“السقوط”.. أسرار طائرات بوينغ القاتلة التي تسترت عليها

ما زال ركوبُ الطائرات رغم كل ما قطعته تكنولوجيا صناعة الطائرات من تقدم كبير منذ اختراعها تجربةً تثير القلق، بل تفجر الرعب أيضا عند البعض منا، فبينما يمكنك التحكم في سيارتك وهي تسير فوق الأرض، فإنك عندما تركب الطائرة تسلم قيادك لأشخاص لا تعرفهم، يقودون تلك المركبة العملاقة المصنوعة من الصلب في الجو، من دون أن تتبين طريقها أو خط سيرها، أو تتنبأ بما يمكن أن يحدث لها.
ورغم ندرة حوادث سقوط أو تحطم الطائرات، فإنها عندما تقع تكون لها أصداء نفسية كبيرة وعواقب اقتصادية وخيمة. وقد اعتبر عام 2017 عاما تخلص فيه الطيران المدني من الحوادث، على الأقل في الولايات المتحدة، فلم تشهد حادثا واحدا خلال عشر سنوات قبل ذلك، وكان هذا أمرا باعثا على الطمأنينة، وظن كثيرون وقتها أن الطيران أصبح أكثر أمانا مما كان، ولكن في العام التالي 2018 وقع ما لم يكن في الحسبان.
“بوينغ 737 ماكس”.. غموض يلف طائرة تحطمت مرتين
في 29 أكتوبر/ تشرين الأول سقطت طائرة من طراز “بوينغ 737 ماكس” تابعة للخطوط الجوية الأندونيسية (ليون) وتحطمت، وكان على متنها 189 راكبا قُتلوا جميعا، وبعد خمسة أشهر من وقوع هذا الحادث، تحطمت طائرة أخرى من نفس الطراز (بوينغ 737 ماكس) تابعة للخطوط الجوية الأثيوبية في العاشر من مارس/ آذار 2019، ومات كل من كانوا على متنها، وعددهم 157 مسافرا.
أخذت المخرجة الأمريكية “روري كنيدي” على عاتقها البحث في تلك المأساة من جميع جوانبها، كيف تعاملت معها شركة بوينغ، ومنظمة الطيران المدني الأمريكية، وكيف ينظر خبراء الطيران والطيارون ومهندسو صناعة الطائرات الذين قضوا سنوات طويلة في العمل داخل شركة بوينغ العملاقة التي اعتبرت رمزا لتفوق الصناعة الأمريكية إلى هذين الحادثين المروعين، وما أديا إليه، وكيف تعاملت معه الإدارة الأمريكية، وكيف كانت مشاعر أقارب الضحايا، وهل يمكن أن يصبح ما حدث درسا للجميع في المستقبل؟
أخرجت “روري كنيدي” الفيلم الوثائقي الطويل “السقوط.. القضية ضد بوينغ” (Downfall: The Case Against Boeing)، وينتقل بمهارة وثقة كبيرتين بين جميع هذه الجوانب، وخاصة العلاقة بين بوينغ وجمهورها الذي وضع ثقته الكاملة فيها عبر عقود، ثم كيف اهتزت هذه الثقة.
حديث المحققين وأهل الصناعة والمهنة.. فيلم تعليمي استقصائي
ليس هذا الفيلم فيلما من أفلام التقارير التلفزيونية، صحيح أنه ينقل لنا الكثير من الحقائق والمعلومات التقنية بطريقة بسيطة، لكنه لا يكتفي بسرد المعلومات، بل يميل أكثر إلى التحليل واستخلاص النتائج، والوقوف أيضا أمام مستقبل صناعة الطائرات، طارحا أسئلة أخلاقية تتعلق بالضمير والوعي بالقيمة، لا الجري المسعور وراء الربح على حساب كل القيم.
يتحدث في الفيلم كثير من الخبراء والمعنيين من أهل الصناعة والمهنة، وكذلك من الخبراء القانونيين وأهالي الضحايا وكبير محققي لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الكونغرس الأمريكي لبحث أسباب تقاعس شركة بوينغ عن توفير معايير السلامة في هذا النوع من الطائرات.
يعتمد الفيلم في بعض المشاهد التوضيحية على إعادة إنتاج صور عن طريق برامج الحاسوب، تحاكي تماما نوع الطائرتين اللتين سقطتا، والتفاصيل التقنية والفنية في تركيبهما، وكيفية التحكم في حركتهما من داخل قمرة القيادة.
كما يستخدم الخرائط والرسوم والتعليق الصوتي من خارج الصورة في سياق تحليلي جدلي، يطرح التساؤلات ويصل إلى الاستنتاجات من قلب التفاصيل الواقعية، ولذا يمكن اعتباره فيلما تعليميا استقصائيا، كما أنه عمل فني جذاب يعلي دور الفيلم الوثائقي في بحث قضايا الواقع التي تهم الإنسان في كل مكان.
“إن لم تكن بوينغ، فلن أسافر”.. حوادث تهز الثقة
يقول لنا الفيلم إن “بوينغ” سارعت بعد وقوع الحادث الأول ثم الثاني إلى إلقاء اللوم في سقوط الطائرتين على الطيارين، خصوصا أنهما ينتميان لدولتين من دول العالم الثالث، فقد غلبت نظرة الاستعلاء على الاعتراف بالخطأ عند مديري بوينغ، فزعموا أن الطيارين لم يستطيعوا التعامل مع الظروف التي نشأت أثناء الرحلتين، وأنهما أقل كفاءة من الطيارين الأمريكيين، لكن رئيس الاتحاد الأمريكي للطيارين استنكر بشدة فكرة إلقاء اللوم على الطيارين وقتها، وطالب بضرورة التحقيق في مكونات الطائرة من نوع “ماكس”.

لم توقف بوينغ رحلات طائراتها في العالم من نوع “بوينغ 737 ماكس”، لأن هذا كان سيتسبب في خسارة مالية ضخمة للشركة، وحتى بعد سقوط الطائرة الثانية، فقد استمرت الشركة في الزعم أنها ستراجع تقنيات السلامة، لكنها لم توقف استخدام الطائرة التي كانت قد باعت منها الآلاف.
وقد أُرغمت بوينغ على إنزال طائراتها على الأرض، بعد أن أصبح الموضوع مثار قلق لدى ملايين المسافرين الذين كان شعارهم في الماضي “إن لم تكن بوينغ، فلن أسافر”. والآن اهتزت ثقتهم في الشركة وطائراتها، وقد اقتضى الأمر أخيرا صدور قرار من الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” في 2019 بوقف تسيير طائرات “بوينغ 737 ماكس”.
تقنية التحكم.. هلاك خفي يجهله الطيارون وتكتمه الشركة
يكشف الفيلم أن لجنة الكونغرس لم تزل تكافح للحصول على كل وثائق تلك الطائرات من شركة بوينغ نفسها، وقد تباطأت وراوغت طويلا، قبل أن تستسلم وتسلم لجنة التحقيق عشرات الآلاف من الوثائق.
وقد كشفت إحدى تلك الوثائق تقصير الشركة من داخلها، فقد اتضح أنها زودت طائرات “737- ماكس” بتقنية تعرف باسم (MCAS)، وهي عبارة عن نظام للتحكم في مسار الطائرة، وهذه التقنية تستقبل إشارة من جهاز صغير حساس مركب على أحد جانبي الطائرة.
وإذا أصيب هذا الجهاز بأي عطل نتيجة اصطدام أي جسم به (مثل بالون أو طائر أو بفعل الرياح.. إلخ) فإنه يجعل مقدمة الطائرة تهبط باستمرار إلى أسفل، فيحاول الطيار جاهدا رفعها مجددا، لكن تكون أمامه 10 ثوان فقط للتحكم، وإلا اندفعت الطائرة دون أي سيطرة عليها نحو الأسفل، وهذا بالضبط ما حدث في حالة سقوط الطائرتين.
لكن الأمر المأساوي هو أن بوينغ لم تعلن قط عن وجود هذه التقنية في طائرات “ماكس”، وبالتالي ظل الطيارون الذين يقودونها وهم يجهلون تماما وجود هذه التقنية، ناهيك عن عدم حصولهم على أي تدريب على استخدامها.
بل إن الشركة عاقبت بالطرد من العمل، أو النقل إلى أماكن بعيدة، أو أشكال العقاب الأخرى؛ كلَّ من أبدى تشككا من داخل قسم ضمانات الأمان (أي من المهندسين)، في أي أمر يتعلق بنقص عوامل السلامة والأمان، كما رفضت رفضا مطلقا فكرة تدريب الطيارين الذين يعملون لحساب شركات متعددة في العالم على استخدام هذه التقنية، لأن هذا يعني خسائر هائلة.
“الجشع أمر جيد”.. منافسة تفسد تاريخ العصر الذهبي
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يكشف الفيلم أن إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية تجاوزت وتغاضت أولا عن استمرار تشغيل هذه الطائرات بعد وقوع الحادث الأول ثم الثاني، كما قبلت ما زعمته الشركة من أنها ستجد طريقة لمواجهة المشكلة والتغلب عليها (قبل أن يعرف العالم طبيعة المشكلة بالتحديد)، وبالتالي استمر تحليق هذه الطائرات إلى أن أجبرها قرار البيت الأبيض على التوقف.
يعود الفيلم في سياق وثائقي مثير ليستعرض تاريخ الشركة، عبر كثير من الصور واللقطات والوثائق، والاستماع لشهادات كثير من المهندسين والطيارين الذين عملوا لحساب الشركة في عصرها الذهبي، وأنها قامت على اعتبار ثقة العملاء أساس النجاح، وكانت تولي اهتماما كبيرا بضمانات الأمان، واكتسبت بذلك سمعة عالمية، وأصبحت أكبر شركات صناعة الطائرات وأقواها وأكثرها مصداقية في العالم.
وبعد بروز المنافس القوي لبوينغ (شركة أيرباص الأوروبية)، ونجاحها في اقتناص صفقات تجاوزت ما حصلت عليه بوينغ في أوائل الألفية الثالثة، سعت الشركة سعيا محموما لاستعادة مكانتها، من خلال ابتكار أنواع جديدة من الطائرات في وقت سريع، وبالتالي كانت تكاليف إنتاجها أقل، وأغرت عملاءها بمحركات أكثر توفيرا للوقود، وشكلا أصغر للطائرات، وطرحت أسهمها في وول ستريت، وهنا أصبح المعيار الأساسي ومحور اهتمام الشركة هو زيادة الأرباح وإرضاء المساهمين، في وقت ارتفع فيه شعار “الجشع أمر جيد” (Greed is good).
وتستخدم المخرجة في فيلمها أسلوب إعادة تجسيد الحدث أو إعادة التمثيل، خصوصا في المشاهد التي نرى فيها “آندي بازتور” -وهو صحفي بجريدة “وول ستريت” متخصص في الطيران- يتصل بشركة بوينغ أكثر من مرة طالبا بعض الإيضاحات عن الحادثين، إلى أن يخبرنا ذات مرة أنه حصل من مصدر داخل الشركة -لم يشأ أن يكشف عنه- على معلومات دامغة بخصوص التغطية على بعض جوانب الأمان في الطائرات.
كما نرى أيضا كيف تخلصت الشركة من مديرها التنفيذي وكبار مديريها، بعد أن قررت أن ترفع من شأن قيمة أسهمها في وول ستريت فوق معايير الأمان، وقررت الانتقال من مقرها في سياتل إلى شيكاغو، لكي تبتعد عن المهندسين وشريحة العاملين الذي يعرفون الكثير عن دواخل العمل في الشركة، وكانت لهم تحفظات كثيرة على الابتعاد عن ما جرى العرف عليه في بوينغ، أي جعل الثقة والكفاءة قبل الربح.
“سولي”.. استنكار الطيار الذي أنقد 155 راكبا
يتحدث في الفيلم أيضا “بيتر دو فازيو” رئيس لجنة التحقيق التي شكلها الكونغرس، فنراه تارة وهو يرأس اللجنة أثناء استماعها للشهود واستجوابهم من قبل أعضاء اللجنة، وحين تستدعي اللجنة رئيس شركة بوينغ وتخضعه لاستجواب قاس، وتارة أخرى يتحدث لطاقم الفيلم مباشرة، ويشرح كيف استطاعوا إيجاد الأدلة التي تدين الشركة وتضعها في موقف المساءلة الجنائية.
يظهر في الفيلم الطيار الشهير “سولي” أو “سولنبرغر” الذي كان قد أنقذ 155 راكبا في 2009، بعد أن تعطلت محركات طائرته بسبب اختراق الطيور لها، فهبط بالطائرة فوق صفحة مياه نهر هدسون في نيويورك، واعتبر أحد أبطال الطيران، وصنعت عنه هوليود فيلما شهيرا عام 2016، قام ببطولته “توم هانكس” وأخرجه “كلينت إيستوود”.
وهو يستنكر هنا بشدة تقاعس بوينغ عن إبلاغ الطيارين بوجود تقنية “إم سي أيه إس” (MCAS)، ويسخر من فكرة أن أمام الطيار 10 ثوان فقط للتدخل في حالة الخلل، وهو ما يراه أمرا مستحيلا بالنسبة لأي طيار.
أقارب الضحايا.. معركة مُضنية لإرغام الشركة على الاعتراف
من الجوانب المهمة التي يصورها الفيلم أقارب الضحايا، ومنهم أرملة الطيار الهندي الذي كان يقود الطائرة الأندونيسية، وهي تروي بالتفصيل كيف علمت بالحادث وتلقت نبأ مصرع زوجها، ثم حملة التشويه التي سعت إلى تلطيخ سمعته واتهامه بالجهل وعجزه عن قيادة الطائرة، وبالتالي تحميله مسؤولية الحادث، وهي تصف مشاعرها في تلك الأوقات الصعبة، ثم تسرد أن هناك من انبروا في الولايات المتحدة، لكي يشككوا في قيمة ما حصل عليه زوجها من تدريب، طالما أنه في إحدى البلدان المتخلفة، وتكشف لنا أنه كان قد تلقى تدريبه على الطيران في الولايات المتحدة.

ويظهر مرات عدة في الفيلم الأمريكي “مايكل ستومو” الذي كانت ابنته “ساميا” إحدى ضحايا حادث الطائرة الإثيوبية، وهو يخوض معركة مضنية مع مجموعة من أقارب الضحايا من أجل إرغام بوينغ على الاعتراف بالتقصير وفداحة الثمن الذي دفعوه من دماء أحبائهم.
الفيلم بشكل عام مؤثر، بما يكشفه من حقائق مدهشة لم يكن ممكنا أن يتخيلها المرء أو يتخيل إمكانية حدوثها من جانب إحدى أكبر الشركات في الاقتصاد الأمريكي وفي عالم صناعة الطائرات في العالم، وقد اضطرت في نهاية المطاف للاستغناء عن مديرها التنفيذي، لكن بعد أن منحته حزمة من الفوائد المالية بلغت 62 مليون دولار، ثم استسلمت ودفعت مليارا ونصف مليار دولار تعويضات وغرامات، لكي تتفادى المحاكمة الجنائية. لكن هل عادت ثقة المسافرين فيها إلى ما كانت عليه؟
صناع الفيلم يشككون في هذا.