء أكثر دقة

يرى العلماء أن سر الثعلب الأحمر يكمن في “الكريبتوكرومات”، وهي بروتينات في شبكية عين الثعلب، وهي موجودة في كافة الممالك الحيوية بما فيها البشر، وتساعد على تسوية إيقاع الساعة البيولوجية، ولكن بالنسبة للثعلب فهي تؤدي وظيفة مختلفة تماما.

وتشير العلوم الحديثة إلى أنها حساسة كذلك للمجال المغناطيسي للأرض، ومن المحتمل أن تكون الثعالب قادرة بفضلها على رؤية الشمال المغناطيسي على شكل حلقة ظلية، كما نرى العلماء أن الطيور ترى هذه الحلقة الظلية أثناء تحليقها، وهي تمثل للثعالب جهازا لتحديد المدى يجعل قفزاتها العمياء أكثر دقة.

“الكريبتوكرومات” هي بروتينات في شبكية عين الثعلب الأحمر بفضلها يرى الشمال المغناطيسي بشكل حلقة ظلية

في حين يستخدم الثعلب الأحمر المجال المغناطيسي للعثور على طعامه، يرى علماء أن كائنات أخرى تستخدم الاستقبال المغناطيسي للعثور على مواطنها. وفي عام 2019، حقق علماء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا اكتشافا مذهلا، فقد حيث وجدوا أن البشر ربما يكونون قادرين على التواصل مع المجال المغناطيسي للأرض بواسطة بلورات صغيرة من الحديد في أدمغتهم.

سلاحف البحر.. قدرات ملاحية تعبر المحيط منذ ملايين السنين

سلاحف البحر من الأنواع القديمة، فهي موجودة منذ حوالي 110 ملايين عام، أي منذ حقبة الديناصورات، وهو أمر لا يُصدق نظرا إلى أن أقل من 0.1% فقط من فراخ السلحفاة يبقى على قيد الحياة، تضع السلحفاة 200-400 فرخ لن يصل منها إلى مرحلة البلوغ سوى واحد أو اثنين. ولك أن تتخيل مدى خطورة دورة حياتها هذه من الفقس إلى البلوغ.

لدى السلاحف قوة سحرية لاستشعار مغناطيسية الأرض تجعلها قادرة على العودة إلى مكان فقسها بعد البلوغ

يقول المهندس “روبرت سبارلينغ” إن السلاحف البحرية تمتلك قوة ملاحية سحرية تعتمد على استشعار مغناطيسية الأرض، وتجعلها قادرة على العودة إلى مكان فقسها مجددا عندما تصل إلى مرحلة النضج الجنسي بين سن 10-15، لتضع بيضها، ثم تعود فورا إلى البحر، وهكذا كل سنة.

ويروي عالم الأحياء “آندرو ليوين” أن العلماء رصدوا في فبراير/شباط عام 2020 سلحفاة تنتقل من أستراليا إلى أنغولا ثم تعود، وهي مسافة تبلغ 22 ألف كيلومتر.

إذا كيف تتمكن من إنجاز هذه الأعمال الملاحية المذهلة؟

يبدو أنها بوصلة تنفس وسباحة على تواصل وتفاعل مستمرين مع مغناطيسية الأرض. تقول عالمة الحيوان “كريستين رودريغو” إنه يُعتقد أن سلاحف البحر تعتمد على تلك الإشارات المغناطيسية المتأصلة فيها منذ الولادة، وبأنها تتمتع بخاصية الاستقبال المغناطيسي الذي يتيح لها استخدام الحقول المغناطيسية للأرض لمعرفة الاتجاهات التي تسلكها، كما يُعتقد أن استشعار مغناطيسية الأرض يقع بواسطة بلورات من “المغنيتيت” موجودة في خلايا مستقبلاتها، وهو أكثر معادن الأرض الطبيعية مغناطيسية.

بواسطة بلورات من “المغنيتيت” الموجودة في خلايا مستقبلاتها، تحدد سلاحف البحر طريقها

ومن الأشياء المذهلة في علم الأحياء قدرته على تسخير عدد من الخصائص الفيزيائية المختلفة لكوننا، وأحد هذه الخصائص هو المجال المغناطيسي للأرض. وفي هذه الأثناء، وإلى أن نجد طريقة للاستفادة من “المغنيتيت” الخلوي لدينا، سنظل عالقين بأدواتنا الملاحية التقليدية الأقل مثالية.

وسواء أكان الاستقبال المغناطيسي في السلاحف البحرية أو الثعالب الحمراء، أو حاسة المنقار المذهلة في خُلد الماء، فقد خلق الله حواس إضافية لعدد من الحيوانات تتجاوز نطاق فهمنا، ولكن رغم كونها بعيدة عن متناول أيدينا، فإن هذه الخصائص تمنح الإلهام لآلاتنا وأجهزتنا وتقنياتنا، وتعمل أيضا على تطوير وتحسين حياتنا.