“أمة التكنولوجيا”.. بلد زراعي فقير يصنع المعجزات على بساط التقنية

تعتبر كوريا الجنوبية من أكثر الدول اتصالا على الكوكب، ولا يكاد يخلو بيت فيها من خدمة الإنترنت، وقد لا تجد فيها راشدا لا يحمل هاتفا ذكيا، وتتجه البلاد بأكملها لتطبيق تكنولوجيا عدم التلامس في كل مجالات الحياة، بحيث تكون الرقمنة والخوارزميات هي التي تسيِّر أنماط الحياة في أنحاء البلاد.

نستعرض فيما يلي حلقة بعنوان “أمة التكنولوجيا”، عرضتها قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “الهوس الكوري”، وسوف تصحبنا فيها الصحفية الأمريكية ذات الأصل الكوري “جو لي”، لتأخذنا في رحلة إلى عالم من الخيال الرقمي، والذكاء الصناعي، وتقنيات المعلومات التي تفتقت عنها العبقرية الكورية.

ثورة كوريا.. معجزة المدينة الرقمية الفاضلة

يمكن أن نجد أمثلة على المستقبل الذكي في متحف “تي يو إم” (TUM) الذي أُسس لنتخيل حياتنا في 2051، إنه يأخذنا في جولة تفوق الخيال لما سيكون عليه الذكاء الصناعي وتكنولوجيا الاتصال في ذلك الزمن، سندخل عالم “اليوتوبيا”، أو المدينة الفاضلة.

أجهزة طبية فائقة التطور تستطيع القيام بتشخيص الأمراض وعلاجها دون تدخل الطبيب يدويا

وكمثال على ذلك، وفي داخل الكبسولة الطبية من المتحف، سوف تُجهَّز المستشفيات مثلا بمعدات فائقة الذكاء، يمكن أن تشخص الإصابة وتصف العلاج، وتقوم بتصنيع بديل الأجزاء التالفة أو المكسورة بواسطة الطباعة ثلاثية الأبعاد، ثم تقوم تركيبها في الجسم حالا.

لكن علينا أن نتعمق في التاريخ لنفهم سبب هوس كوريا بالتقنية، فبعد تأسيسها جمهورية في 1948، اعتُبِرت البلاد أمة فقيرة يغلب عليها الطابع الزراعي، بينما تركزت معظم الصناعات والكهرباء في كوريا الشمالية، وقد أسفرت الحرب بين الكوريتين في الخمسينيات عن تأخر عملية الانتعاش الاقتصادي لأمد طويل.

أما ما قلب مجرى الأمور، فهو قرار الحكومة بمنح الأولوية لقطاع الإلكترونيات والتكنولوجيا في الثمانينيات، مما ساعد البلاد على تغيير شكل اقتصادها كليا، وحوَّل كوريا الجنوبية إلى واحدة من أضخم 10 اقتصادات في العالم خلال ثلاثة عقود فقط. ومنذ ذلك الحين يتزايد الولع بالإلكترونيات والتقنية.

يقضي الكوريون ما معدله 46 مليار دقيقة شهريا أمام الشاشات الذكية

يقضي الكوريون اليوم حوالي 4 ساعات مع أجهزتهم الذكية، وهذا يعد من أعلى المعدلات عالميا، وقد تعدى استخدامُ كوريا للتقنية المكاسبَ الاقتصادية، فقد أظهرت مكافحة البلاد لجائحة كورونا سبب تصدُّرها للثورة الصناعية الرابعة، فالتواصل الفائق والتقدم التقني والذكاء الرقمي مكّن كوريا من تسطيح معدلات كورونا في أقل من شهر، وهو الأمر الذي أشاد به العالم بأسره.

وكانت تقنيات متابعة المصابين وتحديد الأماكن التي قصدوها والناس الذين خالطوهم، هي العامل الحاسم في السيطرة على انتشار الوباء، فقد استخدمت كوريا تقنيات المتابعة بالكاميرات (8 ملايين كاميرا) وتحديد أمكنة المصابين عن طريق إشارات “جي بي إس” (GPS)، وكانت تطلب منهم إتمام إجراءات الحجر المنزلي، للحد من انتشار الفيروس، بدون التأثير على نسيج الحياة الاعتيادية.

وهنا يتساءل البعض: ما أثر انتهاك الخصوصية ومشاركة البيانات الشخصية دون موافقة صاحبها؟

انتهاك الخصوصية.. تصاعد جرائم الوجه القبيح للتقنية

يتعلق الجانب المظلم من التقنيات الرقمية بمسائل انتهاك الخصوصية، فقد انتشرت الكاميرات فائقة الصغر التي توضع في الحمامات العامة وغرف الفنادق، للتجسس على النساء غالبا وتصوير الأجزاء الحساسة، وهو الأمر الذي لاقى رفضا واستنكارا شديدين في الشارع الكوري.

في كوريا ثمة 7 آلاف بلاغ سنويا عن آلات تصوير مخفية وإباحية

وقد اعتقل 16201 شخص بين عامي 2012-2016 بتهمة تصوير تسجيلات غير قانونية، بلغت نسبة الرجال منهم 98%، بينما كان 84% من الضحايا نساء، وذلك من أصل 26 ألف تسجيل.

وبسبب التقنية المتقدمة، والكاميرات متناهية الصغر “المولكا” التي تثبت في أي جسم ثابت أو متحرك، فإن معدلات الجريمة الإلكترونية تتصاعد، وهناك 7 آلاف بلاغ سنويا عن آلات تصوير مخفية وإباحية منذ 2015، ولا يمكن ضمان الخصوصية في الأماكن العامة وحتى في المنازل، وهذا يسبب تهديدا للنسيج الاجتماعي الذي يوصف بأنه محافظ، وخصوصا تجاه النساء.

“تشوي دو”، رجل أعمال تقني وأب لابنتين، وقد كانتا تشتكيان له من التجسس، فحمل على عاتقه تطوير تقنية للكشف عن كاميرات “المولكا”، ونجح في تطوير رقاقة “مولغارد” التي يمكن لصقها على خلفية الهاتف المحمول، وبعد تشغيل الوامض والكاميرا، وبواسطة تحسس الأشعة تحت الحمراء، يمكن لهذه الرقاقة أن تكشف ما إذا كانت هنالك كاميرات مخفية في مكان ما.

تلصق  رقاقة “مولغارد” على خلفية الهاتف المحمول للكشف عن وجود كاميرات مخفية

شكلت الحكومة أيضا قوة ضاربة قوامها 8 آلاف عنصر، تقوم بدوريات للكشف عن الكاميرات المخبأة في الأماكن العامة، وهو تحدّ صعب إذا علمنا أن في سول وحدها 20 ألف دورة مياه عمومية. ويتتبع الجناة إما عن طريق بصماتهم، أو بواسطة تتبع الإشارات التي ترسلها تلك الكاميرات المخبأة.

وبعد رفع الصور غير المشروعة على الشبكة العنكبوتية، يأتي دور الأمن السيبراني الذي يقوم بمسح الصور بناء على طلب الضحايا. يقول “كيم هيون” مدير رابطة الأمن السيبراني: يتعرض الضحايا الذكور للابتزاز المالي مقابل عدم نشر صورهم الفاضحة، أما الضحايا الإناث فيحتفظ الجاني غالبا بصورهم ومقاطعهم لأغراض شخصية، وحالات الابتزاز هنا محدودة.

ثقافة التباهي.. سعي محموم للتفوق في مجتمع استهلاكي

يقول الأستاذ الجامعي “أندرو كيم”: بلغ إجمالي الناتج المحلي الكوري في 2020 حوالي 1.6 تريليون دولار، وهو العاشر عالميا، وقد تضاعف هذا الناتج بمقدار 1200 ضعف منذ 1953، بعد أن تدخلت الحكومة بعمق في مفاصل الاقتصاد (الرأسمالية الموجهة)، ولقد كان مفهوم “القلق” أحد الدوافع الهامة لتقدم بلادنا، فاستذكار الاحتلال الأجنبي والحرب بين الكوريتين كان الدافع دائما لتحقيق المزيد.

 

“صانع المحتوى” هي رابع المهن الأكثر طلبا بين الكوريين لما تدره من أموال على أصحابها

وقد صنفت كوريا أكثرَ الاقتصادات ابتكارا على مدى ست سنوات متتالية، ما بين 2014-2019، وتعتبر سامسونغ -فخر كوريا- ثاني أضخم شركة تقنية في العالم بعد “أبل”، وهذا نابعٌ من نزعة الكوريين الاستهلاكية التفاخرية التي تعني شراء الأشياء الباهظة الثمن للتباهي بالثراء، وهنالك أيضا النزعة الاستهلاكية التماثلية، أي أن تشتري مثل جارك أو صديقك.

محتوى يوتيوب.. طريق الشهرة المفروش بالمال

أظهرت دراسة حديثة أن الكوريين يقضون 46 مليار دقيقة شهريا على اليوتيوب، وهو ما يعادل 88 ألف سنة، وهو معدل أقل من بلاد أخرى كبريطانيا وتايلاند، ولا يقتصر الكوريون على المشاهدة فحسب، بل إنشاء القنوات وصناعة المحتوى أيضا، مثل موسيقى الكيه بوب، وتناول الأطعمة والحيوانات الأليفة.

مشاهير اليوتيوب الكوريون يحصدون عشرات الألوف من الدولارات شهريا

وقد أدت الرغبة في حب الظهور، والتلصص على حياة الآخرين، وحب جني المال، إلى نشوء مدارس متخصصة لتعليم التصوير وتأدية الحركات وتحضير المقاطع، من أجل ظهور أمثل على الشبكة العنكبوتية، حتى أصبحت صناعة المحتوى ضمن أفضل خمسِ مهن اختارها طلاب المدارس الابتدائية، بعد النجم الرياضي والطبيب والمدرِّس.

وقد أثار ارتفاعُ دخل صنّاع المحتوى -الذي يقدر بأكثر من 8 آلاف دولار، أي ثلاثة أضعاف معدل الرواتب في كوريا- شهوةَ المواطنين للدخول في هذه المغامرة المربحة، ولم يقتصر الأمر على الشباب، بل انتقلت عدوى صناعة المحتوى إلى كبار السن والأطفال، وحتى ذوي الحاجات الخاصة.

تقاعد المسنين.. ثورة زراعية ذكية بقيادة الشباب

ثمة انقسام طبقي عميق في كوريا، ولعل إتاحة يوتيوب للجميع قد كشفت عن هذا الانقسام، ولكنها في الوقت نفسه قد أتاحت لبعضهم دخلا يجسر هذه الفجوة، بل إن الثورة الرقمية أتاحت إعادة هيكلة الوظائف التقليدية، فقد بدأت كوريا ثورة زراعية قبل الثورة التكنولوجية، وها هي بفضل نفس الثورة التكنولوجية عازمة على العودة إلى جذورها الزراعية الذكية هذه المرة، بإنتاجية أكبر، ونوعية أحسن.

أحد الرواد الشباب ينشئ مزرعته الذكية المؤتمتة بالكامل لإنتاج الفراولة

ففي 2019 اختار أكثر من 70 ألف مزارع التقاعد لكبر سنهم، ولحرص الحكومة على عدم تأثر هذا القطاع الهام، فقد قدّمت إعانات مالية للمزارعين الشباب، تمثلت في تخصيص 30 هكتارا من الأراضي وقروض مغرية لهم.

ترك أحد الرواد الشباب عمله في الشركة العملاقة “هيونداي موتور”، وأنشأ مزرعته الذكية لإنتاج الفراولة، إنها أتوماتيكية بالكامل، ابتداء بري التنقيط الذي يعطي النبتة المياه المطلوبة في فترات محددة ومبرمجة من خلال الحاسوب، مرورا بأنواع السماد وكمياته ومواعيد تزويده، وانتهاء بالإضاءة اللازمة في غياب أشعة الشمس. كل هذا عبر تطبيقات ذكية يمكن تشغيلها بواسطة الهاتف عن بُعد.

وبفضل هذه التقنيات الزراعية الذكية، أصبحت ممكنةً زراعةُ المحاصيل في أي مكان أو زمان، ومهما كانت الظروف المناخية أو التضاريسية، فتزرع الفراولة في صحراء دبي، أو نخيل التمر في القطب الشمالي.

ميدان الرقمنة.. خطط العمود الفقري للاقتصاد الكوري

في سعيها لتكون قوة دافعة عالمية في مجال الذكاء الصناعي، أعلنت كوريا عن استراتيجية وطنية للذكاء الصناعي، تتضمن خططا لإدخال هذا المجال إلى المدارس في كافة الفئات العمرية، بما في ذلك رياض الأطفال، بحلول 2025.

كوريا تعلن عن استراتيجية وطنية لإدخال الذكاء الصناعي إلى المدارس في كافة الفئات العمرية

ويولي المختصون الجانب الأخلاقي في الذكاء الصناعي عناية خاصة، وتراعى هذه الأخلاقيات خصوصا عند الأطفال، حتى يتوازى لديهم تعلم الذكاء الصناعي والأخلاقيات المقبولة اجتماعيا معا.

إن زيادة التواصل تنطوي على تحمل قدر أعلى من المسؤولية، وكوريا بلد قليل الموارد الطبيعية، ويطمح إلى أن تكون التكنولوجيا والرقمنة هي المورد الأساسي للبلاد.