سهم الزمن.. خط الإنتروبيا المتزايدة منذ الانفجار العظيم

لطالما شغل الزمن الفلاسفة والفيزيائيين كما شغل الشعراء والأدباء، ورغم أنهم يختلفون جميعا في الطرائق التي يتعاملون بها مع هذا الاصطلاح المعقد، فإنهم يتفقون في شيء واحد فقط، وهو أن الجميع يجهل طبيعته، فلا أحد يعرف ممَّ يتكون أو لمَ يمضي للأمام بلا توقف ولا دوران للخلف؟

ونستسلم للحقيقة الثابتة التي تقول إننا سنولد رضّعا، ثم بمرور الزمن نصبح أطفالا فمراهقين يملؤهم العناد، ثم شبابا يبحث عن ذاته بعد عدة سنوات، وننضج بعد ذلك، ثم بعد الأربعينيات نبدأ في الاستعداد للشيخوخة، ويأتي يوم ما ونموت، ذلك شيء لا نتمكن من عكسه للخلف، مهما حصل.

الغريب في الأمر هو أن انعكاس خط سير الزمن، ليعود من الخلف إلى الأمام، من الشيخوخة للطفولة؛ يظل ممكنا بالنسبة لقوانين الفيزياء.

ولفهم ثقل الجملة السابقة دعنا نضرب مثالا بسيطا: تخيل أنك استيقظت في الساعة السابعة صباحا، ثم بدأت يومك المعتاد، ثم تجهزت في نصف ساعة، ثم نزلت من البيت إلى السيارة، وانطلقت بعد ذلك في الطريق للعمل لتصل في نصف ساعة أخرى، إنها الساعة الثامنة بالضبط وأنت الآن جالسٌ على مكتبك لتتابع مبيعات القسم خلال ثلاثة أشهر مضت.

تناظر القانون الفيزيائي.. جاذبية لا يغيرها الزمان ولا المكان

لنفترض الآن أنك تعمل فيزيائيا، وقد طُلب منك أن تستخدم المعادلات الرياضية لوصف ما حدث خلال الساعة السابقة. فلو قررنا مثلا أن نركز على الجزء الذي تركب فيه سيارتك لتصل إلى العمل، فإذا عرفنا المسافة بينك وبين مقر العمل، وعرفنا سرعة السيارة المتوسطة مع معرفة بشكل الازدحام في الشوارع، فإن هناك قانونا فيزيائيا بسيطا جدا يتوقع موعد وصولك بالضبط، إنه نفس القانون الذي تستخدمه خوارزمية “خرائط غوغل” لتتنبأ بموعد وصولك لأي مكان، بدقة ترتفع يوما بعد يوم.

لماذا لا ينعكس خط سير سهم الزمن فتتجمع شظايا البيضة المسكورة لتعود بيضة صحيحة؟

لكن ماذا لو طلبنا منك أن تعكس إشارة الزمن في هذه المعادلة لتصبح بالسالب؟

في الفيزياء يعني ذلك أن ينعكس الزمن في المعادلة، ففي هذه الحالة فإن القانون الفيزيائي الذي استخدمته لن يخرج بنتيجة مختلفة، فقوانين الفيزياء لا تمتلك اتجاها مُفضَّلا للزمن، ويمكنها أن تبني على ما يحدث الآن لتخبرك بالمستقبل، أو يمكن أن تبني على ما يحدث الآن للرجوع إلى ما حدث في الماضي، وصولا إلى لحظة نشأة الكون نفسه.

ولفهم تلك الفكرة، قف الآن واقفز للأعلى مرة واحدة، ثم كرر نفس الفعل في غرفة أخرى، ثم مساء ثم غدا صباحا، قد يتهمونك بالجنون في هذه الحالة، لكنك على الأقل قد تمكنت من استنتاج أهم خصائص قوانين الفيزياء، وهي أن القانون الفيزيائي لا يتغير بتغير موضعك في المكان أو الزمن الذي أجريت فيه التجربة، فهناك دائما جاذبية أرضية تجذبك إليها بنفس القوة، عبر قانون واحد في كل تلك الحالات، يسمى ذلك “تناظر القانون الفيزيائي”، ويمتد ليشمل انعكاس الزمن، فإذا كان الزمن يجري للأمام أو يجري للخلف، فالقانون الفيزيائي لا يتأثر بل يعمل بشكل طبيعي.

لكن ما سبق يطرح مشكلة كبيرة، لسبب واحد وهو أن الواقع ليس كذلك، فالزمن بالنسبة لنا يجري في اتجاه واحد فقط هو اتجاه المستقبل. وفي هذه الحالة يمكن لسؤال غريب جدا أن يكون بديهيا مثل: لماذا تسمح الطبيعة بمرور الزمن للأمام، فتلقي ببيضة على الأرض لتنكسر وتوسخ المكان، ولا تسمح بالعكس، أي أن تتجمع أجزاء البيضة معا لتصنع بيضة كاملة، ثم ترتفع لتقف في يديك من جديد؟

“سهم الزمن”.. فوضى متزايدة على طريق المستقبل

كان أول من طرح حلا لتلك المشكلة هو الفيزيائي البريطاني “أرثر أدينغتون” سنة 1928 حين قال في كتابه “طبيعة العالم الفيزيائي”: دعونا نرسم سهما بشكل اعتباطي، فإذا وجدنا أثناء اتباعنا للسهم المزيد من الفوضى في حالة العالم، فإن السهم يشير إلى المستقبل، أما إذا قلّت الفوضى فإن السهم يشير إلى الماضي، وهذا هو التمييز الوحيد المعروف للفيزياء.

لكن ما الذي يعنيه “أدينغتون” بالفوضى؟

الإنتروبيا هي زيادة مستمرة للفوضى في نظام مغلق

يربط “أدينغتون” بين انطلاق الزمن للمستقبل بلا توقف أو رجوع للخلف (الاصطلاح الذي كان أول من أطلق عليه “سهم الزمن”) وبين ما يعرف باسم “القانون الثاني للديناميكا الحرارية”، وهو قانون ينص على أن الإنتروبيا دائما في ازدياد، وتشتهر الإنتروبيا على أنها تعريف للفوضى.

ونضرب لذلك مثالا تقريبيا، فحين تنظم غرفتك الآن ثم تتركها بلا تنظيم لمدة شهر مثلا، فإنها بالتأكيد ستصبح في حالة فوضى عارمة، هنا نقول أن الإنتروبيا قد ارتفعت مع الزمن.

حبر أزرق كثيف في حوض ماء زجاجي.. قياس الاحتمالات

قد نقول إن الإنتروبيا ارتفعت مع الزمن، ولكن دعنا نتعمق قليلا في فهم الأمر، ولنعرّف الإنتروبيا بأنها مقياس لعدد الاحتمالات الممكنة لحالات منظومة مُغلقة، ولفهم الفكرة دعنا نفترض أن هناك كتابا مكونا من 200 صفحة، ولتحقيق أفضل ترتيب لها، فهناك احتمال واحد فقط، وهو ترتيبها بالشكل الطبيعي (1-2-3، إلخ)، لكن هناك عدد كبير جدا من الاحتمالات الأخرى الفوضوية، أي غير المنتظمة، وهنا نقول إن الإنتروبيا أقل في الحالة المنتظمة وأعلى في الحالة الفوضوية.

يستلزم سهم الزمن تفرق النقاط المنظمة، ولا يمكن رمي شحنة حجارة بناء فتقع مصطفة منتظمة

والآن دعنا نلقي نقطة حبر أزرق كثيف في حوض ماء زجاجي، ولنفترض أننا نريد حساب عدد الاحتمالات الممكنة لموضع جزيء ما من الحبر اسمه “س”، فمتى ستكون الاحتمالات أكبر؟ أهو في لحظة وصول نقطة الحبر للماء في الحوض، أم بعد خمس دقائق حين ينتشر الحبر في كل الحوض، فيصبح لون الماء أزرق؟

الإجابة هي الحالة الأولى بالطبع، لأن الجزيء ما زال ضمن نقطة الحبر وقُطرها أقل من نصف سنتيمتر مثلا، لكن بينما ينتشر الحبر في الكوب تدريجيا فإن موضع الجزيء “س” يمكن أن يكون ضمن مساحة أكبر.

رحلة السيارة.. سنة كونية تجبر الزمن على السير للأمام

كما أسلفنا، يقول القانون الثاني للديناميكا الحرارية إن الإنتروبيا تزداد دائما، يعني ذلك أنه حينما تنكسر بيضة فإن جزيئاتها تتوزع في مساحة أكبر، ولن ترى تلك الأجزاء تتجمع لبناء بيضة مرة أخرى، وحينما تنفجر قنبلة فإن الأمر ذاته يحدث، وحينما ينكسر كوب من الزجاج فإنه يتفتت إلى قطع أصغر، لكنك لن ترى قط شظايا صغيرة من الزجاج تلتصق شيئا فشيئا لتصنع كوبا كاملا.

ويعيدنا ذلك مرة أخرى إلى رحلتك بالسيارة من المنزل إلى العمل، فحينما تُدير سيارتك يحترق البنزين ليدير الموتور الذي يحرك العجلات، ثم يخرج العادم من السيارة للسماء، وتحتكّ التروس مولدة طاقة في صورة صوت المحركات وحرارة تنتشر في جوانب السيارة، لذلك تمتلك سيارتك ماء للتبريد.

ولكن جزءا من هذه الحرارة ينتشر إلى الفضاء المحيط بالسيارة، وتتحرك السيارة فتحتك بالأرض وتتفاعل مع الرصيف، وتترك جزءا من مطاط إطاراتها على الرصيف، يمكنك تدوير كل ذلك للأمام، لكن لا يمكنك جمع كل تلك الطاقة المفقودة مرة أخرى لإعادتها إلى الخلف، إلى حالة كانت الإنتروبيا فيها أقل.

الفيزيائي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل “ريتشارد فاينمان”

وفي هذه الحالة، فإن الزمن يُضطر للاتجاه إلى الأمام، كي تترتب الأحداث في الكون بطريقة تتماشى مع ارتفاع الإنتروبيا، وحين ترى مشهدين، في أحدهما نقطة حبر تنتشر في الماء، وفي الثاني ماء أزرق ينسحب منه الحبر بالتدريج ليصنع نقطة، فإنك ستتأكد تماما أن المشهد الأول طبيعي والثاني معكوس، هذا لأن عقلك تعلم مع الوقت كيف يرى ازدياد الإنتروبيا على أنها تقدم الزمن للأمام.

وفي الواقع فإن دماغك ذاته هو جزء من تلك العملية، فحينما يحدث تغير ما في محيطك، كأن تمر مثلا بالسيارة على صخرة كبيرة دون أن تدري، مما يدفعك للتخبط على مقعدك بشكل عنيف، فإن ذلك الموقف ينطبع في الخلايا العصبية الموجودة في دماغك، صانعا ما تعرفه باسم “الذكريات” التي تميز ذلك الحدث في الماضي، على أنه كان عبارة عن علاقة نشأت بينك وبين السيارة وبين تلك الصخرة، تلك الذكريات هي معلومات جديدة أضيفت إلى دماغك الذي أصبح أيضا في حالة إنتروبية أعلى، وبالتالي فإنك أيضا ستدرك أن الزمن يمضي للأمام مع ارتفاع الإنتروبيا.

الانفجار العظيم.. نقطة الصفر التي تمددت منها الإنتروبيا

ما ذكرناه في مثال السيارة يقودنا إلى نقطة هامة، فإذا كانت الإنتروبيا في ازدياد دائم، فإن ذلك يعني أنها كانت يوما ما قبل 50 سنة مثلا في حالة أقل، وكانت أقل من تلك الحالة السابقة قبل 100 سنة أخرى، وإذا قررنا السفر في الزمن للخلف فسنجد نقطة واحدة كانت الإنتروبيا فيها أقل ما يمكن، أي كان الانتظام أعلى ما يمكن، هذه النقطة هي الانفجار العظيم نفسه.

كان الكون في زمن الانفجار العظيم بحالة من الإنتروبيا المنخفضة ومن تلك النقطة أخذت الإنتروبيا في الزيادة

وأفضل النظريات لدى العلماء الآن تقول إن الكون كله قد بدأ بانفجار عظيم، تسبّب في ظهور كل ما نعرفه الآن من المجرات، وما تحتويه من نجوم وكواكب وسحب غبارية، بما في ذلك الأرض ومحتوياتها من الجبال والمحيطات والبشر، وكل ذلك كان جزءا من نقطة واحدة في غاية الصغر والكثافة والحرارة إلى حد لا يمكن تصوره قبل حوالي 13.8 مليار سنة، ولسبب ما تمددت تلك النقطة مع الزمن لتصنع الفضاء نفسه الذي نعرفه، وفيه ظهر كل شيء آخر.

لكن ذلك أيضا يطرح سؤالا مهما على لسان الفيزيائي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل “ريتشارد فاينمان” في الجزء الأول من سلسلة محاضراته الشهيرة، حينما يقول: لسبب ما، كان الكون في وقت ما بحالة من الإنتروبيا المنخفضة (يقصد الانفجار العظيم)، ومن تلك النقطة أخذت الإنتروبيا في الارتفاع، ونحن لا نعرف هذا السبب، وإنما لدينا بعض التخمينات بشأنه، لكن لا يمكن فهم سهم الزمن بشكل كامل، إلا حينما ننتقل من مرحلة التخمين إلى الفهم العلمي.

وإلى الآن لم يستطع العلماء الإجابة عن هذا السؤال، لماذا بدأ الكون بحالة استثنائية، بل متفردة من الانتظام أصلا؟ ما الذي حدث قبل نشأته ليسمح بحدوث تلك الحالة؟

فيزياء النشأة.. تساؤلات فائضة وإجابات مجحفة

يفترض فريق من العلماء أن الإنتروبيا قبل نشأة الكون كانت كبيرة جدا، بحيث أن الاحتمال الوحيد الممكن كان أن تنخفض الإنتروبيا إلى حد يصنع الانفجار العظيم.

ويفترض فريق آخر أنه في خلفية كوننا هذا يوجد كون آخر يسير الزمن فيه بالعكس بالنسبة لنا، وكذلك الإنتروبيا، وبالنسبة لسكانه فإن كل شيء طبيعي، لكنهم إن رأونا يوما ما فسيظنون أننا نسير في الزمن بالعكس، وكأن كلا منا هو صورة في المرآة للآخر.

منذ لحظة الانفجار العظيم انتظم الكون أكثر فأكثر وتشكلت المجرات والنجوم والكواكب

ولا يمكننا بعدُ أن نعطي تفسيرا لذلك، وحتى العلاقة بين الإنتروبيا وسهم الزمن ما زالت موضع تساؤل، والواقع أن ما أعطتنا إياه الفيزياء من إجابات عن الزمن كانت دائما أقل بكثير جدا من الأسئلة، فنحن لا نعرف كيف نشأ؟ وهل أصلا نشأ مع الانفجار العظيم؟ وهل هو أصلا شيء موضوعي مثل المادة التي نراها حولنا أم أنه مجرد وهم، أو قل طريقة للكون كي يرتب الأحداث؟

أو هو ربما كما قال الفيزيائي الأمريكي “جون أرتشيبالد ويلر” ذات مرة: الزمن هو طريقة الطبيعة لمنع كل أحداث الكون من أن تحدث في نفس اللحظة، والمكان هو طريقتها لمنع كل تلك الأحداث من أن تحدث لي.

 

المصادر

1- طبيعة العالم الفيزيائي – أرثرإدينغتون

2- The Feynman Lectures on Physics- Richard Feynman

https://www.feynmanlectures.caltech.edu/

3- The Arrow of Time

https://calteches.library.caltech.edu/4326/1/Time.pdf

4- Entropy as Time’s Arrow

http://hyperphysics.phy-astr.gsu.edu/hbase/Therm/entrop.html

5- Entropy Definition in Science

https://www.thoughtco.com/definition-of-entropy-604458

6- نسيج الكون – براين جرين