رقائق الأنسجة.. محاكاة الأعضاء البشرية في الفضاء لعلاج أمراض الأرض

لا يتوانى العقل البشري عن إبهارنا من حين إلى آخر في كثير من ميادين الحياة، ولا يدع أي فرصة لبسط هيمنته على مشاكل وتعقيدات شتى، كانت تقف حجر عثرة في تطور وازدهار حضارة الإنسان. وبفضل تراكمات علمية على مدار عصور، استطاعت البشرية أخيرا أن تضع القدم الأولى على سطح جرم سماوي آخر بعيدا عن الأرض، ومن حسن الحظ، فإنّ جميع أولئك الذين صعدوا إلى القمر في 6 رحلات متتابعة بين عامي 1969-1972 كانوا يتمتعون بصحة جيدة إبان عودتهم إلى الأرض.

لقد كانت التجربة الأولى، وبطبيعة الحال كانت المخاطرة عالية والمجازفة في مهمة غير مضمونة البتة، وهي الهروب من جاذبية الأرض والعيش تحت رحمة بذلة الفضاء التي تفصل بين الحياة والموت. ومنذ فجر استكشاف الفضاء الأول ابتداءً بإرسال الكائنات الحية كالحشرات والحيوانات، فإن المحصول العلمي الناتج قد صنع مجموعة معرفية ثمينة لدينا.

ورغم ذلك، فما زلنا نفتقد لكثير من إرشادات النجاة، فمحطة الفضاء الدولية التي تستقر في المدار القريب من الأرض منذ أكثر من 30 عاما، ما زالت مواظبة على أداء مهامها في البحث العلمي والطبي، فكثير من التجارب التي تُجرى هناك في الأعلى تتعامل مع أخطار بيئة الفضاء، وهي معنية في المقام الأول بدراسة التغيرات التي تطرأ على الجسم الحي بعد تعرضه لغياب الجاذبية على فترات طويلة.

الرقائق الحيوية ستساعد على تجنب التجارب السريرية على الكائنات الحية والتي قد تعرض حياتها للخطر

إن اعتماد الجسم البشري لإجراء التجارب الفضائية عليه لا يعد الحل الأمثل في كثير من الأوقات، وتبقى التجارب السريرية والحيوية ذات نطاق محدود، نظرا لصعوبة التعامل مع بيئة الفضاء، كما أنّ استخدام الحيوانات لا يمثل خيارا فعالا كما هو الحال على سطح الأرض.

لذا كان ابتكار “رقائق الأنسجة” (Tissue Chips) أحد الحلول الحقيقية البديلة التي ستغيّر المشهد تماما، وستلعب دورا هاما في الميدان الطبي، لقدرتها على محاكاة الأجهزة الحيوية في الكائن البشري في حيز مكاني صغير، وربما تجنب التجارب السريرية على المخلوقات الحية التي قد تعرض حياتها للخطر.1

رقائق الأنسجة.. نماذج ثلاثية الأبعاد للأعضاء الحيوية

تعد تكنولوجيا رقائق الأنسجة إحدى صرعات الألفية الحديثة، وتعرف مجازا بمصطلح “أعضاء حيوية ضمن رقائق” (Organs-on-Chips)، وهي عبارة عن نماذج صغيرة ثلاثية الأبعاد للأنسجة البشرية، مزروعة في قالب (شريحة) ميكروفلوديكي، أي أنه ذو موائع جزيئية.

تُستخدم هذه الشرائح في المجال الطبي على وجه الخصوص، لدراسة تأثير العقاقير والعلاجات الأخرى على الأنسجة البشرية، دون الحاجة لإجراء تجارب فعلية على الكائن الحي إلا في مراحل متأخرة بعد اجتياز المراحل الخطرة.

كما يمكن تصميم هذه الرقائق لمحاكاة أعضاء معينة مثل الرئتين والقلب، ويمكن كذلك استخدامها لدراسة الاضطرابات الوراثية وتطور الأمراض وطرق علاجها. وإنه لمن المعلوم أنّ تطوير الأدوية ودراسة الأمراض يعدان من التحديات المكلفة التي يرتهن إليها الإنسان مرغما، لتفادي حدوث الآفات والجوائح المرضية.

تدفق العناصر الغذائية.. محاكاة البيئة الفيسيولوجية للعضو الحي

تتمثل آلية عمل رقائق الأنسجة بواسطة مجموعة من الإجراءات والخطوات، وذلك ابتداء باعتماد تقنيات التصنيع الدقيق (Microfabrication) التي تتضمن إنشاء خصائص وهياكل دقيقة على شريحة أو جهاز في غاية الصغر. وقد تتضمن هذه الخصائص الدقيقة قنوات وحجرات وممرات مصممة لربط الخلايا بعضها ببعض، وخلق بيئة مكروية مشابهة لأعضاء حيوية معينة.

ثم تزرع الخلايا البشرية في أماكنها المخصصة، مثل الخلايا الأولية أو الخلايا الجذعية المحفزة متعددة القدرات (IPSCs)، لتمنح نماذج نسيجية ثلاثية الأبعاد، كما تختار هذه الخلايا بعناية فائقة، وتزرع على الرقاقة بترتيب دقيق يشبه العضو الحيوي المستهدف.

ولأن الأجسام الحيّة تعتمد اعتمادا كليا على الماء، فإنّ الموائع الدقيقة (Microfluidics) تلعب دورا جوهريا في تشكيل قنوات “ميكروفلوديكية” مدمجة في الرقاقة نفسها، تسمح بتدفق محكم للعناصر الغذائية والأوكسجين، فتحاكي البيئة الفسيولوجية للعضو الحي. ويمكن التحكم في هذه القنوات كذلك وفقا للظروف والمحفزات التي تتعرض لها الأنسجة، مثل استخدام العلاجات الدوائية أو التعرض لقوى ميكانيكية.

دراسة الرقائق.. نتائج اختبار الأدوية وتحليل البيانات

بعد أن يحلّ دور عملية التحليل الوظيفي (Functional Analysis)، وباستخدام تقنيات مجهرية مثل الفحص المجهري، وأجهزة الاستشعار الدقيق، والقياسات الجزيئية، تصبح ممكنةً دراسةُ تلك الرقائق عبر متغيراتها مثل صلاحية الأنسجة، وإشارات الخلايا (Cell Signaling) والنشاط الأيضي وغير ذلك.

وعند اكتمال نموذج العضو الحيوي المعني، يحين الدور الأساسي والهدف الجوهري من تكنولوجيا رقائق الأنسجة، وهو اختبار الأدوية ونمذجة الأمراض. فمن ضمن بروتوكولات إنتاج الأدوية والعقاقير تجربتها على الأجسام الحية قبل طرحها في الأسواق، للتأكد من خلوها من أي أعراض جانبية، وبواسطة استخدام رقائق الأنسجة نجد الأمر أكثر كفاءة وسلامة.

وفي آخر المراحل تأتي عملية تحليل البيانات واستقرائها بعد تجميعها من الشرائح، باستخدام عدة مهارات وتقنيات مثل تقنيات المعلوماتية الحيوية، والنمذجة الحاسوبية، والتحليل الإحصائي، وغالبا ما تكون البيانات في منتهى التعقيد ومتعددة الأبعاد، لكن باستخدام طريقة التحليل الصحيحة، فإننا نحصل على نتائج مفيدة للغاية.2

انعدام الجاذبية.. فرصة دراسة الأعضاء الحيوية في الفضاء

لم تتوان وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في فتح آفاق جديدة لها في مضمار الاستكشاف والتجربة، فوفقا لإحصائية حديثة أعلنتها الوكالة، فقد جرى أكثر من 3 آلاف تجربة على متن محطة الفضاء الدولية خلال الـ21 عاما التي مضت منذ تأسيس المحطة، وذلك بمعدل 143 تجربة في السنة الواحدة.3

رقائق الأنسجة الحيوية ستستخدم لنمذجة بعض الأمراض البشرية كأمراض الكلى وعدوى الأنفلونزا

إنّ ذلك التوجّه نحو التجربة والاختبار دفع الوكالة إلى الدخول بشراكة تعاونية بين المركز الوطني لتطوير العلوم الانتقالية (NCATS) والمختبر الوطني الأمريكي لمحطة الفضاء الدولية، المعروف سابقا بمركز “النهوض بالعلوم في الفضاء” (NIH)، من أجل العمل على تطوير تكنولوجيا رقائق الأنسجة لاستخدامها في البحوث الطبية الحيوية في المحطة الفضائية، وكان ذلك ابتداء من عام 2016.

ويدفع هذا التعاون غير المسبوق إلى الكشف عن كثير من الخبايا بدراسة آثار بيئة الفضاء، حيث تنعدم فيها تقريبا تأثير الجاذبية، ويُطلق عليها “بيئة ذات جاذبية صغرى”، ومن جملة الاختبارات دراسة أعراض الشيخوخة التي تظهر سريعا بعد التعرض لهذا النمط من البيئة، إذ تبدأ العضلات بالتدهور والتآكل، فتصيبها الهشاشة، وينخفض أداء القلب والرئة، وتنقص المناعة، ويعد ذلك جميعه مرهونا بانعدام الجاذبية.

وبفضل تطبيقات رقائق الأنسجة في مختبرات المحطة، سيصبح من السهل دراسة الأعضاء الحيوية على مستوى الخلايا والأنسجة المرتبطة بأعراض الشيخوخة المبكرة، ومن الممكن كذلك الوصول إلى نتائج فعّالة فيما يتعلق بعملية إبطاء ظهور الأعراض.

وفي صدد ذلك تشير المسؤولة في تنفيذ التجارب العلمية في المختبر الوطني عالمة الفضاء “ليز وارن”، إلى أنّ رحلات الفضاء المتكررة من شأنها التسبب في حدوث بعض التغيرات الجذرية في جسم الإنسان. وتتوقع كذلك بأنّ رقائق الأنسجة في الفضاء قادرة على صنع الفارق، وأن تعمل عمل رواد الفضاء لإجراء الاختبارات اللازمة.

اختبار الرقائق.. مقارنة بين التجارب الفضائية والأرضية

وفي نهاية 2018 أعلن المركز الوطني عن إطلاق أولى رقائق الأنسجة الجاهزة للاختبار وفق معايير وكالة ناسا نحو محطة الفضاء الدولية، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم ما زالت تجارب عدّة تجرى على عدة مستويات.4

إنّ أي تجربة على رقائق الأشعة تجرى على متن المحطة الفضائية يكون لها نظيرٌ مماثل على سطح الأرض حيث تكون الجاذبية بشكلها الطبيعي، ثم تقارن النتائج بين التجربتين لاحقا، مع العمل المباشر على الاختبارات السريرية المباشرة للمرضى للحصول على نتائج فعالة. وقد يستغرق العمل على تجربةٍ ما من بضعة أسابيع إلى عدة شهور، ومن تلك التجارب الجارية:

  • محاكاة الرئة ونخاع العظام: أقبل علماء ومهندسون في مستشفى الأطفال في فيلادلفيا وفي جامعة بنسلفانيا على تصميم شريحتي أنسجة منفصلتين تحاكيان الظروف الحيوية في الرئة ونخاع العظم لفهم استجابة الجسم للعدوى.

بينما ستُراقب عملية تفاعل الرئة مع العدوى البكتيرية، وعلى وجه الخصوص مشاهدة كيفية عمل نخاع العظم وحركة خلايا الجهاز المناعي لمحاربة العدوى.

وسيقوم المخبريون بعد ذلك بربط أنظمة نخاع العظم والرئة على شريحة واحدة، وتعد هذه التجربة ذات صلة مباشرة بفهم العلاقة بين الشيخوخة وقدرة الجسم على مكافحة العدوى.

التركيب الداخلي لرقاقة الأنسجة الحيوية
  • محاكاة الكلى: يهدف باحثون في جامعة واشنطن للطب إلى استخدام نماذج لشرائح أنسجة الكلى، لفهم تأثير الجاذبية الصغرى على وظائف الكلية، ويأمل الباحثون في نهاية المطاف أن يحصلوا على أدلة جديدة حول العلاقة بين الشيخوخة وعمل الكلية، مثل التغيرات في استقلاب فيتامين د “عملية الأيض” وتكوّن الحصوات.
  • محاكاة الحاجز الدموي الدماغي: تسعى شركة التكنولوجيا الحيوية “إيميوليت” (Emulate) إلى دراسة العوامل المؤثرة على الحاجز الدموي الدماغي، وما يجعله أكثر قابلية للاختراق في ظل وجود الجاذبية الصغرى. ويعد الحاجز الدموي الدماغي درع الحماية الأساسي للدماغ من الالتهابات والسموم في الدم، وفهمُ المشاكل المتعلقة قد يساهم في علاج الاضطرابات التنكسية العصبية.
  • محاكاة العظام والغضاريف: في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قرر باحثون صناعة نموذج للغضاريف العظمية، لفهم آلية تفاعل هذه الأنسجة والجهاز المناعي بشكل أفضل مع إصابات مفصل الركبة المنتشرة التي تساهم في هشاشة العظام المتلفة.5

آثار الشيخوخة.. بيئة ذات جاذبية صغرى تصنع العلاج

إن تطبيق تقنية رقائق الأنسجة في بيئة الفضاء لا يعود بالمنفعة على رواد الفضاء ورحلات الفضاء المستقبلية فحسب، بل إنّ الغرض الرئيس في هذه التطبيقات هو فتح المجال للبحث في الأدوية والعقاقير الممكنة لعلاج الحالات الآنف ذكرها المتعلقة بالشيخوخة، وحالات أخرى كثيرة يجري العمل عليها فيما يتعلق ببقية الأعضاء مثل القلب والدماغ وغيره.

وكما أشرنا سابقا، فإن ما يجعل الفضاء بيئة خصبة لمثل هذه التجارب هو ظهور آثار الشيخوخة بشكل أسرع من ما هو على الأرض، وعليه فإنّ الوقت يكون لصالحنا لعلاج الحالات المرضية على كوكب الأرض، وهي في الحقيقة أشبه بعملية نمذجة الأمراض، لكن في بيئة ذات جاذبية صغرى.

 

المصادر:

[1] انجبر، إ. دونالد (2022). ورقة علمية: أعضاء حية على رقائق لنمذجة المرض وتطوير الأدوية والمعالج الطبيعي. تم الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/s41576-022-00466-9

[2] لوينج، تشاك وآخرون (2022). ورقة بحثية: دليل لتقنية عضو-على-رقاقة. تم الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/s43586-022-00118-6#Sec3

[3] جوزمان، انا (2022). خمس نتائج بحثية لمحطة الفضاء تساهم في استكشاف الفضاء العميق. تم الاسترداد من: https://www.nasa.gov/mission_pages/station/research/news/five-ISS-research-results-deep-space-exploration

[4] تاجلي، دانيلو (2022). رقائق الأنسجة في الفضاء. تم الاسترداد من: https://ncats.nih.gov/tissuechip/projects/space

[5] محررو الموقع (2022). العلماء المدعومون من “إن سي ايه تي اس” يصممون نماذج للظروف المتعلقة بالشيخوخة في الفضاء لتحسين صحة الإنسان على الأرض. تم الاسترداد من: https://ncats.nih.gov/news/releases/2019/tissue-chips-in-space

 


إعلان