“الذكاء الصناعي”.. آلات تنافس الإنسان في عمله وتسامره في شيخوخته

في القرن الحادي والعشرين غادرت الروبوتات المصانع والمختبرات، ولم تعد مقتصرة على أداء مهام بسيطة ومتكررة، بل تغلغلت في جميع مجالات حياتنا، ودخلت شوارعنا ومدارسنا ومنازلنا ومسارحنا. إنها لم تعد مجرد آلات بسيطة، بل يمكنها التعاون والتواصل معنا، إنه عصر الروبوت الاجتماعي الذي سيشاركنا حياتنا في المستقبل.

إلى أين سيصل ذكاء الآلات؟ وهل تهدد بإزاحة البشر عن مواقعهم المهنية؟ وهل ستبادلنا هذه الآلات الأحاسيسَ والعواطف؟ وكيف ستكون أخلاقيات التعامل مع مخرَجات هذه الآلات الذكية؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت محاور الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، ضمن سلسلة “علوم كونية”، بعنوان “الذكاء الصناعي”.

آليات التفاعل.. ذكاء صناعي في الفنادق والمتاجر والمدارس

عُرضت أحدث نسخة من الروبوتات في الولايات المتحدة، إنه الروبوت “تيمي”، ورافقته في الأسواق حملة دعائية ضخمة، فهو مزود بكاميرات ومسبار ضوئي لتفادي العقبات وشاشة ونظام تواصل ذكي، ويمكنه تمييز مالكه والاستجابة لندائه، والتحكم بأجهزة منزله، والتواصل مع الأصدقاء بأمر صوتي بسيط، وهو مساعد مثالي مقابل 2000 دولار فقط.

“مسالم” أول روبوت ناطق بالعربية

وفي السعودية استحدث الباحثون أول روبوت ناطق بالعربية، وكان الهدف أن يستخدم الروبوت “مسالم” موظف استقبال في الفنادق والمحلات التجارية، حتى أنه قد يستخدم مدرسا.

وفي فنلندا يتفاعل الروبوت “إلياس” مع طلاب المدارس ويطمئن عن أحوالهم، وقد يقترح عليهم بعض أنشطته الترفيهية من رقص وغناء وبعض تمارين الاسترخاء، وتبدو نتائج الطلبة المتعاملين معه مبشرة، فالروبوتات جذابة جدا للأطفال، يتحمسون للتفكير فيها، وتروق لهم فكرة التحكم بها.

في فنلندا يتفاعل الروبوت “إلياس” مع طلاب المدارس ويطمئن عن أحوالهم

و”بيبر” أكثر ذكاء من شقيقه “إلياس”، وقد صممتهما شركة “سوفت بانك” الفنلندية الرائدة عالميا في مجال الروبوتات، ويستطيع “بيبر” تحديد الوجوه ومعرفة العواطف، ويستخدم في المتاجر ومحطات القطارات والمتاحف، ويجري اختباره في المستشفيات ودور المسنين لمساعدة المرضى، وهو مصمم على أن يتعلم ذاتيا من تجاربه.

رفيق الشيوخ.. كائنات آلية أليفة لتسلية الإنسان

مع ازدياد علاقة الإنسان بالروبوت بدأ تصميم روبوتات بمظهر يشبه الإنسان، وتعتبر “نادين” أحدث أجيال الروبوتات الاجتماعية، وقد صممت في جامعة تانيانغ بسنغافورة، وتستطيع تمييز محدّثيها، وتتذكر المحادثات السابقة، وهي قادرة على تحليل المشاعر والبدء في حوار جديد.

كما تلتقط “نادين” البيانات من الوجه، وتنقلها إلى قاعدة بيانات ضخمة، وتكشف عن نوع المشاعر من خلال النماذج المخزنة مسبقا، وتتصرف حسب ما فهمته. فمثل هذه النماذج ربما يفضلها بعض الناس لتسليهم في شيخوختهم.

الكلب “بيسكيت” نزيل صناعي استضافته دارٌ للمسنّين في جنوب إنجلترا

ويفضل بعض الباحثين أن لا يكون مظهر الروبوت مطابقا تماما للبشر، لأن ذلك يولد نوعا من الخوف اسمه “الوادي الغريب”، ويفضلون أن يكون أشبه بالرسوم المتحركة أو بحيوان أليف، مثل الكلب “بيسكيت”، وهو نزيل صناعي استضافته دارٌ للمسنّين في جنوب إنجلترا، يواسي النزلاء ويتحدث إليهم.

وفي فلوريدا تستخدم روبوتات على شكل قطط أليفة لتخفيف الضغوط النفسية على مرضى ألزهايمر، وتغنيهم عن تناول جرعات زائدة من المسكنات والأدوية النفسية.

مرونة الحركة.. نماذج مستوحاة من الطبيعة الأم

ما زالت التقنيات الحركية في الربوتات بسيطة للغاية، إذا ما قورنت بحركة الكائنات الحية، ويبذل الباحثون قصارى الجهد في الوصول إلى الحد الأدنى من حركة بعض الكائنات، واستنساخ حركتها، سواء في الماء أو على الأرض أو في الجو.

روبوت يحاكي حركات لياقة بدنية كالتي يفعلها البشر

وفي ألمانيا قامت شركة “ريستو” بتطوير روبوت طائرٍ يحاكي الخفاش، وزنه 580 غراما وامتداد جناحيه 2.28 مترا، وهما يتحركان منفصلين بواسطة محركين مستقلين، ويطير برشاقة في مساحة ضيقة، بفضل المستشعرات والكاميرات المركبة على هيكله.

وفي هولندا صُمّم روبوت يحاكي طيران الشاهين، وقد استخدم بفعالية في المطارات، من أجل إبعاد الطيور الأخرى من مسار الطائرات المقلعة أو الهابطة.

“أوروبوت” روبوت نسخة من سحلية “أوروباتيس باتستي” التي انقرضت منذ 300 مليون سنة

وفي البحر صنعت السمكة صوفي بذيل وزعنفتين من مادة السليكون المرنة، ولها جسم انسيابي يحاكي السمكة الطبيعية، وتنساب في الماء بفضل آلية ضخ الماء وطرده، ويمكن التحكم بسرعتها واتجاهها، ومهمتها تصوير قاع المحيط وخباياه، دون أن تفزع الأسماك والمخلوقات الأخرى.

ولدينا أيضا “أوروبوت”، وهو نسخة من سحلية “أوروباتيس باتستي” التي انقرضت منذ 300 مليون سنة، وقد استخدم العلماء الهيكل العظمي وآثار أقدام متحجرة لتشكيل هيكل السحلية، وبمساعدة الذكاء الصناعي المستند على آثار الخطوات استطاعوا محاكاة طريقة سير هذا المخلوق المنقرض.

“سنتور” روبوت مستوحى من أسطورة القنطور، وهو كائن أسطوري له رأس إنسان وجسد حصان

وتستمر الروبوتات في التحسن، وتتحرك برشاقة أكثر من أي وقت مضى، وتستكشف بيئتها وتستخدم الأدوات، في سعي متواصل لتعليم هذه الروبوتات اتخاذ قراراتها بنفسها. ومثال ذلك”سنتور” الروبوت المستوحى من أسطورة القنطور، وهو كائن أسطوري له رأس إنسان وجسد حصان، وهو أحدث الأمثلة على روبوتات الإنقاذ، إذ يمكنه حمل الأثقال وتحريكها والتنقل بها في المناطق الوعرة على أربعة أرجل.

تنظيم المدن.. خوارزميات ذكية لصناعة حياة مرنة

هنالك أجيال جديدة من السيارات ذاتية القيادة مجهزة بكاميرات وأجهزة استشعار، ترصد إشارات المرور وتقرأ اللافتات، وتميز بين المشاة والدراجات، ويقوم الرادار وأشعة الليزر بتحديد الأشياء المحيطة بدقة. إننا نسير نحو مجتمع أكثر أمانا، خال من الاختناقات والحوادث المرورية، حيث تتجاوز السيارات الذكية الأخطاءَ البشرية.

يستطيع الذكاء الصناعي التعرف على الناس من خلال وجوههم

تبدو المدن الحديثة الذكية على شكل شبكة من السيارات الذكية تعمل ضمن خوارزمية ذكية، تسير على بنية تحية من الشوارع المخططة، والأبنية المزودة بكاميرات ومستشعرات، وذلك لتزويد السيارات بالصور الضرورية عندما تكون الرؤية محجوبة.

وهنالك خوارزميات أكثر شمولا، تنظر إلى قطاع النقل على مستوى المدينة، ويتعامل معها المسافرون بتزويدها ببيانات عن وجهات انطلاقهم وتوقيتها، وهذه الخوارزميات تدعى “إدارة الأسطول”، وتأخذ على عاتقها اختيار المسلك الأكثر أمانا والأقل زحاما.

كاسحات الثلج وناقلات البضائع.. آلات الخدمات العامة

لا يتوقف الأمر عند السيارات ذاتية القيادة، ففي ألمانيا طور باحثون على مدى سنتين دراجة نارية ذاتية القيادة، يمكنها تشغيل نفسها وتتسارع وتحافظ على توازنها دون تدخل بشري. وفي السويد طوّرت شاحنة “تي بود” ذاتية القيادة طولها سبعة أمتار، ويمكنها نقل 20 طنا من البضائع، ويمكن التحكم بها عن بعد في الرحلات المعقدة. ثم طُورت شقيقتها “تي لوغ” المصممة لنقل الأخشاب.

كاسحات ثلوج روبوتية عملاقة في النرويج تنظف مدارج المطارات

وفي النرويج كاسحات ثلوج عملاقة تنظف مدارج المطارات، بطول 20 مترا وعرض 5.5 أمتار، وتتحرك ذاتيا، ويتحكم بها من برج المراقبة، وهي قادرة على تنظيف 350 ألف متر مربع في ساعة واحدة. وفي هولندا تخضع النماذج الأولية للقوارب الذاتية للاختبار، المخصصة للبضائع والركاب، وبفضل شكلها يمكنها الالتحام لتشكيل جسور ومنصات عائمة.

ويبقى السؤال: هل نأتمن تلك الآلات على حياتنا؟ فهنالك إشكاليات حول طبيعة المستشعرات وكيفية تصورها للمحيط حولها، وكذلك إشكاليات أخلاقية لا تنتهي، مثل: هل تحطم السيارة نفسها أم تدهس الشخص المارّ أمامها؟ وتزداد هذه المشاكل مع دخول المركبات الذاتية حقبة “التعلّم العميق”، وهو تطوير برامج ذكائها الصناعي ذاتيا أثناء التجارب، والاستفادة من خبراتها السابقة في تصحيح أخطائها.

الروبوت القاتل.. معضلة تحديد المسؤوليات الأخلاقية

في أمريكا طُوّرت يد صناعية تحرك مكعبا عليه أحرف، لإظهار حرف معين كما تطلب منها الشاشة التي أمامها، ومع تكرار التجربة أصبحت اليد تظهر الحرف المطلوب بشكل أسرع وبحركات أسهل. وهنالك الكلب الآلي “أنيمال” الذي يحسن التحرك في كل الاتجاهات وحفظ توازنه عند الهبوط والصعود من السلالم، ويمكنه طلب المصعد والدخول إلى الغرفة المتاحة منه واختيار الدور الذي يريد الصعود إليه.

هل يمكن للذكاء الصناعي أن يخرج عن قوانين صانعه فيخالف الأخلاق والقيم ويتسبب بقتل الناس؟

وتبقى المشكلة الأخلاقية والمنطقية من العوائق الرئيسية للذكاء الصناعي، فالذكاء الصناعي متحيز لقوانين مصممه، وبهذا يتطلب الأمر مزيدا من التعميم والحيادية حتى يصلح الذكاء للبيئات المختلفة.

وفي أستراليا روبوت “رينجر بوت” الذي يعمل تحت الماء، وقد حصل على إذن بالصيد والقتل، وتتمثل مهمته في تحديد نوع معين من نجم البحر الغازيّ الآكل للشعاب المرجانية، وحقنه بسمّ قاتل، وبعد عامين من التطوير قام بأول تجربة في عمق الشعاب المرجانية، وكانت النتائج مشجعة، إذ تزيد فرصة صيد النجم المستهدف عن 99%، والنتيجة حماية الشعاب المرجانية من الانقراض.

“صوفي” روبوت سمكة يتحرك بانسياب في الماء ويصور المرجان والحياة البحرية

والسؤال الأخلاقي المطروح، هل يتخذ الروبوت قرارا بتصفية كائن حيّ؟ ويرى باحثون أن وجود الإنسان ضروري لمراقبة الروبوتات، حتى نخرج من هذه القضية الأخلاقية الشائكة. ومع ازدياد الذكاء الصناعي للآلات، نتساءل هل ستزيح البشر عن المشهد؟

أطباء وشرطة الغد.. قدرات خارقة تفوق قدرة البشر

يتعرف الذكاء الصناعي على الأشخاص والأشياء والأسلحة اليدوية مثلا، بطريقة أكثر تحديدا من البشر أنفسهم، ويصلح كثيرا في عمليات المراقبة الأمنية، وعند التقاط الكاميرات لمشاهد فيها شبهة اعتداء، فإن الذكاء الصناعي يخبر الجهات الأمنية المختصة بسرعة من أجل اتخاذ إجراء.

يستطيع الذكاء الصناعي التعرف على الأسلحة اليدوية فيخبر الجهات الأمنية على الفور

وفي المملكة المتحدة طورت خوارزميات للأمن السيبراني، تشبه عمل نظام المناعة في جسم الإنسان، وتتعلم ذاتيا على طرق الاختراق الإلكتروني، وتحدد موقع الجهاز المخترق بدقة، وتستخدم في الموانئ وبعض محطات الطاقة.

وقد دخل الذكاء الصناعي مجال التشخيص الطبي أيضا، فقد طورت خوارزمية “أنتروبوكس” لتخطيط القلب ومعرفة أمراضه، بدقة وسرعة تفوق بكثير عمل بعض الأطباء. فهل ستكون الروبوتات أطباء وشرطة الغد؟ وهل سيتفوق الذكاء الصناعي على الذكاء البشري؟

أسئلة الذكاء الصناعي.. آلات فائقة الذكاء بيد الإنسان

يطرح الذكاء الصناعي أسئلة شائكة وتختلف فيها إجابات المختصين، ما بين متحيز بشدة للذكاء الصناعي، يحاول إثبات أن الآلة تفوقت فعليا على البشر في أكثر من مجال، وبين مدافع عن الذكاء البشري، وأن ذكاء الآلات مهما تطور، فلن يكون بمستوى الذكاء الإنساني بالمجموع الكلّي.

يمكن للذكاء أن يتعلم أكثر فأكثر ويحل ألغازا من ألغاز البشر

كما أن مساهمة الذكاء الصناعي محدودة في مجال المشاعر والأحاسيس والفنون والآداب. وفي النهاية فالروبوتات تنفذ ما يبرمجه البشر فيها ويطلبونه منها، فهي أدوات من صنع الإنسان لخدمته، والسؤال متعلق بالبشر أنفسهم: إلى أي مدى يريدون الوصول بذكاء الآلات؟ وإلى أين ستأخذهم هذه الآلات؟

فهنالك آلات فائقة الذكاء وتقوم بأعمال كبيرة، ولكنها ليست جيدة أو سيئة بعينها، بل بما يطلب منها الإنسان أن تقوم به، مثل أي أداة أخرى.

وأخيرا نقول إنه لا يمكن منع التقدم التكنولوجي، ولكن ينبغي التفكير في العواقب، وتطبيق الأنظمة والقواعد التي تضمن لنا استخدام الآلات الذكية في المصلحة العامة للبشر.