الكون الهولوغرامي.. نظريات تكسر قوانين الفيزياء وتغيّر نظرتنا إلى العالم

في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، كان قد مر عقد كامل تقريبا منذ أن قال الأطباء للفيزيائي البريطاني الشاب “ستيفن هوكينغ” إنه قد يموت خلال عام أو اثنين بسبب إصابته بالتصلب الجانبي الضموري، لكن لم يحدث شيء مما قالوا، وهنا قرر “هوكينغ” أن يتعامل مع كل يوم إضافي في حياته على أنه فرصة يجب استغلالها قدر الإمكان في الاستمتاع بالعمل على مسائل جديدة كليا.

الغريب في الأمر أن ما أنجزه “هوكينغ” خلال تلك الفترة كان السبب فيما سيعرف بعدها بحوالي عقدين من الزمن بـ”المبدأ الهولوغرامي”، ويشير في أحد استنتاجاته إلى أن الكون الذي نعيش فيه ربما يكون مجرد صورة هولوغرامية ثلاثية البعد.

على سبيل المثال، كأن تضع في حاسوبك أسطوانة مدمجة تحتوي على بيانات أحد الأفلام في الحاسوب مشفرة في صورة معلومات، ثم بعد قليل تشاهده على الشاشة! فهل حقا كوننا هو مجرد هولوغرام كبير، ونحن داخله عبارة عن انطباعات على ما يشبه الشاشة؟

“هل تنفجر الثقوب السوداء؟”.. نظرية الفناء تصدم المجتمع العلمي

لفهم مدى عمق المبدأ التي تحدث عنه “هوكينغ” وسبب اقتناع عدد كبير من الفيزيائيين بصلاحيته، دعنا نبدأ من الثقوب السوداء، وتعرّف بأنها أجرام كونية لا يمكن لها أن تشع أي شيء على الإطلاق، لأنها ببساطة ذات قوة جذب قوية بما يكفي لسحب أي شيء قرر أن يعبر الحدود الخارجية لها (أفق الحدث)، حتى لو كان هذا الشيء هو أسرع ما في الكون، وهو الضوء.

نظرية إشعاع هوكينغ تفترض أن الثقوب السوداء تفنى بسبب فقدانها لكتلتها

ولذلك فإن دخولك إلى الثقب الأسود يعني أنك انقطعت عن هذا الكون، وأي إشارة راديوية أو أي محاولة للتلويح بمصباح هاتفك الذكي أو أي صوت تطلقه بأعلى ما يمكن، لن يخرج من الثقب الأسود أبدا، بل سيتحول إلى داخله فقط. لهذا السبب يظهر الثقب الأسود بالنسبة لنا مثل كرة سوداء تماما، محاطة بحلقات من المادة المضيئة تقع خارج حدود الثقب الأسود، وتدور حوله.

لكن في عام 1974، بينما كان “هوكينغ” يعمل على محاولة لدمج معادلات النظريتين الأساسيتين اللتين تشرحان طبيعة هذا الكون (نظرية النسبية ونظرية الكم)، واجه معضلة مرعبة ظن في البداية أنها خطأ في المعادلات التي بناها.

وحين أعاد النظر في معادلاته مرات عدة وجد النتيجة نفسها؛ أن الثقوب السوداء يمكن بالفعل أن تُطلق إشعاعا إلى هذا الكون. وهنا لم يكن لدى الرجل إلا أن يقوم بنشر تلك النتائج التي توصل إليها، لتصبح فيما بعد أشهر ورقاته البحثية، وقد صدرت في دورية “نيتشر” المرموقة، وعنوانها: “هل تنفجر الثقوب السوداء؟” (Black Hole Explosions?).

بسبب تخلق الجسميات ومضاداتها عند حافة الثقب الأسود، تدخل الأجسام المضادة فيه وتعمل على تبخير مادتهكان ذلك صادما للمجتمع العلمي، فطالما اقتنع العلماء أن هذه الثقوب السوداء أبدية، فهي لا يمكن أن تشع أي شيء للخارج، وبالتبعية فمصيرها الحتمي هو أن تزداد في الكتلة كلما ابتلعت أي شيء يقترب منها اقترابا حرجا، سواء كان نجما عابرا أو كوكبا شاردا أو ربما رائد فضاء تعس الحظ. لكن نتائج “هوكينغ” لا تقول فقط إن الثقوب السوداء يمكن أن تطلق إشعاعا، بل يضيف أنها مع الزمن ستتبخر حتى تفنى تماما.

إشعاع “هوكينغ”.. سلسلة أبدية من التولد والفناء

لفهم فكرة “هوكينغ”، يجب أن نتعلم القليل من الفيزياء الكمّية، وهي تشير إلى أنه لا يوجد في هذا الكون ما يمكن أن نسميه فراغا، فهناك دائما شيء ما. ولو امتلكت ممحاة لديها القدرة على مسح كل شيء من هذا الكون؛ كل الناس وأشيائهم وكل الكواكب والنجوم والمجرات، سيظل هناك شيء ما، يتمثل في ظاهرة “التموج الكمّي” (Quantum Fluctuation)، وتفترض النظرية أن ثمة جسيمات تولد افتراضيا، كأزواج من المادة والمادة المضادة في الفراغ بشكل لحظي، ثم تبقى لفترة قصيرة جدا من الزمن، ثم تلتقي ببعضها وتفنى، وهكذا يستمر التولّد والفناء بلا توقف.

 

ويشبه الأمر -لغرض التقريب فقط- أن نقول إن حاصل جمع قيمتي واحد (1) وسالب واحد (1-) يساوي صفرا. تنشأ تلك الجسيمات الافتراضية التي تتشابه في كل شيء، لكنها تمتلك شحنات مختلفة (موجبة وسالبة)، ومثل لقاء الواحد والواحد السالب، فإن كل منها يفني الآخر حين تلتقي معا.

تولّد أزواج من المادة حول الثقب الأسود يمكن أن يتسبب بتبخره بما يعرف بإشعاع هوكينغ

يحدث هذا في كل مكان بالكون، لكن على حافة الثقوب السوداء الأمر مختلف، لأننا نعرف أن حدود الثقب الأسود الخارجية التي تسمى بـ”أفق الحدث” لها خصوصية تتعلق بأن ما يعبرها لا بد أن يسقط إلى داخل الثقب الأسود. والآن لنفترض أن زوجا من الجسيمات الافتراضية قد نشأ على حافة الثقب الأسود بالضبط، في هذه الحالة قد يسقط الجسيمان الافتراضيان في الثقب الأسود إذا عبرا أفق الحدث، أو قد يهربان من الثقب الأسود إذا لم يعبرا من أفق الحدث، وهناك احتمال ثالث، وهو أن يعبر أحدهما أفق الحدث ولا يعبر الآخر.

تشير ورقة “هوكينغ” البحثية إلى أن تلك الحالة الأخيرة ستتسبب في أن ينطلق الجسيم الذي بقي خارج الثقب الأسود كإشعاع له طاقة حرارية موجبة (ككل صور الطاقة التي نعرفها مثل الضوء)، لكن الذي سقط في الثقب الأسود سيعادل ما حصل للتو بأن يمتلك طاقة سالبة ستتسبب في الانتقاص من كتلة الثقب الأسود، ويتبخر تدريجيا مع الزمن. هذا الإشعاع المنطلق من الثقب الأسود هو ما نعرفه الآن باسم “إشعاع هوكينغ”.

هل تختفي البيانات والمعلومات بمجرد رمي أوراقها أو حرقها أو حتى إفنائها؟

بحسب نظرية “هوكينغ”، ففي حالة الثقوب السوداء العملاقة، فإن الأمر قد يتطلب عمرا طويلا جدا، بل ربما أطول من عمر الكون كله حتى يتبخر الثقب الأسود، لكن في حالة الثقوب السوداء الصغيرة لا يتطلب الأمر سوى سنوات أو أيام أو حتى ثوان، إن كان الثقب الأسود صغيرا جدا.

مفارقة المعلومات.. تبخر إلى الأبد في قلب الثقب الأسود

كان ما ذهب إليه “هوكينغ” غريبا، وتسبب في بلبلة كبيرة بالوسط العلمي، لكن ما تلاه من استنتاجات بنيت على تلك النظرية كان صادما حقا، ولفهم الأمر دعنا نحرق شيئا ما، لتكن كرّاسة قديمة سجّلت فيها دروسك أثناء المرحلة الإعدادية، ففي هذه الحالة يمكن أن نسأل: أين ذهبت المعلومات المدونة في تلك الكرّاسة؟

إجابة الديناميكا الحرارية ستكون أن هذه المعلومات لم تذهب إلى أي مكان. نعم، لقد احترقت الكراسة وما فيها من الحبر الأزرق وتحولت لرماد أسود، لكنها ما زالت موجودة داخل هذا الكون، ويمكن نظريا أن نعيد بنائها مرة أخرى.

وبالتبعية، فالكراسة تتبع قانون بقاء المعلومات، ويشبه في محدداته قانون بقاء الطاقة، حيث ينص على أن المعلومات لا تفنى ولا تستحدث من عدم، ولكن يمكن أن تتحول من صورة لأخرى. فحينما تقوم بحذف ملف نصّي ما من على حاسوبك المحمول، فإنه لا يحذف من هذا الكون، بل يتحول لصور أخرى منها الحرارة، وهي جزء طفيف من سخونة الحاسوب التي تستشعرها إذا وضعت يديك عليه.

هل يمكن استرداد البيانات بالقرب من حافة الثقب الأسود؟

والآن دعنا نمسك بنفس الكراسة ونلقي بها في ثقب أسود. قد يبدو لك أن شيئا لم يتغير، لكن “هوكينغ” لا شك سيختلف معك قائلا: “بل تغير كل شيء”، لأنه بحسب نظريته فإن الأمر يشبه أن نحذفها تماما من هذا الكون، ذلك لأنه حينما نحرق الكراسة في عالمنا العادي فإنها تتحول إلى إشعاع حراري، لكن في حالة احتراق (تبخر) الثقوب السوداء فإن الأمر مختلف، لأن ما تشعه من حرارة لا يتعلق بما سقط داخلها من كراسات أو حواسيب أو نجوم، بل بجسيمات افتراضية، مما يعني أنه في حالة تبخر الثقوب ستضيع تلك المعلومات التي كانت داخلها للأبد، وهنا ينكسر قانون بقاء المعلومات، سميت تلك المشكلة بـ”مفارقة المعلومات”.

وعند تلك النقطة دعنا نفهم ما تعنيه المعلومات، فحينما نقول المعلومة التالية: “كراسة إبراهيم في مكتبة منزلية بإحدى قرى مركز شربين بمحافظة الدقهلية المصرية”، فإن المعلومة لا توجد في هذه المادة التي تقرأها، ولا في دماغنا حينما نتذكرها، ولا في كلامنا نتبادلها معا، ولا في اللغة التي كتبناها بها، فقد نكون كتبناها بالعربية أو اللاتينية أو بلغة الكمبيوتر، كل هذا لا يهم، بل المعلومة موجودة في مكتبة منزلية بإحدى قرى مركز شربين بمحافظة الدقهلية المصرية.

فالمعلومة من تلك الوجهة ليست مادة وليست طاقة، وليست شيئا نختبره بجهاز ما أو يمكن لمسه، بل هي بيان يعبر عن حالة كل جسيم في الكون؛ كتلته وموضعه وسرعته ودرجة حرارته وخصائص أخرى مثل اللف والشحنة، إلخ. فهناك إذن قدر من المعلومات يعبر عن حالة جسمك الآن مثلا، عبر حصر خصائص كل جسيم فيه.

المعلومات المخفية.. نقطة حبر في الماء تجسد إنتروبيا الكون

في تلك الأثناء، وقبل توصل ستيفن “هوكينغ” لمفارقة المعلومات، كان “يعقوب ديفيد بيكينشتاين”، وهو فيزيائي نظري من أصل مكسيكي مولود في الولايات المتحدة، قد عكف على حل مشكلة أخرى شبيهة، فقد تساءل عن ما يمكن أن يحدث حينما نلقي -على سبيل المثال- بفنجان ساخن من القهوة إلى الثقب الأسود.

ومثلما حدث مع “هوكينغ”، فإن إلقاء القهوة في الثقب الأسود لا يشبه إلقائها في أي مكان آخر بالكون، لأن الأمر في حالة الثقب الأسود يكسر قانونا آخر يسمى “القانون الثاني للديناميكا الحرارية”، وهو ينص على أن الإنتروبيا دائما في ازدياد. وتشتهر الإنتروبيا على أنها تعريف للفوضى. ويشبه الأمر -فقط لغرض التقريب- أن تنظم غرفة المكتب الخاصة بك الآن، ثم تتركها بلا تنظيم لمدة عدة أشهر، فبالتأكيد ستصبح في حالة فوضى كبيرة، وهنا نقول إن الإنتروبيا قد ارتفعت مع الزمن.

لفهم الأمر بشكل أعمق، دعنا نلقي بنقطة من حبر أزرق كثيف في حوض ماء زجاجي، ولنفترض أننا نريد حساب عدد الاحتمالات الممكنة لموضع جزيء ما من الحبر اسمه “س”؛ متى ستكون احتمالات أن نجد هذا الجزيء أكبر ومتى تكون أقل، في لحظة وصول نقطة الحبر للماء في الحوض، أم بعد عشر دقائق مثلا حينما ينتشر الحبر في كل الحوض فيصبح لون الماء أزرق؟

الإجابة أنه في الحالة الأولى بالطبع تكون احتمالات أن نحدد مكان الجزيء أكبر، لأن الجزيء ما زال ضمن نقطة الحبر وقُطرها أقل من نصف سنتيمتر مثلا، حينما يملأ الحبر الحوض فإن “س” يمكن أن يكون في أي مكان بالحوض.

وفي الحالة الأخيرة، فإن هناك ما يسمى “معلومة مخفية” في الحوض؛ أي معلومة لا نستطيع الحصول عليها بدقة، وهي مكان الجزيء “س”، هنا تعرف الإنتروبيا على أنها قدر المعلومات المخفية.

ولفهم الفكرة يمكن أن نرجع لمثال حجرة المكتب، فمع معرفة أن القلم في مكانه على المكتب، وكتب التاريخ في هذا القسم، بينما كتب العلوم في القسم الآخر بجوار النافذة؛ تقل نسبة المعلومات المخفية، وبالتبعية نقول إن الإنتروبيا أقل، لكن مع الزمن قد تنسى أو تكون متعجلا، فتضع القلم بجانب أحد الكتب على الرف، أو تضع كتابا للتاريخ في قسم العلوم، ويمر شهر وقد نسيت ما حصل ولا تنظم غرفة المكتبة، هنا يصعب تحديد موضع الكتاب أو القلم مقارنة بما سبق، مما يعني زيادة في المعلومات المخفية، أي زيادة في الإنتروبيا.

قهوة الثقب الأسود.. انخفاض يكسر قانون الديناميكا الحرارية

في حالة قهوة الفيزيائي “يعقوب بيكنشتاين” فإن الأمر ذاته يحدث، فـفي فنجان القهوة الساخن تهتز جزيئات القهوة بعنف في مساحة أكبر من محيطها، مما يعني أننا لا نستطيع بسهولة تحديد مكان كل منها، مقارنة بفنجان قهوة بارد جزيئاته مستقرة في مكانها، إذ يساعد انخفاض درجة الحرارة على تقليل حركة الجزيئات إلى حد أدنى، مما يعني أن الفنجان الساخن في حالة أعلى من الإنتروبيا، لكن ماذا لو ألقيناه في الثقب الأسود؟

يعني ذلك أن إنتروبيا الكون انخفضت، وهذا بالتبعية يكسر القانون الثاني للديناميكا الحرارية. إنها مفارقة تشبه ما حصل مع “هوكينغ”. ففي الواقع كان بيكنشتاين قد نشر ورقته البحثية التي تتساءل عن الأمر قبل “هوكينغ” في عام 1973 تحت عنوان “إنتروبيا الثقوب السوداء”، وفيها يواجه مشكلة في غاية الغرابة، فحساباته تؤكد أن ما يسقط في الثقب الأسود من معلومات مخفية (إنتروبيا) لا يتناسب مع حجم أو كتلة الثقب الأسود، بل مع مساحة سطحه فقط.

وكانت تلك النتائج في غاية الغرابة، فإذا ألقيت بنقطة ماء على سبيل المثال في حوض به ماء ستتوقع أن يزيد حجم وكتلة الماء في الحوض، لكن ماذا لو اكتشفت أن ما يزيد هو سطح جدار الحوض نفسه؟ الأغرب أن تلك الزيادة في مساحة سطح الثقب الأسود، لم تكن رقما اعتباطيا، بل كانت رقما يعرفه “بيكنشتاين” جيدا، وهو “طول بلانك”، إنها مساحة في غاية الصغر، بحيث نحتاج لأكثر من مائة مليار ترليون ترليون “طول بلانك” لقياس طول شخص متوسط.

في هذا السياق، يتوصل “بيكنشتاين” إلى أسس ما سنعرفه بعد ذلك بالمبدأ الهولوغرامي، فقد استنتج عبر معادلاته أن أي معلومة يُلقى بها في الثقب الأسود ستتحول إلى بلانك مربع واحد، فإذا ألقيت مثلا بـذرة أو أيا من جسيماتها مثل الإلكترون أو البروتون، أو إذا ألقيت بسيارتك أو منزلك أو كوكبك كله إلى الثقب الأسود، فإن هذه الأشياء كلها ستترك بصمة على سطح الثقب الأسود الخارجي تعبر عن المعلومات الخاصة بها.

لوحة “ليلة النجوم” التي رسمها الفنان الانطباعي الهولندي “فينسنت جوخ” من نافذة غرفته في المصحة العقلية عام 1889

ولغرض التقريب فقط، تخيل أن تلصق قطعا ورقية مسطحة صغيرة جدا على سطح كرة قدم، لكن الفارق أن مساحة سطح الكرة لا تزيد، أما مساحة سطح الثقب الأسود تزيد مع كل شيء إضافي يُلقى به.

في تلك النقطة، يطل المبدأ الهولوغرامي برأسه، وينص على أنه من الممكن لنا تمثيل فيزياء ثلاثية الأبعاد في شكل أسطح ثنائية الأبعاد. بمعنى أوضح، فإنه يمكن تمثيل أي منطقة من الفضاء في صورة معلومات ثنائية البعد على حافة أو حدود تلك المنطقة.

“صورة للواقع مشفرة على سطح بعيد ثنائي الأبعاد”

كان أول من اقترح المبدأ الهولوغرامي هو الفيزيائي الهولندي “جيرارت هوفت” في تسعينيات القرن الفائت، لأنها ببساطة حل ممتاز لمفارقة المعلومات الخاصة عند “هوكينغ”، فالمعلومات عن الأشياء الساقطة في الثقب الأسود لا تضيع، بل تظل ملتصقة كبصمة على سطحه الكروي الخارجي، ومع تبخره فإن هذه المعلومات ترجع مرة أخرى إلى الكون، وبالتبعية لا ينكسر قانون بقاء المعلومات.

بعد ذلك طور الفيزيائي البريطاني “ليونارد ساسكيند” هذا المبدأ عبر إدخاله في نظرية الأوتار، في كتابه “حرب الثقوب السوداء”. يقول ساسكيند: العالم ثلاثي الأبعاد -بالتجربة اليومية العادية- بما يحتوي من المجرات والنجوم والكواكب والمنازل والصخور والأشخاص، هو صورة ثلاثية الأبعاد، وهي صورة للواقع مشفرة على سطح بعيد ثنائي الأبعاد.

المبدأ الهولوغرامي يفترض أن الكون ثلاثي الأبعاد يمكن قراءته في بعدين فقط

يضرب “ساسكيند” في كتابه مثالا مبسطا؛ لنتأمل مثلا إحدى اللوحات الفنية، ولتكن لوحة “ليلة النجوم” التي رسمها الفنان الانطباعي الهولندي “فينسنت فان جوخ” من خارج نافذة غرفته في المصحة العقلية عام 1889، وكانت عن ليل مدينة سان ريمي دي بروفنس.

إنها لوحة ثنائية البعد توضح مكانا ثلاثيَّ البعد، وبها كم ضخم من المعلومات التي يمكن أن نستخدمها لفهم ما يحدث أمامنا، فعلى سبيل المثال في أوائل شهر يونيو/ حزيران من هذا العام كان “فينسنت” قد كتب إلى أخيه “ثيو” قائلا: هذا الصباح رأيت الريف من نافذتي قبل شروق الشمس بوقت طويل، ولم يكن هناك شيء سوى نجمة الصباح، التي بدت كبيرة جدا.

وبعد بحث، توصل فلكيون إلى أن كوكب الزهرة (ويسمى أحيانا “نجمة الصباح”) كان مرئيا بالفعل عند الفجر في سماء هذه المنطقة خلال شهر يونيو/ حزيران عام 1889، وكان في ذلك الوقت تقريبا يلمع بأكبر قدر من السطوع. لذا فإن ألمع “نجم” في اللوحة على يمين نبات السرو في اللوحة، هو في الواقع كوكب الزهرة.

لكن، هل يمكن للوحة أن تطلعنا على ما يقع خلف تلك المنازل البعيدة على اليمين؟ لا، لأن اللوحة لا تمتلك القدر الكافي من المعلومات لإعطاء تلك المعلومات لنا، لكن هذا ممكن في حالة الهولوغرام فقط، وهو كيان ثلاثي البعد تمثله وحدات تسمى “الفوكسلات”، ومعلوماته مكتوبة على سطح ثنائي البعد تمثله وحدات تسمى البيكسلات. والأمر يشبه أن تحمِّل فيلما ما على أسطوانة مدمجة، ثم تعرضه فيما بعد على شاشتك الكبيرة بشكل ثلاثي البعد.

فرضية الكون الهولوغرامي.. أبعاد ثلاثية من أسطوانة بأطراف الكون

في حالة المبدأ الهولوغرامي، فإن هذا الكون هو عرض ثلاثي البعد، لكن معلوماته مكتوبة على سطح ثنائي البعد، ليس في صورة بيكسلات أو بتّات (وحدة المعلومات في الكومبيوتر)، بل في قطع صغيرة للغاية من “طول بلانك”.

وبصورة أكثر تجريدا، يشبه الأمر أن نقرأ هذا الكون بلغة مختلفة، فإذا كانت اللغة التي تقرأ هذا الكون ثلاثية الأبعاد، فمن الممكن ترجمتها إلى لغة ذات بعدين فقط. وقد يبدو الأمر سخيفا للوهلة الأولى، ولكن عندما يفترض الفيزيائيون أن هذا المبدأ صحيح في حساباتهم، فإن جميع أنواع المشاكل الفيزيائية الكبيرة المتعلقة بطبيعة الثقوب السوداء والتوفيق بين نظريتي الجاذبية وميكانيكا الكم تصبح أسهل بكثير في الحل، بحيث يبدو أن قوانين الفيزياء أصلا تكون أكثر منطقية عندما تكتب في بعدين فقط بدلا من ثلاثة.

 الأرجنتيني “خوان مالداسينا” يثبت الكون يمكن أن يكون صورة هولوغرامية ثلاثية الأبعاد لمعلومات على سطح ببعدين

وفي عام 1998، أثبت “خوان مالداسينا”، الفيزيائي الأرجنتيني الذي يعمل في معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون الأمريكية؛ أن كونا افتراضيا يمكن بشكل حسابي أن يكون صورة هولوغرامية ثلاثية الأبعاد لمعلومات مكتوبة على سطح ثنائي الأبعاد. والكون الافتراضي الخاص بـ”مالداسينا” يحتوي على ما يسمى بفضاء “دي سيتر” المضاد، وهو فضاء له شكل مُنحَنٍ على مسافات شاسعة، على عكس كوننا الذي يُعتقد أنه مسطح.

وحتى اليوم، لم يتوقف النقاش حول فرضية الكون الهولوغرامي، إذ يرى فريق كبير من الباحثين أننا بالفعل نعيش داخل هولوغرام، وليس كوننا بما يحويه من نجوم وكواكب ومجرات وبشر إلا إسقاطات ثلاثية البعد ناتجة من أسطوانة مدمجة مشغلة في أطراف الكون.

في هذا السياق قد تقول إن كون المبدأ الهولوغرامي حل لمفارقة المعلومات لا يعني بالتبعية أنه حقيقي، وأنت على حق لكن الأمر ليس بتلك البساطة، فهو يتعلق بطبيعة الفيزياء كعلم، ولفهم الفكرة سنقوم فقط بضرب مثالين من ضمن آلاف النماذج.

“بوزون هيغز”.. نظرية تحصد جائزة نوبل بعد 50 عاما

في عام 1928، وبينما كان الفيزيائي البريطاني “بول ديراك” يعمل على معادلاته المتعلقة بفيزياء الجسيمات، جاءت نتائجه الحسابية لتقول بوجود نوع غريب جدا من الجسيمات لم نحسب أبدا أنه يمكن أن يوجد أصلا، إنها جسيمات المادة المضادة، وتشبه المادة العادية في كل شيء لكن لها شحنة معكوسة، وقد ظهرت هذه الجسيمات كحلول لمشكلات واجهت “ديراك” في حساباته، ثم لم تمر أربعة أعوام حتى استطاع “كارل أندرسون” -وكان أستاذا شابا من جامعة كالتيك وقتها- اكتشاف أول إلكترون مضاد (سمي البوزيترون)، والتأكد من وجود تلك المادة الغريبة التي توقع “ديراك” وجودها.

جسميات هيغز المسؤولة عن كتلة المادة حصل صاحبها على جائزة نوبل في الفيزياء بعد 50 عاما من التنبؤ بها

أما “بيتر هيغز”، أستاذ الفيزياء البريطاني، فقد واجه في ستينيات القرن الفائت مشكلات شبيهة، أخذ يحلها فأعطته النتائج جسيما جديدا تماما هو ما يعطي الجسيمات دون الذرية في كل هذا الكون كتلتها، ولم يجد “هيغز” بُدا من نشر تلك النتائج سنة 1964، وأُهمِل هذا العمل البحثي لسنوات، ثم بعد حوالي 50 سنة كاملة حصل “هيغز” على جائزة نوبل في الفيزياء بعد تأكيد وجود هذا الجسيم بالفعل، وسُمي “بوزون هيغز”.

ولو تعرفت قليلا إلى فيزياء “بوزون هيغز” المعقدة، أو أيٍّ من الجسيمات دون الذرية الأخرى، فسوف تُدهش بلا شك للكيفية التي يستخدمها الفيزيائيون النظريون للتنبؤ بأشياء لا يصدقها عقل! لكن نتائج المعادلات كانت دائما خير عون للفيزيائيين.

وفي هذا السياق يقول الفيزيائي الأمريكي الحاصل على نوبل “ريتشارد فاينمان”: الطبيعة غريبة بقدر استطاعتها أن تكون كذلك، وهي غريبة بشكل يجعل القوانين التي تفسرها تبدو مجنونة لدرجة لا يمكن تصديقها، ومع ذلك فحينما نتتبع نتائج تلك القوانين، نجد أنه من الممكن فهم كل الظواهر العادية.

 

المصادر

1- Black hole explosions?

https://www.nature.com/articles/248030a0

2- Quantum Fluctuation

https://universe-review.ca/R03-01-quantumflu.htm

3- Hawking Radiation

https://math.ucr.edu/home/baez/physics/Relativity/BlackHoles/hawking.html

4- Information paradox simplified

https://physicsworld.com/a/information-paradox-simplified/

5- Is Our Universe a Hologram? Physicists Debate Famous Idea on Its 25th Anniversary

https://www.scientificamerican.com/article/is-our-universe-a-hologram-physicists-debate-famous-idea-on-its-25th-anniversary1/

6- Black Hole War: My Battle with Stephen Hawking to Make the World Safe for Quantum Mechanics- Leonard Susskind

7- What is Entropy?

https://chemistrytalk.org/what-is-entropy/

8- The Holographic Principle

https://arxiv.org/abs/hep-th/0003004

9- Simplified Guide to de Sitter and Anti-de Sitter Spaces (Minor Revision)

http://www.quantumfieldtheory.info/dS_and_AdS_spaces.pdf

 

 


إعلان