“الطبيب”.. رحلة شاب إنجليزي لتعلم الطب على ابن سينا

لطالما كان أعلام الطب الإسلامي موضوعا للأعمال الدرامية المختلفة، ومثل ابن سينا مقصدها الأثير، فأخرج الأوزبكي “كميل يرمتوف” في العهد السوفياتي فيلم “ابن سينا” (Avitsenna) عام 1956، وأخرج المصري سعيد مرزوق مسلسل “ابن سينا” (1982) ضمن إنتاج كويتي، فجسّد محمود ياسين شخصيته.

وضمن سلسلة “علماء مسلمون” أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلم “ابن سينا الشيخ الرئيس” (2008) من إخراج عمر زهران، وجميع هذه الأعمال الفنية تحتفي بالطبيب والفيلسوف وتبرز إسهاماته.

لكننا آثرنا البحث في صورة مختلفة من خلال قراءة في الفيلم الروائي التاريخي الألماني “الطبيب” (The Physician) من إخراج “فيليب شتولزل” (2013)، وتتنزل ضمن رؤية استشراقية سينمائية تتجاوز شخص ابن سينا، لتعرض تصورها عن تاريخ الطب الإسلامي، وتبسط رؤيتها لانحطاطه بعد عصوره الذهبية، وآثرنا أن نمهد له بإشارات سريعة حول تاريخ الطب الإسلامي، ومنزلة ابن سينا منه، حتى نتمثل هذه الرؤية الاستشراقية بشكل أفضل.

عصر الإسلام.. نقلة من تمائم الجاهلية إلى أنوار العلوم

تظل المصادر العربية التي تشير إلى الطب في الجاهلية قليلة، لكنها تقدّر جميعا أنه كان طبا بدائيا يعتمد التداوي بالأعشاب، وكي الأعضاء المريضة بالنار، واستئصال الأطراف الفاسدة، وكثيرا ما يلجأ الجاهلي إلى التعاويذ والتمائم، لكن تحفظ لنا معلقة النابغة التي مطلعها “يا دارَ ميَّةَ بالعَلياءِ فالسَّندِ”؛ مشهد صيد يطعن خلاله الثورُ الكلبَ ضُمران، فينفذ قرنه في عضده، كما ينفذ مبضع الطبيب البيطري في لحم الدّابة، فيقول:

شَكَّ الفَريصةَ بالـمِدْرَى، فأنـفَذَها
طَعْنَ المُبَيطِرِ، إذْ يَشفي من العضَدِ.

هذا يكشف ما يشبه إجراء العمليات الجراحية التي يقوم بها البياطرة اليوم، لكن لا يمكن الحديث عن علم طب قائم الذّات قبل ظهور الدولة الإسلامية وانفتاحها على محيطها الثقافي والعلمي، فقد حدث عندها التحوّل الكبير، فظهرت المؤلفات الطبية والممارسة العملية، وقد كان للترجمة دور أساسي في تشكّل هذا الطب، فنقل المسلمون مؤلفات الأطباء الإغريق والرومان القدماء، من أمثال أبقراط وجالينوس وديسقوريدوس.

ويمكننا عامة أن نردّ تاريخ الطب الإسلامي إلى ثلاث مراحل، وهي النقل عن اليونانيين، وتأصيل المبحث ضمن حاضنة علمية عربية إسلامية، ثم عبور هذا العلم إلى الآخر الأوروبي الذي تزامن مع ركوده في العالم الإسلامي.

حقبة الترجمة.. اغتراف من الأمم الأخرى تحت أعين الخلفاء

تمتد مرحلة النقل عن اليونان حتى منتصف القرن الثالث للهجرة، فبعد أن كانت باحات المساجد تعتمد لعلاج المرضى، خاصة المصابين في الفتوحات، فقد طوّرت الدولة الإسلامية في عهودها الأولى المستشفيات، فبنى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أولها في دمشق عام 88 هـ الموافق 707م، وجهّزه التّجهيز الجيد، وكانت أيامها تُسمى البيمارستان، واللفظة مقترضة من اللغة الفارسية، وتعني “بيت المرضى”.

ثم مثلت الترجمة والإفادة من تجربة اليونانيين دافعا مهما لتطوّر هذه العلوم، وقد تولّى هذه المهمة مترجمون ينتمون غالبا إلى النسطورية (طائفة مسيحية شرقية تنسب إلى مؤسسها نسطوريوس)، ومنهم “سرجيوس” الذي عمل في مدرسة جنديسابور في أول الأمر ثم في بغداد، وأبو زكريا يوحنا بن ماسويه الذي خدم عددا من خلفاء الدولة العباسية شأن هارون الرشيد والمأمون، ومنهم حنين بن إسحاق، ثم ابنه إسحاق وابن أخيه حبيش الذي عرّب قسم “أبقراط” من بعده.

حقبة الابتكار.. بداية الإنتاج الإسلامي في فنون الطب

يمثل الشطر الثّاني من القرن الثالث للهجرة بداية مرحلة التأصيل والابتكار، وفيها بدأ توطين هذا العلم واستيعابه ومنحه هويته العربية الإسلامية، فظهر أكبر الأطباء العرب كالرازي وابن سينا والزهراوي وابن رشد، وتطوّرت الممارسة الطبية، وباتت تعتمد على التحاليل العلمية التجريبية، ومُورست الجراحة على نطاق واسع.

ثم ظهرت المصنفات الطبية المؤلفة باللغة العربية مثل “فردوس الحكمة” لابن ربن الطبري، و”طبقات الأطباء والحكماء” لابن جلجل، و”عيون الأنباء في طبقات الأطباء” لابن أبي أصيبعة، وظهر لأبي بكر الرازي “الحاوي في الطب”، و”الجامع الكبير” الذي منحه شهرته الخاصة، فقد عرض فيه كثيرا من التسجيلات المفيدة عن الأمراض المختلفة.

وأحدث ابن الهيثم قطيعة معرفية في علم البصريات، فقد فنّد في كتابه “المناظر” (أو علم البصريات كما استقر الاصطلاح من بعده) نظرية الانبعاث التي ترى أن الإبصار حاصل انبعاث أشعة من العين، وقال بها فلاسفة من أمثال إقليدس وبطليموس، ونظرية الولوج التي قال بها أرسطو، وترى أنّ الضوء يلج إلى العين بصورة فيزيائية، وأثبت عبر تشريح العين وتوضيح وظائف أعضائها أن عملية الإبصار تحدث نتيجة انبعاث أشعة الضوء من الكائن نحو العين، ووضع مبادئ الانعكاس والانعطاف التي يقوم عليها الإبصار.

لكن يبقى ابن سينا أعظم هؤلاء أثرا وأكثرهم عبقرية وتأليفا، فقد اتبع نهج أبقراط وجالينوس، وظلّ كتابه “القانون في الطب” مرجعا رئيسيا لكل دارس لمهنة التطبيب لقرون متتالية في الجامعات الأوروبية، ويعتبر أول من شخّص أسباب اليرقان والتهاب السَّحايا الأوَّليِّ تشخيصا دقيقا، وأول من انتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في شفاء المرضى.

حقبة التصدير.. حين عبرت شمس الحضارة من الشرق إلى الغرب

ازدهرت العلوم الطبية إذن، وظهرت الاختصاصات المختلفة، فاهتم الأطباء المسلمون بما يصطلح عليه اليوم بالطب الوقائي الذي ينشد الحفاظ على الصحة عبر التغذية السليمة وممارسة الرياضة، والعيش في محيط نظيف. فحرر ابن الجزّار القيرواني تأليفه “كتابٌ في المعدة وأمراضها ومداواتها”، واهتم بصحة المسنين في أثره “طب المشايخ”، وكانت أوروبا حينها مثقلة بسلطة الكنيسة الخاضعة لليْلها الطويل، بعد أن فرضت تصورات رجالها للكون، واعتبرت أن المباحث العلمية هرطقة وتجديف.

ثم سار التاريخ في اتجاهين متعاكسين، فلمّا كانت الحضارة العربية تتجه إلى عصور انحطاطها، عبَر هذا العلمُ إلى أوروبا التي أخذت تصحو، وكان معبره إليها الأندلس وجزيرة صقلية التي انتزعها النورمانديون في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي من طورها الإسلامي.

وفضلا عن ذلك كان للاحتكاك المباشر بين المسلمين والأوروبيين في فترة الحروب الصليبية، أو لرحلات العلماء الأوروبيين للبلدان الإسلامية دور في عبور هذه المعارف، ونُقلت الخبرات التي حصّلها العرب، فترجم “جيراردو الكريموني” إلى اللاتينية باب “الجراحة” من كتاب “التصريف لمن عجز عن التأليف” للزهراوي، وترجم قسطنطين الأفريقي “كامل الصناعة الطبية” لعلي بن العباس المجوسي، و”زاد المسافر” لابن الجزار، وكتاب “الجامع الكبير” للرازي، وكتاب “القانون في الطب” لابن سينا، وتحوّل هذا الأثر إلى مرجع أساسي لقرون عدة.

واستقبلت اللاتينية كتاب “المناظر” لابن الهيثم، وظل يدرّس في العالم الإسلامي وأوروبا على حد سواء حتى القرن السابع عشر، وانطلاقا من مبادئ الانعكاس والانعطاف التي يقوم عليها الإبصار، اختُرعت الكاميرا في القرن التاسع عشر، ومعلوم أن كلمة “الكاميرا” تحريف لاتيني لكلمة القمرة التي يمر عبرها الضوء.

“روب كول”.. رحلة من إنجلترا إلى أصفهان لتعلم الطب

يعدّ الفيلم إنتاجا ضخما يمزج بين أنماط سينمائية متعددة كأفلام الرحلات وأفلام المغامرات المثيرة وأفلام الحرب، ويجعل من سفر الشّاب “روب كول” من إنجلترا إلى أصفهان معاناة حقيقية، لتكون نهايتها المظفرة مكافأته العادلة على ما يبذل من جهد، ليحصّل علوم الطّب في مدرسة ابن سينا، فقد توفيت أمه بسبب عجز أطباء بلاده عن علاج التهاب الزائدة الدودية الذي أصابها، نظرا لتخلف العلوم الطبية هناك، ومعاداة الكنيسة لكل ما له صلة بالعلم.

وهذا ما حفّز فيه رغبة دراسة الطب، فقرر السفر إلى بلاد فارس ليتلقى علومها على أفضل أطباء العصر وقتها، ولأن أهالي أصفهان يرفضون التفاعل مع المسيحيين -وفق رؤية الفيلم- فقد تنكر في شخصية يهودي يحمل اسم “جيس بن بنيامين” وختن نفسه، ثم كان له ما أراد، وتحوّل إلى طبيب ماهر.

روب كول يتقمص شخصية اليهودي ليتلقى دروس الطب من ابن سينا

يبدي الفيلم إشادة كبيرة بابن سينا، بتواضعه وشغفه، بعلمه وإخلاصه لدروسه وخدمته لطلبته، وحرصه على معالجة مرضاه واحترامه للأخلاق الطبية، وهو المتأثر بأعمال أبقراط وجالينوس، وعزله لمرضى الوباء في المستشفيات حتى لا يشيع المرض بين الأهالي، واستخدامه لمواد طبيعية مخدرة عند إجراء العمليات الجراحية كالخشخاش المنوم والقنب، والحال أن الانجليز حينها كانوا يسقون المريض قدرا وافيا من الخمر حتى يساعده الثمل الشديد على تحمّل الألم.

ومن مظاهر تطويره للممارسة الطبية التي انبهر بها الشاب الإنجليزي استعماله للرسوم التوضيحية لتشريح الجسد، وهي رسوم مستمدّة فعلا من كتبه، وإن كان الفيلم قد جعل ابن سينا يعارض تشريح الجسد البشري لخلفيات دينية، وفي ذلك تناقض نقف على خلفياته لاحقا.

انتحار ابن سينا.. أخطاء فادحة تعكس نظرة استشراقية

رغم ثناء النقاد على الفيلم، أُلقي باللائمة على المخرج لما اعتبر أخطاء تاريخية فادحة، كأن ينفي أن يكون ابن سينا قد شرّح الجثث لدواع دينية، والحال أن كتاباته تثبت فعله لذلك، وأن الروايات تقول إنه كان يشرّحها أثناء الليل، أو كأن يجعل ابن سينا ينتحر بعد احتراق مكتبته بعد هجوم السلاجقة الذين تحالفوا مع بعض الفرق المتطرّفة في مدينة أصفهان، لمنعه من مواصلة بحوثه، وللقطع مع سياسة التسامح الديني الذي كان يبديه، والحال أنه توفي بسبب مرض القولون والحقن الكثيرة التي كان يحقن بها نفسه أملا في الشفاء.

لكننا لا نرى أن مثل هذه المعطيات التاريخية البديهية المعروضة في كل مصدر يعرض سيرة الطبيب والفيلسوف العظيم ستفوت صنّاع فيلم بحجم “الطبيب”، فالأثر -في تقديرنا- يلوي عنق الوقائع التاريخية على سبيل القصد والنيّة، ليقدّم قراءة حضارية مدارها على أن هيمنة الاستبداد والانغلاق وتغييب العقل كانت سببا في تدهور الحضارة العربية، وانتحار ابن سينا بعد حرق المكتبة لا يتوافق مع الوقائع التاريخية قطعا، لكنه يُوظف ليرمز إلى زوال هذه المعرفة الطبية وانتقالها إلى الغرب.

فحالما تحالفت مؤسسة الحكم السلجوقي مع الطوائف الدينية المتطرّفة، حدثت الخيانة وانهارت العلوم وعمّ الجهل، كما كان الأمر في أوروبا تماما، وحالما سرق “روب كول” المعارف من أصفهان كما سرق برومثيوس النار من جبل الأولمب؛ نهضت أوروبا من سباتها العميق.

توجيه الطالب لأعظم أطباء العصر.. عقدة التفوق

رغم هذه الإشادة ورغم تفهمنا لتضحية السيناريو ببعض الحقائق من أجل قراءة نقدية لسيرورة التاريخ، فلا مناص من الإشارة إلى أن الفيلم ظل يعاني من عقدة تفوّق العقل الغربي على العقل الشرقي الموروثة عن الاستشراق.

ومن ثمة تصرّف في الحقائق تصرّفا يتجاوز خدمة الرؤية الفكرية إلى تزييف التّاريخ، فمن الحقائق التاريخية أن جالينوس الإغريقي قد قدّر في القرن الثاني الميلادي أن الدم يصل إلى البطين الأيسر من القلب عبر مسارات غير مرئية في الحاجز البطيني، وأن ابن النفيس هو من اكتشف أن انتقال الدم من البطين الأيمن إلى البطين الأيسر يتم عن طريق الرئتين، وهو ما عرف باسم الدورة الدموية الصغرى، مفنّدا بذلك فرضية جالينوس.

أما الفيلم فينسبها إلى الشاب الانجليزي الذي لم يمر على تعلّمه للطب سوى بعض الأشهر، ويبدو حرص الفيلم على الإعلاء من شأن الإنجليزي “روب كول” على حساب ابن سينا نفسه جليا، فهذا الفتى الوافد من بلاد الخرافة والمعتقدات المعطلة للعلم يتلقى تعليمه من أعظم طبيب في عصره في غضون أشهر قليلة، ثم سريعا ما يبدأ هو في توجيه معلّمه لعلاج مختلف الأمراض، فينبهه إلى أنّ الجرذان تنقل عدوى الطاعون، ويشرّح الجثث بنفسه، ويصحّح له معلوماته حول الدورة الدموية.

ورغم الإشادة بعبقرية ابن سينا، فإن الفيلم يجعل علمَه نتيجة لنبوغ فردي واستثناء ضمن محيط يسوده الظلام، وليس نتيجة لتراكم معارف ولقرون من تطور العلوم الطبية في كامل أنحاء العالم الإسلامي، فتحدّ هذه الهنة من البعد الكوني للفيلم، وتنزله ضمن رؤية محلية غربية مكابرة، تواجه حرجا في الاعتراف للحضارة الإسلامية بالفضل عليها في تطورها.


إعلان