مستقبل الخوارزميات.. معادلات تجسد إشارات الدماغ وتختار شريك الحياة

 

كيف ستؤثر الخوارزميات على الوظائف في المستقبل؟ وهل ستقف بجانب الإنسان في حسم معركة الأمن الغذائي؟ وما قصة أولئك الذين رحلوا إلى العالم الآخر، ولكنهم ما يزالون يسردون حكاياتهم؟

يواصل عالِم الرياضيات والباحث في شؤون الخوارزميات “أنجان سونداران” رحلته حول العالم بحثا عن إجابات لهذه الأسئلة الوجودية.

وما تزال قناة الجزيرة الوثائقية تعرض لنا آخر ما توصل إليه البروفيسور “سونداران” والعلماء الذين يقابلهم والمراكز البحثية التي يزورها، فيما يتعلق بتكنولوجيا الخوارزميات والشيفرات الرقمية، ضمن سلسلة بعنوان “الخوارزميات.. نظام عالمي جديد”.

“المدير البشري أفضل لي”

يقول البروفيسور “أنجان سونداران”: قد لا يكون المهم أن نفقد وظائفنا لصالح الآلة، ولكن لصالح من سنعمل؟ وكيف سيكون عملنا لصالح الخوارزميات بعد اليوم؟ أنا مع السائق أمجد حسين من مومباي، وهو يعمل مع تطبيق مشابه لتطبيق “أوبر” يدعى “أولا”، ومديره هو ذلك التطبيق على هاتفه المحمول، وهو الذي يصدر له التعليمات، وما على أمجد سوى تنفيذها.

“أولا”.. تطبيق هندي لسيارات الأجرة يتحكم بالسائق ويعطيه الأوامر

يقول أمجد: المدير البشري أفضل لي، فالإنسان قادر على فهم مشاعر الإنسان، أما هذا البرنامج فعقل بلا قلب، لا أحب أن أتخيل ذلك اليوم الذي تكون فيه الآلات هي المسيطرة على حياتنا وأعمالنا.

ولكن هل تستطيع الخوارزميات صناعة المشاعر؟ نحن نعلم أن الموسيقى تقوم على المشاعر، وهي أيضا قائمة على الخوارزميات والبرامج، مثل الموسيقى الإلكترونية. فتعالوا بنا نتعرف على حركة “ألغورايف” الجديدة كليا.

استخدام الخوارزميات لتأليف مقاطع موسيقية حية

إنه حدثٌ تُستخدم فيه الخوارزميات لتأليف موسيقى حية، ويقوم الموسيقيون “المبرمجون” بعرض كيفية التأليف مباشرة باستخدام الشيفرات، إذ أن لكل صوت شيفرة، بل لكل آلة شيفرة أيضا، ثم يقومون بتعديل الشيفرات حية على الهواء، بما يتجاوز حدود الآلة والصوت.

إنها ديمقراطية الموسيقى، وكسر حاجز النخبوية الضيقة، فالكل هنا يستطيع أن يؤلف الموسيقى ويسعد الجماهير. إنها الرياضيات يا سادة، تلك اللغة العالمية قد صنعت هذه الموسيقى، التي هي لغة عالمية أيضا.

خوارزميات الألعاب.. معادلات رياضية تحاكي سلوك البشر

قد يتساءل بعضنا هل ذكاء الخوارزميات محدود؟ وكيف تلعب الخوارزميات الألعاب التناظرية التي صممها الإنسان؟ في لعبة تنس الطاولة مثلا، يراقب الإنسان مسار الكرة ويجهز مضربه لصدها في حركات تبدو تلقائية سهلة، ولكن ماذا لو أردنا أن نكتب هذه الحركة على شكل خوارزمية؟ وإلى أي مدى ستتقن الآلة محاكاة الحركات البشرية بواسطة الخوارزميات؟

روبوت يقوم بحل لعبة “جنغا” الخشبية بواسطة اللمس المباشر

قادنا هذا الفضول إلى معهد ماساتشوستس للتقنية، والتقينا مع “ألبيرتو رودريغز” مدير مختبر المعالجة والآليات، وهو يستخدم الخوارزميات لتعليم الآلات الذكاء وحساسية اللمس، وسوف يلعب البروفيسور “سونداران” لعبة “الجنغا” مع الروبوت، وهي لعبة ترتيب قطع من الخشب الملساء فوق بعضها، ثم انتزاعها واحدة تلو الأخرى، من غير أن ينهدم البناء.

لم تكن خوارزمية اللعبة مجرد معادلات رياضية فقط، إنها نوع من التعلم والتذكر، بحيث يبني الروبوت مهاراته ويتذكر أخطاءه ويحاول تفاديها، هذا كله بالإضافة للمعادلات المعقدة التي تعلمه مهارة اللمس والإحساس بالأشياء. فإذا وصلنا بالروبوتات إلى هذا القدر من الإحساس، فهل بمقدورنا الاستفادة منها في حل بعض المشكلات التي نتوقعها مستقبلا؟

“لا نريد أن يستبدلونا بخوارزمياتهم”

يذهب البروفيسور “سونداران” إلى مختبرات “آي بي إم” (IBM) للذكاء الصناعي في بنغالور بالهند، حيث يطورون الخوارزميات لمحاكاة ما يفعله المزارعون في الحقول، باستخدام مفهوم الزراعة الدقيقة الذي يعتمد على مراقبة البيئة وقياسها ورصد تأثيرها على المحاصيل.

الزراعة الذكية تقدم إرشادات للمزارعين عن الوقت الأمثل للزراعة، والبذور الأكثر مناسبة ومواعيد الري ورش المبيدات

تقول العالمة والباحثة “رانجيني براساد”: نجمع ترليون “بايت” من البيانات من الأقمار الصناعية من أنحاء العالم، ولدينا القدرة على استقبال البيانات من الطائرات المسيرة ووسائل التواصل والمحطات الأرضية. وتمتاز خوارزمياتنا باستخدام هذا الكم الهائل من البيانات، علميا وتاريخيا، من أجل الحصول على أقصى استفادة من المتغيرات الجوية والبيئية لصالح المحصول.

ويمكن تقديم إرشادات للمزارعين عن الوقت الأمثل للزراعة، والبذور الأنسب لطبيعة أراضيهم ومواعيد الري ورش المبيدات، ومساعدتهم في مكافحة أمراض معينة، بعد أن يزودونا بصور الأوراق وأماكن الإصابة، لكننا نعلم أن هذه الخوارزميات لن تحل مكان الفلّاح، بل هي لمساعدته فقط، وسيكون للخوارزميات دور مهم في تحقيق الأمن الغذائي العالمي مستقبلا.

يقول “سونداران”: أنا الآن في طريقي إلى الحقل، لأرى كيف يمكن للخوارزميات أن تساعد المزارعين في المستقبل، إذ يشكو الفلاحون من ازدياد أنواع الحشرات والآفات، ومن تفاوت معدلات هطول الأمطار، فهم لا يعرفون بالضبط تغيرات المناخ وتأثيرها على المزروعات، وهذا يوقعهم في أخطاء يأملون أن تساعدهم الخوارزميات في تفاديها.

يقول أحد المزارعين: نعم إذا قدموا لنا معلومات موثوقة عن تغيرات المناخ وموعد الأمطار وماذا يصلح للزراعة في أوقات معينة، فسيكون هذا جيدا، وإذا دربونا على استخدام هذه التطبيقات، فسيساعدنا هذا كثيرا، المهم أن نبقى في مزارعنا، لا نريد أن يستبدلونا بخوارزمياتهم.

دمج الدماغ البشري والذكاء الصناعي.. حلم الطفولة

قد يكون من مصلحتنا التخلص من تحكم الخوارزميات بنا، ولكن هل يمكننا التحكم في الشيفرة من أجل مصالحنا الفردية؟ قد تكون القفزة التالية في أن ندمج الدماغ البشري والذكاء الصناعي ليكونا واجهة واحدة تتحكم بمسارنا، بحيث يكون الإنسان والآلة شيئا واحدا متكاملا.

سماعة الرأس العصبية التي تستخدم الخوارزميات للتعرف على الأفكار وتحويلها إلى أوامر

سنلتقي مع “تان لي”، وهي مؤسِسةُ ورئيسة “إيموتيف”، إحدى الشركات الرائدة في مجال واجهة الدماغ الحاسوبي، وتشتهر شركتها بسماعة الرأس العصبية التي تستخدم الخوارزميات للتعرف على الأفكار وتحويلها إلى أوامر، لكي يتحكم الإنسان في الأشياء الافتراضية والمادية باستخدام دماغه.

وتقوم فكرة هذه الخوارزمية على التعلم المتتالي، فتقيس أولا الإشارات الصادرة عن الدماغ في حال الاسترخاء، ثم ترصد التغيرات على الإشارات العصبية عندما يهمّ الإنسان بعمل شيء ما، وتقوم بتحويل هذه التغيرات إلى أوامر، لينفذها ذلك الشيء المادي أو الافتراضي الذي فكّرنا فيه.

تقول “تان لي”: سأرتدي هذه القبعة المشفرة الآن، وأركز تفكيري على هذه اللعبة الطائرة التي أمامي، سأحاول أن أجعلها تطير من دون أن ألمسها، فقط سأرسل لها إشارات دماغي التي ستأمرها بالطيران، يا إلهي، إنها تطير، إنه الخيال العلمي بحد ذاته يتحقق بين أيدينا الآن.

ولكن ما الفائدة من كل هذا؟

عصر السايبورغ.. تحديات أخلاقية لمستقبل مبهر ومخيف

إن دماغ الإنسان هو حاسوب تناظري، وهو عكس الحاسوب الرقمي الذي صنعه الإنسان، ويكمن التحدي في أن تجعل التناظري والرقمي ينجزان عملا ما بجهد مشترك، كما في رجل السايبورغ (مزيج بين الكائن الحي والآلة).

تكنولوجيا السايبورغ تزرع خورازمياتها في الدماغ مباشرة

سيكون الوضع آمنا ما دمنا نقبل برغبتنا الخالصة على ارتداء قبعة المجسات هذه لتنفيذ أوامر آمنة محددة، ولكن الخطير جدا هو أن تزرع هذه التكنولوجيا في أدمغتنا رغما عنا، ثم لا يكون هنالك حدود للأوامر التي تطلب تنفيذها، وهنا تقع مسؤولية قانونية وأخلاقية على الذين قاموا بتصميم هذه التكنولوجيا وعلى الذي يستخدمونها.

إنها القوة الخارقة التي كنا نفكر فيها في صغرنا، ولكن كيف ستسير الأمور في المستقبل؟ هل ستزيد من قدراتنا البشرية؟ أم أنها ستأخذ منحى خطيرا في الهدم والتدمير؟

ثم هل نحن بحاجة إلى كل هذه القوى الخارقة؟ أم نحن بحاجة إلى المزيد من الحب فقط؟ وماذا لو زرعنا هذه الخوارزميات في قلوبنا بدلا من أدمغتنا؟

خوارزميات الارتباط.. تسلل الذكاء الصناعي إلى عالم الزواج المدبر

ينشأ أكثر من 50% من العلاقات الزوجية في العالم بطريقة مدبرة، إما عن طريق العائلات أو مكاتب وسطاء الزواج، وتزداد هذه النسبة لتصل في الهند إلى أكثر من 90%.

لكن الذكاء الصناعي الآن يتسلل إلى أكثر العلاقات الإنسانية عراقة في الهند، ففي بلدة بيون في الهند، ارتبط “مانوج” و”آرشانا” عن طريق موقع “بيترهاف” الذي يعتمد خوارزميات الذكاء الصناعي، للمواءمة بين الباحثين عن الارتباط، بعد أن حققا نسبة 85% من التوافق فيما بينهما تجاه قضايا محددة.

في الغالب يبحث الوالدان عن الصفات المادية المتوافقة بين العروسين، مثل الطول والجمال والدخل المادي والمركز الاجتماعي، ولكن ماذا عن التوافق الروحي والعاطفي والفكري؟ لقد بحثت الخوارزمية هذا، فهي لا ترصد هواياتك فقط، بل ترصد أيضا ردود أفعالك ومشاعرك تجاه بعض الأمور. ولكن كيف نجح هذا؟ بماذا تفوق الذكاء الصناعي على البشر في هذا المجال الإنساني بامتياز؟

“بيترهاف”.. قاعدة بيانات تمنحك الشريك المثالي

توجهنا إلى بنغالور، والتقينا مع “غوبتا” و”نامديف” المتخرجين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهما من قاما بتأسيس موقع “بيترهاف” عام 2016، لنطرح عليهما تساؤلاتنا. يقول غوبتا: البيانات هي العامل الرئيسي في تحديد نسبة توافق بين شخصين، قد يكون الحب أمرا غير خاضع للقياسات العقلية، ولكنه يمكن أن ينشأ انطلاقا من أمور وسلوكيات منطقية يمكن قياسها ورقمنتها.

“بيتر هاف” ذكاء صناعي للجمع بين طالبي الزواج

يدخل “بيترهاف” إلى الملفات الشخصية للباحثين عن الارتباط، ولديه قاعدة بيانات تتضمن 100 ألف حالة زواج واقعية حول العالم، وبيانات عن احتياجات كل مرتبط ورغباته وميوله، وماذا يحب، وماذا يكره.

بعد أن يأخذ لك صورا من زوايا متعددة، وبوضعيات مختلفة يسألك “بيترهاف” 16 سؤالا عشوائيا، قد يبدو بعضها بسيطا إلى درجة السخافة، ولكن هذه البيانات تساعد الخوارزمية في محاولة رسم صورة دقيقة لحالتك النفسية والعاطفية والحياتية المادية، وبناء عليه تختار لك الخوارزمية من بين أعضائها من سيكون الأكثر توافقا معك.

بعث التاريخ.. أشخاص من الماضي يعيدون سرد الأحداث

يقول البروفيسور “سونداران”: إذا كانت الخوارزميات يمكن أن تساعدنا في الحب، فهل لها القدرة على تحديد تاريخنا الشخصي؟ أريد أن أعرف ذكرياتي في العالم المشفر كيف تكون، لذا توجهت إلى معهد التكنولوجيا الإبداعية في جامعة جنوب كاليفورنيا، وهنالك اطلعت مع “جيليان هيجيدوس” على مشروع “شهادة ذات أبعاد” الإبداعي.

مشروع “شهادة ذات أبعاد” يستحضر صورة ثلاثية الأبعاد عن أشخاص من الماضي يحكون قصصهم

إنه مشروع يستحضر صورة ثلاثية الأبعاد عن أشخاص من الماضي، لهم قصص خاصة، قد يكونون نجوا من حروب أو كوارث، ثم يحدثونك عن قصصهم وكأنهم أحياء بين يديك الآن، وتشعرك إجاباتهم عن أسئلتك العشوائية عن مدى عبقرية هذه الخوارزمية، وجهود العاملين من خلف الكواليس في استحضار هذا الكم الهائل من المعلومات عن الشخصية.

ستسمح هذه العملية الإبداعية للناس في المستقبل بالتحدث إلى أشخاص من الماضي، يخيل إليك أنك تتحدث إلى شخص حقيقي ماثل بين يديك الآن، والبرنامج الصوتي المصمم لهذه الغاية يبدو إنسانيا متقنا بشكل عظيم، إنه أشبه باستحضار أرواح الذين مضوا، وإعادتهم إلى الحياة من جديد.

إنها طريقة لرواية التاريخ بلسان من عايشوه، عن طريق سرد القصص المحكية بواسطة أشخاص، وليس عن طريق الكتاب. بل يمكن الذهاب بالخيال بعيدا، وذلك بالاحتفاظ بصورة رقمية ناطقة عن أشخاص ماتوا، تستمر في ذكر حكاياتهم ومواقفهم، رغم أن الأرض قد غيّبت أجسادهم عنا.


إعلان