زحل والمشتري.. عملاقان يعيدان تشكيل المجموعة الشمسية ويصنعان الحياة

منذ اللحظة الأولى التي انطلق فيها التلسكوب هابل إلى الفضاء في أبريل/نيسان 1990، كانت العيون معلقة بسديم الجبار. نعرف أنه سحابة من الغاز والغبار تقع من الأرض على مسافة تزيد عن 15 ألف تريليون كيلومتر، ورغم كل هذا البراح الهائل بيننا وبينها، فيمكن أن ترى تلك السحابة بعينيك في الليالي الحالكة، كغيمة خافتة صغيرة بين ثلاثة نجوم، تقف على خط واحد تدعى سيف الجبار وهو جزء من مجموعة (كوكبة) سميت الجبار، أو الجوزاء عند العرب.

فبالنسبة للتلسكوب هابل، كان سديم الجبار فرصة سانحة لتأمل فرضية عمرها ثلاثمائة سنة، عمل عليها فلاسفة مثل الألماني “إيمانويل كانت” ورياضيون مثل الفرنسي “بيير لابلاس”، وتقول إن النظام الشمسي نشأ في سحابة سديمية شبيهة، حيث تجمعت -على مدى عدة ملايين من السنوات- كتل من غاز الهيدروجين على بعضها لتصنع كرة دوارة هائلة الحجم، وفي مرحلة ما كان الضغط شديدا في مركز تلك الكرة بحيث نشأ تفاعل اندماجي بين ذرات الهيدروجين، وهنا ولدت الشمس ولمعت بالطاقة والحياة.

في أثناء ذلك، وقبل حوالي 4.5 مليارات سنة، انبسط ما بقي من الغاز والغبار في السحابة وامتد ليحيط بالشمس كالفطيرة، ثم بردت مكوناته، وهنا نشأت الكواكب على مدى عشرات الملايين من السنين عبر تجمع لمكونات تلك السحابة، ومضى كلٌ في مداره.

قطع الصخر الأولية.. بذرة تكوين كواكب المجموعة الشمسية

خلال السنوات الأولى من انطلاقه، استخدم علماء الفلك التلسكوب هابل لتأكيد أن الكواكب تتشكل في أقراص من الغاز والغبار حول النجوم، فقد حلل التلسكوب لأول مرة الأقراص الكوكبية التي تدور حول ما يقرب من 200 نجم في سديم الجبار اللامع، بل إنهم اكتشفوا فجوة غامضة في قرص كوكبي كبير يدور حول أحد النجوم، وتبين فيما بعد أن تلك الفجوة كانت ناتجة عن كوكب متنام غير مرئي يقوم بشد المواد المحيطة به إليه، فينظف مداره عاما بعد عام، وينحت ممرا في القرص مثل كاسحة الثلج التي تنظف الطرقات.

وبسبب تلك النتائج، تكونت لدى العلماء صورة أولية عن الكيفية التي نشأ بها كوكبنا ورفاقه، صورة تقول إنه في بداية تاريخ المجموعة الشمسية، وبعد أن بردت سحابتها الدوارة، تكونت قطع صخرية أولية بعضها صغير بحجم حبة الرمل، والآخر كبير بحجم دلتا مصر مثلا، وتشبه الكويكبات التي نراها الآن، والتي يرى العلماء أنها كانت بالفعل يوما ما تمثل الوحدات التي تصادمت معا، فتفتتت في بعض الأحيان والتحمت معا في أحيان أخرى، ولكن بسبب أن الجاذبية بحسب قانون “نيوتن” تزداد بازدياد الكتلة، فإن تلك الصخور الملتحمة سحبت إليها صخورا أخرى لتلتحم معها، وتراكمت الصخور لتصنع الكواكب.

الفرضية السيديمة في تشكل المجموعة الشمسية

وبالقرب من الشمس، كانت القطع الصخرية الثقيلة كثيفة بسبب جاذبية الشمس لها، وبالتبعية تكونت الكواكب الصخرية (عطارد والزهرة والأرض والمريخ)، بينما في خلفية المجموعة الشمسية كانت كثافة الصخور أقل، لكن البرودة الشديدة في تلك المنطقة كثّفت الغاز والغبار، فتراكم على الصخور التي تراكمت على بعضها، صانعين معا العمالقة الغازية (المشتري وزحل) والعمالقة الثلجية (أورانوس ونبتون).

لكن تلك الفرضية السابقة؛ التي تنص على أن كل كوكبٍ نشأ في مكانه، تسببت في طرح تساؤلات عدة، فمثلا: لمَ يعد المريخ صغيرا إلى هذا الحد؟ فعلى الرغم من أن حجم الكوكب الأحمر يساوي نصف الأرض، فإن كتلته أصغر بعشرة أضعاف منها، رغم أنه -مثل الأرض والزهرة- تكوّن في منطقة مسكونة بكثير من القطع الصخرية الأولية.

ويمكن أن نضيف لذلك أسئلة أخرى عن حزام الكويكبات، من قبيل: لماذا لم تتجمع تلك الكويكبات معا بناء كوكب آخر؟

“الفرس الأعظم”.. نظرية المشترِيات الساخنة والأراضي الفائقة

بعد انطلاق هابل بخمس سنوات كانت هناك ثورة أخرى تختمر في معامل علم الفلك بجامعة جنيف السويسرية، حصل من قادوها على جائزة نوبل للفيزياء عام 2019، وهما “ميتشل مايور” و”ديدييه كيلوز”، فقد أعلنا في عام 1995 اكتشافهم لأول كوكب يدور حول نجم شبيه بالشمس، ويسمى “51 الفرس الأعظم”.

يبعد “51 الفرس الأعظم” مسافة 50 سنة ضوئية عنّا، لكن المثير للانتباه أن هذا الكوكب كان ضخما بحجم المشتري تقريبا، وقريبا في نفس الوقت من النجم، فهو يدور حوله مرة كل 4 أيام، ويتعارض ذلك مع نظريات تكون الكواكب التي نعرفها، فالكواكب الضخمة مثل المشتري، يفترض أن توجد بعيدا عن الشمس.

مقارنة بين نجم بيغاوس 51 وكوكبه، مع الشمس والمشتري

بعد هذا الكشف انفتحت أبواب الكواكب على علماء الفلك، فبات لدينا الآن في قواعد البيانات الفلكية أكثر من 6 آلاف كوكب يدور حول نجوم غير الشمس، وتعرف بالكواكب النجمية، وكثير منها من هذا النوع الذي سمي “المشترِيات الساخنة” (Hot Jupiters)، وباتت تعرف بأنها فئة شائعة من الكواكب الغازية التي تقارب كوكب المشتري أو تفوقه حجما، ولكن لها فترات مدارية قصيرة جدا أقل من عشرة أيام، ناتجة عن قربها الشديد من نجومها، وبالتالي ارتفعت درجات حرارة غلافها الجوي، ومن هنا حصلت على صفتها (الساخنة).

إلى جانب كواكب المشتري الساخنة ظهرت مجموعات أخرى من الكواكب التي كانت شائعة في مجموعات شمسية أخرى، وهي “الأراضي الخارقة” (Super-Earth)، وهي فئة من الكواكب لا مثيل لها في نظامنا الشمسي، تعد أكبر من الأرض في الحجم والكتلة، ولكنها أخف من العمالقة الثلجية مثل نبتون وأورانوس، وتتراوح في كتلتها بين ضعف الأرض إلى 10 أضعاف.

وقد تسببت تلك الكشوف في دفع العلماء إلى إعادة النظر في النماذج التي بنوها لتصور نشأة المجموعة الشمسية، فظهرت فرضيات تقترح أن كواكب المجموعة الشمسية لم تكن قديما في هذا المكان، فربما يوما ما كان المشتري الذي نعرفه الآن مشتريا ساخنا آخر، لكنه انسحب للخلف لسبب ما، وربما كانت هناك أراضٍ خارقة في نظامنا الشمسي.

“فرضية تغير الاتجاه الكبرى”.. مناورة العمالقة الغازية

في عام 2011، وفي دورية نيتشر (Nature) المرموقة، توصل فريق بحثي بقيادة “كيفين والش” من معهد ساوث ويست للأبحاث في ولاية كولورادو الأمريكية عبر محاكاة حاسوبية معقدة، إلى اقتراح أن كوكب المشتري الذي استقر لفترة طويلة في موقعه باعتباره خامس كوكب في الترتيب بعد الشمس، قد تجوّل فترة طويلة في النظام الشمسي قبل عدة مليارات من السنين. وسُميت فرضية هذا الفريق البحثي بـ”فرضية تغير الاتجاه الكبرى” (Grand Tack Hypothesis).

ما بين عامي 2011و 2019 عثر “برنامج قطر لاكتشاف الكواكب النجمية” على عشرة كواكب شبيهة بالمشتري

ويجري سيناريو تلك الفرضية كالتالي: نشأ كوكب المشتري قبل حوالي 4.5 مليارات سنة ضوئية مشتريا ساخنا، وكان على مسافة حوالي 450 مليون كيلومتر من الشمس، ثم هاجر إلى الداخل بفعل ضغط تيارات الغاز والغبار الباقية في المجموعة الشمسية، بالضبط مثلما تضغط تيارات الهواء على شراع القارب فيسير للأمام، لكن المشتري لم يسر مباشرة للأمام، بل اتخذ مدارا يتناقص شيئا فشيئا متوجها ناحية الشمس، وربما كان واردا أن يسقط بها، لكن خلال حوالي 100 ألف سنة كان كوكب زحل قد نشأ في خلفية المشتري.

انسحب زحل للداخل قليلا خلف المشتري، وتداخل مدار الكوكبين معا فارتبطا جذبويا، هذا الاتحاد سمح لهما بمقاومة تيارات الغاز والغبار، وهنا وقف المشتري على مسافة 225 مليون كيلومتر من الشمس (مدار المريخ الآن)، ثم عكس الكوكبان اتجاههما، بالضبط كما يعكس القارب الشراعي اتجاهه حين يقوم الربان بإدارة الشراع، فعاد المشتري مجددا ليتخذ موضعه الحالي على مسافة 778 مليون كيلومتر من الشمس، ورجع زحل إلى مكانه على مسافة أكبر من مليار كيلومتر، في مناورة عنيفة استغرقت في مجملها حوالي نصف مليون سنة.

“المشترِيات الساخنة” مصطلح يطلق على الكواكب النجمية بحجم المشتري والتي تدور في مدار قريب حول النجم

لا يسوق الفلكيون تلك الأرقام المعبرة عن السنوات والمسافات والأحجام اعتباطا، ولكنهم يُدخلون ما يمتلكون من بيانات عن النظام الشمسي الآن، وكذلك النظم الشمسية الأخرى التي اكتشفت حتى اللحظة، ثم يدوّرون عددا من أشكال المحاكاة الحاسوبية المعقدة جدا التي تعتمد على أدق قوانين الفيزياء التي توصلوا إليها، فتعود بالزمن للخلف لتعطيهم تصورا عن المجموعة الشمسية في الماضي، يفسر ما يواجهونه الآن من ألغاز.

فوضى المشتري.. بلبلة مدارية تفسر كثيرا من الألغاز

حين دخل المشتري إلى حيز النظام الشمسي الداخلي (الذي توجد فيه الكواكب الأربعة الصخرية الآن) تسبب في بلبلة شديدة كانت لتدمر أي كواكب من نوع الأرض الخارقة التي وجدت في تلك المنطقة، وهو ما يفترض بعض العلماء أنه قد حدث، ومما بقي من تلك الكواكب نشأت كواكب أصغر هي التي نعرفها الآن، عطارد والزهرة والأرض والمريخ، ويفسر ذلك عدم وجود أراض فائقة في مجموعتنا الشمسية.

أضف لذلك أن فرضية تغير الاتجاه الكبرى تساعد في حل ألغاز أخرى، منها مثلا التساؤل عن حجم وكتلة المريخ الصغيرة، فقد اقترب المشتري من الشمس إلى المسافة التي يوجد فيها مدار المريخ الآن، وقد شتت محتوى تلك المنطقة من القطع الصخرية فخفّض كثافتها، مما تسبب في وجود كوكب صغير، ولأنه كان في موقعه الأول قريبا من منطقة حزام الكويكبات، وخلال دخوله وخروجه من النظام الشمسي الخارجي مر بها، فربما يكون ذلك هو السر في أن تلك المنطقة لم تحتو على كوكب، لأن جاذبية المشتري تسببت في بلبلة بتلك المنطقة منعت التحام القطع الصخرية (الكويكبات) معا للبدء في بناء كوكب.

مخطط هجرة الكواكب الكبرى بعيدا عن الشمس عبر 600 ألف سنة من حياتها

أما في أثناء هجرته العظمى للخارج، فقد تسبب المشتري في بلبلة مدارية ربما دفعت بأورانوس ونبتون للوراء، ومعهما كم هائل من الصخور ذات الكتل الثلجية التي صنعت ما نعرفه الآن باسم “حزام كايبر” ومن ورائه “سحابة أورت”، وهدأ كل شيء في الوضع الذي استقر له حتى الآن.

ويرى فريق من العلماء من معهد كاليفورنيا للتقنية (كالتك) أن حركة المشتري ربما دفعت كوكبا تاسعا في المجموعة الشمسية لمدار من البعد بحيث لا نتمكن من رصده، إنه الكوكب التاسع (Planet Nine)، ويقدّر أنه كوكب ذو حجم أكبر بأربع مرات من الأرض، يوجد في الإطار الخارجي من المجموعة الشمسية على مسافة تصل في أوجها إلى 1200 مرة ضعف المسافة بين الأرض والشمس، ووجوده يفسر بعض الشذوذ الذي رصده العلماء في مدارات الأجرام الواقعة خلف نبتون في حزام كايبر. لكن إلى الآن، لا يمكننا التأكد من وجود الكوكب التاسع رصديا.

يوما بعد يوم، تجد فرضية تغير الاتجاه الكبرى قبولا في الأوساط البحثية، لأنها تفسر تاريخ المجموعة الشمسية بشكل يضعها في مكان يتناسب مع المكتشفات الحديثة الخاصة بالكواكب التي تدور حول نجوم غير الشمس، وفي نفس الوقت تفسر كثيرا من الألغاز التي طالما حيرت العلماء حول نظامنا الشمسي نفسه، لكنها بالتأكيد ما زالت تواجه بعض المشكلات، منها مثلا افتراض بعض العلماء أن الترابط الجذبوي بين مداري المشتري وزحل لم يكن كافيا لسحبهما إلى الخارج مرة أخرى.

“الأرض النادرة”.. رحلة زحل العظمى تصنع الحياة

إذا افترضنا صحة النظرية، فإنها ستفتح الباب لسؤال آخر يتعلق بالحياة على سطح الأرض، فلو كانت الأرض فيما مضى “أرضا خارقة”، أو لو كانت في مكان مختلف عن مكانها الآن، أو حتى لو كانت قريبة كفاية للمشتري، فربما لم تسمح الظروف عليها بازدهار وانتشار صور الحياة المختلفة، إذن ألا يعني ذلك أن زحل كان أحد أسباب استمرار الأرض ككوكب حاضن للحياة؟

في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، قال عالِما الفلك الأمريكيان “كارل ساغان” و”فرانك دريك” إن الأرض كوكب نمطي عادي جدا، فهناك مليارات من الكواكب التي تشبهها في مجرتنا فقط، وبالتالي فإن ذلك يضعنا أمام “احتمالات كبيرة” لوجود الحياة في الكون، وقد اعتمد الثنائي على مجموعة من الأساسات البسيطة لدعم حجتهما، منها مثلا ما نعرفه الآن باسم “نطاق الحياة” (Life Zone)، ويطلق على منطقة حول النجم يمكن لكوكب يوجد بها أن يحتوي على الماء في صورته السائلة، فلا يكون قريبا من النجم فيتبخَّر الماء، أو بعيدا فيتجمَّد، ونحن نعرف بالفعل نحو 70 كوكبا بهذه الظروف حاليا.

رسم تخيلي لأرض فائقة حول أحد نجوم السماء

لكن في عام 2000 اقترح “بيتر وارد” المُتخصِّص في علوم الحفريات، و”دونالد براونلي” أخصائي الفلك، أن الأمر أعقد من ذلك، وتتحكم فيه ظروف ومعايير مركبة جدا لا يعرف العلماء الكثير منها، منها طبيعة المجموعة الشمسية نفسها، فلولا نشأة زحل ورحلته العظمى خلف المشتري، ثم جذبه للخارج مرة أخرى لما نشأت الأرض واستقرت في مكانها الحالي، ألا يعني ذلك أن كواكب المشتري الساخنة في المجموعات الشمسية الأخرى تحتاج إلى فرامل مثل زحل، لخلق بيئة كوكبية تحتضن الحياة؟! يقلص ذلك كثيرا من احتمالات وجود الحياة في كواكب أخرى، وهو ما سمي “فرضية الأرض النادرة” (Rare Earth hypothesis).

وما زال العلماء يتجادلون حول فرضية الأرض النادرة، لكنهم جميعا يعرفون أن تاريخ هذه المجموعة الشمسية التي نراها الآن هادئة ذات تفاصيل ساحرة نراها بوضوح في تلسكوبات الهواة الصغيرة وتلسكوبات الفلكيين المتخصصة؛ كانت يوما ما بيئة في غاية القسوة والاضطراب، ثم هدأت مع الزمن واستقر كل جزء منها لحاله، ككل شيء آخر في هذا الكون.

 

المصادر

1- Discoveries | Highlights – Finding Planetary Construction Zones

https://www.nasa.gov/content/discoveries-highlights-finding-planetary-construction-zones

2- Protoplanetary Disk- Encyclopedia of Astrobiology

https://link.springer.com/referenceworkentry/10.1007/978-3-642-11274-4_1299

3- Super-Earth

https://exoplanets.nasa.gov/what-is-an-exoplanet/planet-types/super-earth/

4- Hot Jupiter

https://exoplanets.nasa.gov/resources/1040/hot-jupiter/

5- Jupiter’s “Grand Tack” Reshaped the Solar System

https://astrobiology.nasa.gov/news/jupiters-grand-tack-reshaped-the-solar-system/

6- The Violent Biography of Our Solar System

https://www.scientificamerican.com/article/the-violent-biography-of-our-solar-system/

7- Caltech Researchers Find Evidence of a Real Ninth Planet

https://www.caltech.edu/about/news/caltech-researchers-find-evidence-real-ninth-planet-49523

8- Rare Earth Hypothesis

https://planetary-science.org/astrobiology/rare-earth-hypothesis/