“الحساسية الكهربائية”.. لغز المرض الغريب الذي تسببه التكنولوجيا

وثائقي جديد يتوغل في مجال جديد تماما، ليسبر أغوار حالة مرضية شديدة الخصوصية، تصيب الإنسان من حيث لا يدري، وتجعله عاجزا عن ممارسة حياته الطبيعية، بل يبقى مختبئا داخل “خيمة” يستر بها جسمه كله خشية أن يُصاب بالصعق الكهربائي.

الفيلم الوثائقي الجديد الذي بدأت مؤخرا عروضه العامة في دور السينما البريطانية هو فيلم “الحساسية الكهربائية” (Electric Malady)، وهو من إخراج السويدية “ماري ليدن”.

ما دفع هذه المخرجة إلى تصوير هذا الموضوع الغريب المثير أنها عندما كانت في عامها الثامن شهدت إصابة أمها بهذه الحالة من الحساسية الكهرومغناطيسية، وعاشت أسرتها عدة سنوات حياة خالية من وسائل التكنولوجيا الحديثة، وقد أرادت أن تفهم تلك الظاهرة المرضية الغريبة، وأن تجعل الناس يدركون خطورتها.

“ويليام”.. حالة مرضية تسجن الجسد وتطرد الحبيب

بدلا من أن تصنع المخرجة الفيلم عن تجربتها الخاصة، فقد عثرت على شاب لا يزال يعاني من تلك الحالة الغريبة التي أصابته قبل عشر سنوات، وظل أسيرا لها يعيش تقريبا داخل غطاء فضفاض يغطي جسده كله ورأسه، مصنوع من القطن والخيوط النحاسية المنسوجة معه، بحيث تكفل مقاومة موجات الإشعاع الكهرومغناطيسية الصادرة التي تخترق الفضاء، ولدى بعض الناس حساسية خاصة تجاهها، كما في حالة هذا الشاب “ويليام”.

كان “ويليام” يعمل في مكتبة، وهو يرى أنه أصيب بهذه الصعقة الكهربائية بعد إدخال بعض وسائل التكنولوجيا الحديثة إلى تجهيزات المكتبة. ونوبة الإصابة تجعله يشعر بآلام في رأسه وأطرافه لا يمكنه السيطرة عليها، وقد شعرت حبيبته أيضا بنفس الآلام لكن بدرجة أخف، وسرعان ما تخلصت منها، وظل هو ضحية لتلك الحالة المرضية النادرة، بينما تخلّت عنه حبيبته ثم تزوجت وأنجبت، وهي تعيش حاليا بعيدا عنه، ولا شك أن هذا قد ترك أيضا تأثيرا نفسيا سيئا عليه.

يتذكر “ويليام” في البداية أنه كان عائدا ذات يوم إلى منزله وهو طفل في عامه العاشر، ورأى شجرة من أشجار البلوط، ثم بدأ المطر يهطل، وأراد هو أن يتسلق الشجرة لكي يراقب حبات المطر وهي تنساب من أعلاها، وأخذ يتطلع إلى المستقبل بنظرة مليئة بالتفاؤل والأمل. هذا الاستدعاء العاطفي من الذاكرة تتخذه المخرجة مدخلا إلى فيلمها، قبل أن نرى صورة مختلفة تماما عن ما كان يحلم به “ويليام”.

راقص في هيئة شبح.. يوميات الحياة في خيمة معزولة بالغابة

تخصص المخرجة القسم الأول من الفيلم لبحث حالة “ويليام”، كيف يتعايش معها، كيف يُنظر إليه ويتعامل معه، كيف يشعر به والداه اللذان يزورانه بين وقت وآخر، رغم أنه يعرب عن شعوره الدائم بالوحدة الشديدة في عزلته داخل كوخ خشبي في منطقة محاطة بالغابات مليئة بالأشجار.

يبدو وهو يتحرك تحت هذا الغطاء أو الكفن الذي يخفي جسده ووجهه في داخله، كما لو كان قد قضي عليه بالسجن داخل تلك الخيمة المصممة بشكل خاص لحمايته، كما أن جدران الغرفة الصغيرة التي يقيم فيها تتوفر فيها أيضا وسائل حماية من الإشعاعات الكهربائية، ورغم ذلك، فهو مولع بالأسطوانات الموسيقية التي يشغلها بجهاز يعمل بالكهرباء، كما يستخدم الكهرباء في الإضاءة أيضا، وهو أمر لا مفر منه.

“ويليام” مع والديه وصديقه تحت الغطاء

وربما لهذا السبب يتعين عليه الاختفاء باستمرار داخل هذا الرداء الغريب، حتى عندما نراه وهو يرقص على نغمات الموسيقى، بحيث يبدو كائنا خرافيا، يداعبه والده عندما يطلق عليه “الشبح”، فهو يبدو بالفعل شبحا رغم أنه لا يلهو ولا يفتعل، بل يبدو مستسلما لقدره، خشية أن يصاب مجددا بهجمة إلكترومغناطيسية تسبب له آلاما مبرحة في جسده، وخصوصا رأسه، وحينا آخر يبدو يائسا رافضا لمصيره، يضرب رأسه في جدران الغرفة المعزولة بغلاف من مادة الألمونيوم لتجنب اختراق الأشعة.

وعندما يتحدث “ويليام” عن المفارقات التي تعرّض لها، مثل اشتعال النار مرات عدة في ذلك الغطاء الذي يغطي جسده كله، يبدو حديثه ممزوجا بالمرح أكثر من ما فيه من الحسرة والألم.

إننا أمام إنسان يتمتع بالرقة والعذوبة، يواجه واقعه بقوة وصلابة وأمل في أن يشفى مستقبلا من هذه الحالة المرضية الغريبة التي حلت به، وكان يظنها في البداية نتيجة مرض ما ألم به في طفولته، ثم اتضح أن هذا غير صحيح.

عيد الميلاد.. رقص وطرب وشموع وبصيص أمل

في الجزء الثاني من الفيلم يبدو “ويليام” أكثر قدرة على الحديث عن نفسه، خصوصا وهو يتحدث مع الطبيب النفسي الذي يزوره، محاولا الكشف عن بدايات حالته وتطورها وآثارها النفسية عليه، لنعرف كيف كانت تراوده أحيانا فكرة إنهاء حياته بيده، كما حدث لغيره ممن أصيبوا بهذه الحالة. هل هذه الحساسية الخاصة التي تمنع “ويليام” من العيش الطبيعي وتبقيه معزولا في غابة سويدية هي نتيجة مرض عضوي، أم نتجت عن حالة نفسية؟

لا أحد يعرف، والفيلم نفسه لا يكشف عن طبيعة هذه الحالة الغامضة، ولا الطبيب الذي يبحث حالته، فالمخرجة لا تبدو مهتمة بالبحث في الحالة الطبية الغريبة، بل في رصد الحالة الإنسانية لـ”ويليام”.

في لحظات نادرة يخرج “ويليام” من تحت الغطاء إلى الغابة

يزوره والداه مع أخته، ويتردد عليه صديق قديم، وهو يعتمد عليهم في الحصول على ما يريد، يحضرون في مناسبة عيد ميلاده الأربعين، يحتفلون به ويجعلونه يطفئ الشموع، يرقصون ويغنون لكي يبثوا الأمل في نفسه، ويبدو هو متفائلا بالمستقبل، يتطلع إلى اختفاء هذه الحالة يوما ما، والعودة إلى حياته الطبيعية.

كسر العزلة الموحشة.. رقصة الهاتف المعزول عن الذبذبات

تتعامل الكاميرا مع حالة “ويليام” من زاوية التعاطف والاقتراب من الشخصية، بقدر ما تسمح ظروف التصوير في مكان مغلق، لكننا نراه أيضا في مشاهد خارجية قليلة وسط الطبيعة، وتقطع المخرجة هذه المشاهد بالتركيز على الأسلاك التي تحلق في أعلى، وأعمدة الإشارات الكهربائية، بحيث توحي لنا أنها المصدر الحقيقي للخطر.

“ويليام” محروم من استخدام أجهزة الحاسوب أو الهاتف المحمول أو التلفزيون، وغيره من الأجهزة التي يمكن أن تتولد عنها الأشعة الكهرومغناطيسية.

وفي أحد المشاهد يطلب من المخرجة إيقاف الكاميرا حتى يتجنب ما يمكن أن تسببه له من متاعب بسبب الأشعة التي تخرج من كاميرات الديجيتال، وعندما يزودونه بهاتف معزول تماما عن أي ذبذبات يمكن أن تصدر عنه، بعد أن يضعوه داخل علبة محصنة؛ يرقص طربا، فقد أصبح للمرة الأولى منذ إصابته قادرا على الحديث إلى الآخرين خارج هذه العزلة الموحشة.

لغز يشكك به الآخرون ويعجز عنه العلم.. قصة مأساوية

تستخدم المخرجة “ماري ليدن” في فيلمها كثيرا من المواد المصورة من الماضي على شرائط فيديو لـ”ويليام” مع أسرته عندما كان يعيش حياة طبيعية، ومن طفولته أيضا التي تصفها أخته في أحد المشاهد بأنها كانت مثل قصة خرافية، وذلك كناية عن أنها كانت طفولة سعيدة.

يقوم بناء الفيلم على الانتقال من الحاضر إلى الماضي، والربط بين البطل وحياته الماضية، ثم ما أصبح عليه الآن، وتكثيف فكرة الظلام الذي أصبح يعيش فيه منذ أن أصيب بهذه الحالة المرضية الغريبة والغامضة التي يقول الطبيب النفسي الذي يزوره إنها حالة حقيقية، ويخبرنا “ويليام” نفسه بأن كثيرين لا يصدقونه.

أما الفكرة التي نلمسها من تحت الصور المتعددة التي تتعاقب في هذا الفيلم، فهي أن عالمنا الحديث شهد كثيرا من التقدم في استخدام التكنولوجيا الحديثة وأدواتها، لكن أصبحت هذه الأدوات تمثل خطرا علينا، فهي تهدد صحتنا وتصيبنا من حيث لا ندري بأمراض قد تستعصي على الفهم. إننا لا نفهم طبيعة حالة “ويليام”، لكننا لا نملك سوى أن نتعاطف معه بعد مشاهدة هذا الفيلم الحزين والمؤثر الذي يجول بنا في عالم لا نعرف عنه شيئا.

المفارقة التي يخبرنا بها الفيلم هي أن أولئك المصابين بمثل حالة “ويليام” لن يستطيعوا مشاهدة الفيلم لأسباب مفهومة بالطبع (لا يمكنهم التعرض للإشعاعات أو للأجهزة)، غير أن الذين سيشاهدونه ربما يتشككون في مصداقية حالته، لكننا نكون قد وصلنا هنا إلى قدر من الاستنارة فيما يتعلق بجانب آخر في الطبيعة الإنسانية وقدرتها على تحدي كل الظروف الشاقة.