“طب المستقبل”.. تقنيات وقدرات جسدية تقتل أشرس الأمراض الفتاكة

الصحة هي أثمن ما نملك، لكنها تتعرض لهجوم مستمر حتى بعد قرن من التقدم العلمي في مجال الطب، وما زال جسم الإنسان لغزا مجهولا، وما زلنا تحت رحمة التهديد المستمر من الأمراض الوراثية والسرطانات والأوبئة. لكن الأطباء والعلماء في المستشفيات والمختبرات يكتشفون طرقا جديدة لتشخيص الأمراض. فأهلا بكم في عالم يكرس فيه رجالٌ ونساء حياتَهم لعلاج أجسامنا ومكافحة الأمراض.
تعرض الجزيرة الوثائقية سلسلة من 6 أفلام، تسلط فيها الضوء على الاكتشافات الرئيسية في أحدث الأبحاث، وتقدم نظرة عامة غير مسبوقة على الإنجازات المذهلة التي تشكل العالم ومستقبله.
وسنحاول في هذا الوثائقي “علوم كونية.. طب المستقبل” سبر أغوار الطب الحديث، إذ يسعى الأطباء والباحثون وراء طرق لتحسين حياتنا. ويشكل الطب والتكنولوجيا عالما جديدا يشهد اكتشافات جديدة بمعدلات غير مسبوقة. ويقوم باحثون في جامعة واشنطن الأمريكية بطباعة قلوب بشرية باستخدام تكنولوجيا ثلاثية الأبعاد، وباستخدام ماسح ضوئي بسيط ينسخ القلب بشكل متطابق، ليتعرف الجراحون على سماته التشريحية قبل الجراحة.
أما في المملكة المتحدة فتتعلم القابلات في جامعة “ميدل 6” إجراء عملية الولادة باستخدام الواقع المعزز (الافتراضي)، وهو تدريب عالي التقنية يساعد في تأهيل مقدمي الرعاية الصحية وتوفير نظرة فريدة لعملية الولادة.
ويعرف الباحثون المزيد عن اللغة العالمية التي تشكلها قواعد الحمض النووي بأحرفها الأربعة “إيه تي جي سي” (ATGC) حتى أصبحوا قادرين على تغيير الشفرة الجينية.
تقنية “كريسبر”.. ثورة تعديل المحتوى الوراثي لعلاج الملاريا
تقول “جينيفر داودنا” عالمة الكيمياء الحيوية الأمريكية: تعديل المحتوى الوراثي أطلق ثورة في علم الأحياء ومستقبل الطب والزراعة، لأن هذه التقنية تمكن العلماء من إجراء تغييرات دقيقة على شيفرة الحياة، وتمكننا من تغيير الجينات وتسلسل الحمض النووي الذي يتحكم فيها بطرق كانت مستحيلة ويصعب تخيلها، بينما أصبحت الآن تقنية مستخدمة في جميع أنحاء العالم.
وتعد تقنية “كريسبر كاس 9” (CRISPR- cas9) من أهم اكتشافات القرن الـ21، ويمكن للباحثين بفضلها تعديل هيئة الكائنات الحية وإنشاء بذور أكثر خصوبة ومقاومة في الزراعة والقضاء على أحد أشرس الأمراض في العصر، وهو الملاريا.

وتقدر منظمة الصحة العالمية أن هنالك أكثر من 25 مليون شخص مصابون بهذه الوباء، ويقتل 400 ألف شخص كل عام، معظمهم أطفال دون خمس سنين.
ولمكافحة هذا المرض، أنشئت قرية مخبرية في بوركينا فاسو تدعى “حقل البعوض”، يجري فيها علماء من جامعة “ميريلاند” تجربة وراثية على البعوض الحامل للملاريا، إذ دمجوا جينا لعنكبوت يقاوم سم هذه الحشرة، وعندما يلامس البعوض الفطر المعدل وراثيا ينتشر السم ويقتل الحشرة، دون أن يؤثر على الإنسان.
ووجدت الدراسة أن 75% من البعوض في الحقل أصيبت بالسم وهلكت جميعها خلال 45 يوما، ولم ينج منها سوى 13 حشرة فقط من أصل 3 آلاف.
نسف البعوض.. قضايا أخلاقية تواجه كبح تكاثر الحشرات
إذا لم يكن القضاء على البعوض كافيا، فالباحثون في كلية “الإمبراطور” ببريطانيا يدرسون نسف عائلة البعوض بأكملها باستخدام تقنية “كريسبر”. فمن خلال تعديل جين الخصوبة يمكن كبح تكاثر إناث البعوض وترك الذكور فقط، وهذا يؤدي إلى تقلص أعداد البعوض المتسببة بالملاريا.
تقول العالمة “داودنا”: استخدام تقنية “كريسبر” على البعوض يهدف لخلق حشرات غير قادرة على نقل المرض، وهذا أحد استخدامات تعديل المحتوى الوراثي الأكثر إثارة بسبب تأثيره على الصحة حول العالم، ويمكننا تخيل كيفية تعديل مجموعات كالبعوض لمنع انتشار الملاريا وفيروس “زيكا” والأمراض الأخرى التي ينقلها البعوض.

ومثل كثير من الأبحاث الطليعية المتطورة، لا يزال هذا البحث نظريا بحتا، لأنه يثير أيضا قضايا أخلاقية لكن لتقنية “كريسبر” استخدامات أقل إثارة للجدل، خاصة في العلاج الوراثي.
وبفضل هذا الإنزيم، يحلم العلماء بمستقبل يمكن فيه القضاء على أمراض وراثية مثل فقر الدم. تقول العالمة “داودنا”: هذا المرض يصيب 100 ألف شخص في الولايات المتحدة وآلافا حول العالم، ممن لديهم طفرة من جين واحد، وهو أحد البروتينات المكونة للهيموغلوبين الذي يحمل الأوكسجين في دمائنا، مما يتسبب بتراكم هذا البروتين.
تحفيز الجينات.. صيدلية الخلايا الجذعية في الجسم البشري
في عام 2012، فاز العالم الياباني “شينيا ياماناكا” بجائزة نوبل للطب، بسبب تطويره للخلايا الجذعية المحفزة متعددة القدرات. والخلايا الجذعية موجودة في أجسامنا، ويمكنها تكوين خلايا دموية أو عصبية جديدة، لكن الخلايا الجذعية المهمة للعلماء هي تلك المحفزة ومتعددة القدرات والتي تستطيع إنتاج أنواع مختلفة من الخلايا التي لا توجد عادة إلا في مرحلة الأجنة.
يقول الطبيب والباحث الياباني “كوجي إيتو”: تساعدنا الخلايا الجذعية متعددة القدرات على تصنيع خلايا لديها قدرات الخلايا الجنينية ذاتها، عن طريق تحفيز جين واحد فقط، بسبب قدرة الخلايا الجذعية على التحول إلى خلية تحتاج إليها أجسامنا، ويمكننا عند تعطل أي من خلايا المريض إنشاء خلايا جذعية من خلايا صحية أخرى تؤخذ من المريض نفسه بهدف شفائه.

ويمكن استخدام الخلايا الجذعية لتجديد أي عضو بشري وتكوين الدم مباشرة في المختبر، لتجنب النقص المحتمل في أعداد المتبرعين. فأول عملية نقل دم كانت في عام 1667 من خروف إلى إنسان، بينما نقل الدم أول مرة من إنسان إلى آخر عام 1818، وفي الوقت الحاضر يحاول العلماء نقل الدم الذي يتكون خارج الجسم البشري.
محاربة السرطان.. تقنيات للتغلب على الوحش القاتل
مع القدرة على تحويل أي خلية إلى جذعية وتعديل جينات البشر، فقد بتنا مسلحين بالعلم أكثر من أي وقت مضى للتغلب على الأمراض، خاصة ذلك المرض الذي يسبب صداعا شديدا للأطباء والباحثين، ألا وهو السرطان.
فقد جُندت المختبرات في كل أنحاء العالم لمكافحة الأمراض، مما أدى إلى تطورات طبية في مواقع متعددة، ففي جامعة “بورتسموث” البريطانية، يختبر علماء الأحياء الجزيئية عقارا قائما على “الأسبرين” يقلص حجم أورام الدماغ لدى الفئران. وفي معهد أورام السرطان في نورث كارولينا الأمريكية، يُختبر لقاح تجريبي لشلل الأطفال أظهر نتائج واعدة في إنقاذ حياة أشخاص مصابين بسرطان الدماغ.

كما بدأت التجارب السريرية بتقنية جديدة لإزالة الأورام بالبرودة الشديدة لتدمير الأنسجة المريضة، بينما ننتظر النتائج النهائية للتجارب، إذ تركز معظم الدراسات على جانب مهم في السرطان، وهو الوقاية. فوفقا للوكالة الدولية لأبحاث السرطان، تبقى الوقاية هي الحماية المثلى لمكافحة هذا الداء الذي يحصد سنويا أرواح 10 ملايين شخص حول العالم.
ويقول “جيروم غالون” عالم الأحياء والمناعة الفرنسي: تُسجل 18 مليون إصابة جديدة بالسرطان كل عام، نصفهم يموتون بالمرض، فعلى مر حياتنا يصاب واحد من كل رجلين، وامرأة من كل 3 نساء بالسرطان.
ويعد سرطان الثدي من أكثر الأنواع شيوعا، ورغم التحسن المتزايد في طرق علاجه فإنه كلما اكتشف مبكرا زادت فرص النجاة منه، لذا يحاول العلماء تحديد العلامات التحذيرية لهذه الخلايا الشاذة بأسرع ما يمكن في دمائنا وحتى في أنفاسنا، ولكن التقنية التي يرجح أن تشخص السرطان في بداياته هي الذكاء الصناعي.
مقاومة الجهاز المناعي.. جهاز إنذار مبكر من داخل الجسد
يرى عالم الأحياء الفرنسي “جيروم غالون” أن الروبوتات والذكاء الصناعي يشكلان ثورة في الطب، لأن حجم البيانات التي يعالجها هذا الذكاء كبير جدا، بحيث يمكنها التعرف على السرطان وتشخيصه. ويقول: لن يحل الذكاء الصناعي مكان العنصر البشري بشكل كامل، ولكن يتعين على المهن الطبية أن تتغير، بحيث يحصل الطبيب على مساعدة الذكاء الصناعي في التشخيص وتحديد العلاج أي أنها مساعدة مكملة تمكن الطبيب البشري من اتخاذ القرار العلاجي الصحيح، ولن نغفل أبدا الأهمية الأساسية للعنصر البشري وهو الطبيب.
لكن تطورا آخر سيعود إلى واجهة فحوصات السرطان ومكافحته. وتقول “جينيفر داودنا” عالمة الكيمياء الحيوية الأمريكية: في مجال بيولوجيا السرطان وعلاجه، فإن التطور الأكثر إثارة في الفترة الماضية هو في العلاج المناعي للسرطان الذي يقوم على استخدام الجهاز المناعي للمريض لمعالجة السرطان، وقد تحققت نجاحات مذهلة في هذا المجال.

ويقول “غالون”: هناك طرق مختلفة من العلاج، فإلى جانب العلاج الكيميائي الذي يستهدف فقط قتل الخلايا السرطانية ويقتل في الوقت نفسه الكثير من الخلايا الطبيعية الأخرى، هناك علاج مناعي مغاير لا يستهدف الخلية السرطانية، بل يعيد تنشيط الخلايا المناعية وآلياتنا الدفاعية، لتستطيع القضاء على السرطان. بل إننا بدأنا نتحدث عن شفاء المرضى، فالتقييم المناعي بات يعني مراعاة المريض وجهازه المناعي وليس الخلايا السرطانية فقط، وبالتالي سنصل إلى علاج لكل مريض بذاته اعتمادا على جهازه المناعي.
ويشرح طريقة عمل العلاج المناعي قائلا: جهاز المناعة هو جرس إنذار، لأنه يرصد التحولات المبكرة من خلية طبيعية إلى سرطانية، ويكتشف إشارات الخطر المبكرة للغاية وإشارات الإجهاد، مما يجعله محطة أولى في اكتشاف حركة غير طبيعية في الخلية قبل مرحلة السرطان.
فبأجسامه المضادة وخلاياه اللمفاوية يدافع جهاز المناعة عن الجسم ضد الأمراض والالتهابات. وقد طور “غالون” -وهو حائز على جائزة المخترع الأوروبي عام 2019- اختبارا للمقياس المناعي، وهو الذي يقيس آليات الدفاع المناعي لدينا، واختبارا آخر يقيس الخلايا اللمفاوية، لذا فهو يعطي مقياسا مناعيا مختلفا مرتبطا بالسرطان وفرص نجاة المرضى، بحسب “غالون”. ويسهل هذا الاختبار -تبعا للنتائج- إحالة المريض للعلاج المناعي أو الكيميائي.
تعديل المحتوى الوراثي.. توجيه الخلايا التائية التي تقتل السرطان
السرطان مرض قديم، فقد عثر على آثار له في مومياوات مصرية عمرها 4 آلاف عام، لكن العلماء يرون أنهم قريبون من إيجاد علاج له. ويؤكد الطبيب الياباني “كوجي إيتو” أنه يحاول تقديم علاج قوي للقضاء على السرطان، من خلال التلاعب الوراثي بالخلايا التائية.
ويقول: سنقضي على السرطان يوما ما، من خلال الدواء الحائز على جائزة نوبل عام 2018، الذي يحسن عمل الخلايا التائية وأداء جهاز المناعة، إلى جانب التعديل الوراثي للخلايا الجذعية المحفزة متعددة القدرات.

بينما تقول العالمة الأمريكية “جينيفر داودنا”: تعديل المحتوى الوراثي سيلعب دورا في مستقبل علاج السرطان بالتعاون مع العلاج المناعي، ومن خلال استخدام تعديل المحتوى الوراثي للتحكم بالخلايا التائية التي تقتل السرطان، وتسيطر عليه بأسلوب يمكّن العلماء من استخدامها بالقدر الكافي، دون الإضرار بالأنسجة السليمة.
في عهدة العلماء المتخصصين تصبح الخلايا الجذعيةُ والهندسة الوراثية وجهاز المناعة حلفاءَ جددا لقهر الأمراض، لكن الحليف الذي لم نكن نتوقعه يوجد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن.
علم البصريات الوراثي.. أطياف ضوئية لوأد الأورام في الخلايا
علم البصريات الوراثي فرع جديد من الطب، وهو عبارة عن تقنيات معقدة تستخدم حزما ضوئية لتنشيط عدد قليل جدا من الخلايا العصبية في آن معا. يقول عالم الأعصاب الأمريكي “إداورد بويدن”: علم البصريات الوراثي يساعدنا في فهم أدمغتنا، ويمكّننا هذا من التحكم بالنشاط الكهربائي للخلايا العصبية، فحين ننشط هذه الخلايا نستطيع معرفة السلوكيات والأمراض والعلاجات التي تسببها، وإذا عطلنا الخلايا العصبية فسنعرف سبب احتياجنا إليها.

ويستخدم علم البصريات الوراثي في التجارب السريرية لعلاج السرطان، فقد نجحت الاختبارات الأولى على الحيوانات في إيقاف المرض وعكس تطور الورم.
ويلعب الضوء دورا مهما في دماغنا يوميا، إذ يؤثر ضوء النهار الذي تنقله أعيننا على الغدة الصنوبرية وإنتاج هرمون الميلاتونين الذي ينظم دوراتنا الحيوية. ففي إسبانيا أثبت الباحثون في جامعة غرناطة أن مجرد جزء بسيط من طيف الضوء الطبيعي -أي الأطوال الموجية المساوية للضوء الأزرق- يساعد في تخفيف التوتر. ويمكن للبقاء داخل غرفة فيها ضوء أزرق أن يقلل التوتر في دقيقة واحدة بدلا من 30 في البيئة الطبيعية.
يقول العالم “بويدن”: بفضل علم البصريات الوراثي بات الضوء أداة مذهلة لعلاج اضطرابات أكثر خطورة من التوتر، وستتمحور التطبيقات الرئيسة لعلم البصريات الوراثي في المستقبل المنظور حول دراسة أدمغة الحيوانات، ومعرفة أنماط النشاطات التي تساعد في التغلب على الأمراض، من خلال تنشيط أو إيقاف خلايا معينة في دماغ الفأر، ومن هذه الأمراض نوبات الصرع والباركنسون.
دراسة الدماغ.. غوص في عشرات المليارات من الخلايا العصبية
يبقى الدماغ البشري لغزا غامضا، ومع وجود عشرات المليارات من الخلايا العصبية، أصبح يعد حقلا علميا مجهولا. يقول عالم الأعصاب الأمريكي “إدوارد بويدن”: الدماغ في غاية التعقيد، ففي كل مليمتر مكعب منه، هناك 100 ألف خلية دماغية تسمى الخلايا العصبية، وهي متصلة ببعضها عبر مليار وصلة تسمى المشابك، وكل من الخلية العصبية والمشابك تعمل بدقة تبلغ جزءا من الألف من الثانية، فنحن نتحدث عن آلة شديدة التعقيد.
أما عالمة الأعصاب الألمانية “كاثرين آمونتس”، فتقول: ليس المثير فقط أن الدماغ يضم 86 مليار خلية عصبية، بل المثير فعلا هو أن الدماغ يوجد في أجسامنا، وأننا معشر البشر نتصرف كأشخاص طبيعيين، ونعيش في بيئة طبيعية، ويتواصل بعضنا مع بعض، ونشكل مجتمعات وأمما ذات ثقافة خاصة، وهذا يضفي مستوى آخر من التعقيد، لذا أفترض أن الدماغ أكثر تعقيدا من الكون.

ونعرف بعض الحقائق عن الدماغ البشري، فهو يزن كيلوغراما ونصفا، ويستهلك 20% من الأوكسجين الذي نستنشقه، ويولد طاقة كهربائية تكفي لتشغيل مصباح. لكن بعيدا عن هذه الأرقام، فإننا نسبر الدماغ عن طريق البصر، لأنه العضو الأكثر تعقيدا في أجسامنا. ويدرس الباحثون في جامعة “كامبريدج” البريطانية أصغر أدمغة الأطفال، حين تكون في مرحلة تبدو فيها إمكاناتها غير محدودة.
فمن خلال تسجيل الموجات الكهربائية باستخدام الموجات الصوتية لهؤلاء الصغار الذين لا يستطيعون التكلم بعد، لاحظ علماء الأعصاب ظاهرة جديدة، هي أن الموجات الدماغية للطفل تتزامن عندما يسمع أغنية مع الموجات الدماغية للبالغين.
وسبق أن لوحظ أن نبضات قلب الطفل يمكن أن تتزامن مع نبضات قلب أمه أو أبيه عند تبادل النظرات، ويمكن أن تكون مراقبة الظاهرة نفسها مع الموجات الدماغية إحدى استراتيجيات الدماغ لتعلم اللغة بشكل أكثر فعالية.
وفي كندا يدرس العلماء في جامعة “تورونتو” أدمغة البالغين، وهدفهم تصوير الأفكار البشرية، إذ عرضوا على المشاركين وجوها بشرية، وسجلوا ردة فعل الدماغ خلال العملية باستخدام الأقطاب الدماغية، ثم صمموا -من خلال الذكاء الصناعي- برنامجا قادرا على العمل بشكل عكسي، وإعادة تكوين الوجه عبر نشاط الدماغ.
معالجة الشلل والإعاقة.. درع وقائي ومقاومة كهربائية
رغم كل هذا التقدم، لا نزال بعيدين عن التخاطر، ولكن ما يحدث في مختبرات أخرى فيه قدر كبير من الخيال العلمي، ففي المعهد السويسري للتكنولوجيا، تستعيد الفئرانُ المشلولة القدرةَ على المشي، رغم بتر النخاع الشوكي وقطع الاتصال بين الدماغ وباقي أعضاء الجسم بشكل نهائي، لكن من خلال تزويد الفئران بحمالة آلية وتحفيزها كيميائيا بدأت هذه الحيوانات في المشي تدريجيا.
وقد نجح فريق العلماء السويسريين بتوليد شبكات عصبية جديدة يمكنها تلاشي الإصابة عبر الخوض في مسارات جذع الدماغ بدلا من القشرة الحركية، وهذا مثال آخر على الإمكانات الهائلة للدماغ.

والأكثر تشجيعا هو أنه بالإمكان علاج الشلل النصفي عند البشر، فمن خلال التجارب على الفئران، صمم علماء الأعصاب جسرا للحبل الشوكي المبتور، لكي يستعيد المحفز المزروع في مكان الإصابة شيئا من الاتصال بين الدماغ والأطراف، ويرسل 16 قطبا كهربائيا في المحفز شحنات خفيفة في إشارة على الحركة.
ويمكن لهذا الإنجاز تغيير حياة الملايين، فالعلم لا يملك القدرة -فقط- على العلاج، بل يمكنه أيضا معالجة الإعاقات. ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن 10% من سكان العالم يعانون من إعاقة، فبالنسبة لكثيرين من ذوي الأطراف المبتورة لا يكمن الحل في هيكل خارجي كما في سويسرا، بل هو طرف صناعي بديل يعوض الذراع أو الساق المبتورة.
إلهام الطبيعة.. عصارة 4 مليارات سنة من التجارب
يستعير العلماء أفكارهم من الطبيعة من حولهم، فقد خضعت لتجارب منذ 4 مليارات سنة، وغالبا ما ينقب الباحثون في الطبيعة لإيجاد الحلول. يقول “إدوارد بويدن” عالم الأعصاب الأمريكي: الطبيعة مهمة، فالتقنيات الأكثر شهرة وشيوعا مثل البروتينات المشعة و”كريسبر” موجودة في الطبيعة.
أما “جينيفر دادونا” عالمة الكيمياء الحيوية الأمريكية، فتقول: البكتيريا هي أقدم أشكال الحياة على هذا الكوكب، أي أنها تعيش في مختلف التجارب منذ فترة طويلة، لذا حين يدرس العلماء المسارات البيولوجية التي تعمل على الخلايا البكتيرية، فإنهم ينظرون إلى عمليات تطورت عبر مئات ملايين السنين. وسيستمد الإلهام المستقبلي والتقنيات الجديدة من دراسة الكائنات الدقيقة.

وليست الكائنات الحية الدقيقة هي التي تلهم العلماء فحسب، ففي البرازيل قد يحمل عالم النباتات الحل لمداواة جراحنا باستخدام “البروملين”، وهو بروتين طبيعي مضاد للالتهاب مشتق من الأناناس. وقد ابتكر الباحثون في جامعة “كامبيناس” ضمادة تسرع عملية الشفاء، عبر تدمير الطبقة العليا من الخلايا الميتة، وتعزيز نسبة الأوكسجين في الجرح.
فدراسة الطبيعة لصنع عقاقير جديدة وكشف ألغاز الدماغ وعلاج السرطان تتشارك قاسما واحدا، وهو مشاركة المعرفة داخل المجتمع العلمي العالمي، ومن هذا التعاون يأتي التقدم الطبي.
ويمكن لأبحاث الدماغ مكافحة السرطان لتعطينا فكرة عن مستقبلنا المشترك، وهذا التعاون المشترك يثمر تقدما سريعا في الطب والتشخيص، بحيث يصبح فهم الحالات المعقدة أكثر يسرا، وبالنسبة للمرضى فإن العلاج الطبي يصبح أكثر سلاسة وسهولة.
والتقدم مثير في الطب، فهذه الاكتشافات تغير قواعد اللعبة وترسم مستقبلا تعالج فيه أكثر الأمراض فتكا، وتختفي فيه الإعاقات، ويهدم فيه العلم حدود ما هو ممكن، ويسبر أغوار أشد أسرار الجسم البشري غموضا، لكن يجب أن لا نغفل عن مسؤوليتنا في فهم عواقب تقدمنا المتسارع باستمرار.