الأنفاق الدودية.. عقبات علمية في سبل العبور إلى الأكوان الأخرى

في أحد أعظم الأعمال الفنية في تاريخ السينما العالمية، فيلم الخيال العلمي “بين النجوم” (Interstellar)، يتعرض كوكب الأرض لآفة شديدة في المحاصيل الزراعية تهدد الحياة عليه بنقصان الأوكسجين، بما في ذلك الجنس البشري الذي كان يشهد آخر أجياله وفق تقدير اللجنة العلمية، وبعد هذا الاختناق البطيء سيتجه الإنسان نحو الانقراض الوشيك لا محالة.
يروي الفيلم بطولة ملحمية لمجموعة تسعى يائسة إلى إنقاذ البشرية من عنق الزجاجة في ظروف قاهرة ووسط آمال متلاشية، في عملٍ فنّي قائم على المحتوى العلمي الثقيل، أعدّ حبكته وأحسن سرده المخرج القدير “كريستوفر نولان”، وأشرف عليه علميا عالم الفيزياء النظرية “كيب ثورن”، ولم يتوان هو الآخر عن نشر كتابه الذي يتناول النظريات العلمية المرفقة في الفيلم بعنوان “العلوم وراء إنترستلر”.
تتمحور قصة الفيلم حول مشروع سرّي لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” للبحث عن كواكب صالحة للحياة في مجرات أخرى بعيدا عن مجرة درب التبانة. وعلى نحوٍ غامض وجد العلماء بأنّ ثمة نفقا سحريا يطوي المكان والزمان، ويقبع مدخله بالقرب من كوكب زحل، وأما نهاية النفق فإنها تقع في مجرة أخرى تبعد عن الأرض مسافات شاسعة، وتوجد فيها عدة كواكب قد تكون صالحة للحياة وفقا لبيانات الفريق العلمي.
يحلّق بطل الفيلم “جوزيف كوبر” بمركبته الفضائية رفقة طاقمه باتجاه النفق الكوني، أو ما يُعرف باسم “الثقب الدودي”، وعند وصولهم إلى كوكب زحل، يظهر تشوهٌ مكاني للضوء على هيئة كرة ضخمة، وحينها يدرك روّاد الفضاء أنهم قد وصلوا إلى البوابة التي ستوصلهم إلى مجرّة وعالم آخر. وما أن يقتربوا إلى الثقب الدودي حتى تتكفّل قوة الجاذبية بابتلاعهم إلى جوف النفق المتعرّج، وسط تشوهٍ شديد للضوء والمكان أحاطهم طيلة رحلتهم السريعة.
ثمّ ما لبثوا حتى وجدوا أنفسهم قد قُذِفوا إلى الطرف الآخر من الكون، وسط لحظات ذهول ورهبة خيمت على الطاقم، وهناك بدأت رحلتهم في البحث عن الكواكب الثلاثة التي خُطِط لأجلها، ليحلّ أحدها بديلا محتملا للأرض.
النسبية العامة.. نظرية تقلب مسلّمات الفيزياء التقليدية
مع نشر نظريته “النسبية العامة” عام 1915، استطاع عالم الفيزياء النظرية الألماني “ألبرت أينشتاين” أن يأسر جمهور الفيزيائيين حول العالم، بسبب مخرجات النظرية الحديثة التي تبني تصورا وفهما جديدا لطبيعة الكون بأنّ الزمان والمكان يأخذان صفة ديناميكية ومتغيّرة، وهو على خلاف ما كان شائعا في الفيزياء الكلاسيكية بأنّ الكون جامد وأنّ الوقت مُطلق.

وفي جوهرها فإنّ النسبية العامة تصف طبيعة انحناء الزمكان الناتج عن وجود الكتلة والطاقة، ويمكن التعبير عن النظرية بمجموعة معادلات تُسمى “معادلات حقل أينشتاين”. وقد تستوعب هذه المعادلات عددا من الحلول، وفقا للمعطيات الفيزيائية التي تصف سلوك الجاذبية في كلّ حالة.
ويُعد حلّ “شفارتشيلد” الذي طرحه الفيزيائي الألماني “كارل شفارتشيلد”، أبهر الحلول وأبسطها كذلك، لأنه يصف مجال الجاذبية حول كتلةٍ ما ذات كثافة عالية لا تدور حول نفسها، ويشير الحل إلى أنّه إذا كانت كثافة الكتلة عالية بما يكفي، فإنّ من الوارد حدوث ظاهرة فلكية فريدة تُعرف بالثقب الأسود، ويتسبب هو الآخر في انحناء شديد للزمكان حوله، إذ يمتلك قوة جاذبية قوية للغاية تمنع كل شيء حتى الضوء من الهروب منه.
“جسر أينشتاين-روزن”.. نفق زمكاني يربط ثقوب النسيج الكوني
من خلال حل “شفارتشيلد” استطاع عالمٌ آخر غريب الأطوار يُدعى “لودويغ فلام” وضع استنتاج آخر لمعادلات “أينشتاين”، إذ خمّن وجود ما يُعرف بالثقب الأبيض، ويعمل عكس عمل الثقب الأسود تماما، وبجمع الحلّين رياضيا وجد أنّ هذين الثقبين يمثلان مدخلا ومخرجا في النسيج الكوني، وبناء عليه فإنّ نفقا زمكانيا يربط بينهما. ولا يمكن معرفة ما إذا كان هذا النفق السحري يقودُ إلى نقطة داخل كوننا نفسه أو إلى أكوان أخرى.

وفي عام 1935 استطاع “أينشتاين” رفقة زميله الفيزيائي “ناثان روزن” إعادة كتابة الحل الرياضي الذي سبقهما به “فلام” دون إدراكهما لعمله مسبقا، وبسبب شهرة “أينشتاين” الكبيرة، أطلق العلماء على النفق الكوني اسم “جسر أينشتاين-روزن”. ثم تغيرت التسمية لاحقا عام 1955 على يد الفيزيائي “جون ويلر” الذي اقترح تسميتها أخيرا بالثقوب الدودية، معتقدا بأن ثمة تشابها بين الثقوب التي تصنعها الدودة في التفاحة وهذه الأنفاق.1

ووجه الشبه هنا هو أن سطح التفاحة يمثل الكون بأبعاده المكانية الثلاثة التي نعيش ضمنها، وأمّا الثقب داخل التفاحة فإنّه يمثل أبعادا أعلى من أبعاد كوننا، وإذا نظرنا إلى نملة تسير على سطح التفاحة، فإنّ لها خيارين للعبور من جهة إلى أخرى؛ إمّا المضي على سطح التفاحة أو العبور داخلها وهو ما سيختصر الوقت عليها بكل تأكيد.
“نقطة التفرد”.. جاذبية لا نهائية تتسبب بانحناء الزمكان
على مدار نصف قرن منذ ظهور نظرية الثقوب الدودية في الأوساط العلمية، ظنّ العلماء بأنّ هذه الأنفاق الزمكانية في حالة ثابتة ومستقرّة في الكون، لكن ذلك كان خلافا لما اتضح لاحقا على يدي “ويلر” وتلميذه “روبرت فولر” بعد دراسة مكثفة للنماذج الرياضية المرفقة. فقد توصلا إلى أنّ هذه الثقوب تمرّ بعدة مراحل، ابتداء بنشأتها ثم توسعها ثم تقلصها ثم اضمحلالها.

ويمكن إسقاط هذه المراحل على ثقبين أسودين قابعين في مكانين مختلفين من الفضاء الشاسع، فبداية عند تشكّل الثقب الأسود يظهر في مركزه ما يُسمى “نقطة التفرّد” (Singularity)، وهي نقطة ذات كثافة وجاذبية لا نهائية تتسبب بانحناء الزمكان بشدّة. ومع مضي الوقت يتوسّع الثقب، وتتمدد نقطة التفرّد إلى أن تلتقي بنقطة تفرّد أخرى لثقب أسود في جهة أخرى من الكون.
وعند التقاء النقطتين يندمجان سويّة ويشكلان ممرا زمكانيا، فيتسع قطر هذا الممر إلى أقصى مراحله قبل أن يتوقف، ثم يبدأ بعملية عكسية بالانكماش. ويتقلّص النفق إلى أن ينفصل تماما تاركا وراءه نقطتي تفرّد. هذا التوسع ثم الانكماش للثقب الدودي لا يدع أيّ فرصة للمرور عبره، وإلا سيتدمّر نهائيا.
تبطين الثقب بالطاقة السالبة العاكسة.. خطة منع الانكماش
ظن العلماء بأنّ الثقوب الدودية لا يمكن السفر عبرها بسبب انكماشها السريع، وبإجراء تجربة نظرية بالنظر إلى طبيعة عمل المواد والأجسام حولنا في الكون، نجد أن الجسم الطبيعي كالنجوم والثقوب السوداء تعمل على جذب الأجسام حولها، بسبب الانحناء الذي تتسبب به في الزمكان.

ولو أردنا منع حدوث الانكماش في الثقب الدودي، فينبغي إيجاد مواد ذات طاقة سالبة تعمل عكس عمل الأجسام الطبيعية، بمعنى آخر أن تمتلك خاصية طرد الأجسام بدلا من جذبها، وتأخذ هذه المواد اسما علميا متعارفا عليه، وهو “المادة الغريبة” (Exotic Matter) أو المادة المضادة.2
وبواسطة تبطين الثقب الدودي بهذه المواد فإنّ فرص بقائه تكون كبيرة، ومن المثير أنّ العلماء استطاعوا الحصول على عينات ضئيلة جدا من المادة الغريبة في مختبراتهم، بفضل براعة قوانين فيزياء الكم. ولكن السؤال الأهم هنا هو: ما هي الكميّة الكافية التي يحتاجها ثقب دودي لمنعه من الانهيار؟ وهل يمكن لها أن تتشكل على نحو طبيعي؟
تشكل الثقب الدودي.. رغوة كمومية على نطاق المقاييس المجهرية
تتميّز الثقوب السوداء عن الثقوب الدودية بقابلية التنبؤ بها ودراستها، وأيضا ملاحظة أثرها في الفضاء، وأوّل “صورة” حقيقية لثقب أسود كانت قد التقطت قبل أعوام قليلة. أما بالنسبة للثقوب الدودية، فأمرها يبقى أسير التكهنات والتخمينات الرياضية فحسب، فصحيح بأنّ معادلات “أينشتاين” ما زالت صامدة أمام طوفان التشكيكات على مرّ العقود الماضية، وهو ما يثبت مدى صحتها ونجاعتها، لكن الدليل الفيزيائي هو الفيصل والحكم هنا للاستدلال على صحة نظرية ما.
ولو سلّمنا بصحة معادلات “أينشتاين” مجددا فإنّ حدوث ثقب دودي في الكون وارد رياضيا، لكن هنا سيشكك الفيزيائيون فيما إذا كان تشكل هذه الثقوب طبيعيا مع الخلق، أو أنها ثقوب دودية صناعية.
يقرّ العالم “ثورن” بأنّ الثقب الدودي ليس ظاهرة فلكية طبيعية -وفقا لتخميناته العلمية- بالتصوّر الذي نحمله، إلا أنّه يرى بأن ثمّة بصيص أمل بتشكلها طبيعيا على نطاقات صغيرة للغاية وعلى المقاييس المجهرية، بسبب ظاهرة “الرغوة الكمومية” (Quantum Foam). وهذه الرغوة عبارة عن شبكة مفترضة من الثقوب الدودية تتقلّب وتتغير باستمرار، متخذة سلوكا تبعا لقوانين الجاذبية الكمية غير المفهومة بعد.
ويرى “ثورن” بأنّ طولها الطبيعي يكون بطول “بلانك” وهو ما يعادل جزءا من مئة من المليار من المليار من حجم الذرة، وهو حجم صغير جدا لا تستوعبه أو تدركه حواسنا بأي شكل من الأشكال.
ومع نظرية اتساع الكون، فإنّ العلماء يضعون بعض الآمال بأن هذا الاتساع ربّما يلهم هذه الثقوب الدودية الصغيرة بأن تكبر مع الوقت، لا سيما إذا كانت هذه الثقوب قد خُلِقت بعد خلق الكون، أي مضى عليها قرابة 13 مليار سنة، فمن يدري كيف أصبح حجمها، هذا فقط إذا كان خيار تضاعف حجمها واردا.3
صناعة الثقب الدودي.. رهان على حضارات المستقبل المتقدمة
هناك خيار آخر يرجحه جمهور الفيزيائيين، وهو أن نصنع ثقبا دوديا بأنفسنا، لكن ذلك سيتطلّب شروطا تعجيزية خارج قدرة حضارتنا، لذلك سنعوّل في هذا الأمر على حضارة متقدمة من المستقبل، حضارة قادرة على فهم قوانين الكم بما يكفي لكي تتعامل مع “الرغوة الكمومية”، فتعمل على تكبيرها بحجم الإنسان أو أكبر منه، وتستخدم المواد الغريبة لإبقائها مفتوحة.

أو أن تكون هذه الحضارة قادرة على التلاعب بالنسيج الكوني “الزمكان” بسبب الطاقة المتوفرة لديها، بمعنى لو أننا تخيّلنا أنفسنا نعيش على سطح التفاحة التي ذكرنا مسبقا، وأنّ هذا السطح سنطلق عليه “الغشاء” (Brane)، وهو يمثل الكون بأبعاده التي نعيش فيها، ولو ضغطنا على هذا الغشاء بطريقةٍ ما، فإننا سننغمس في كونٍ بأبعاد أكبر، ولنطلق عليه “فضاء عالي الأبعاد” (Hyperspace)، وبمجرّد الوصول إلى نقطة أخرى من “الغشاء” فإننا بذلك نكون حققنا جسرا أو ثقبا دوديا.
إذن فالأمر أشبه بعملية تمزيق الكون الذي نعيش فيه أو “الغشاء”، وعليه فعلى حضارة المستقبل المتقدمة فهم واستخدام قوانين الجاذبية الكمية، لأنّ قوانين النسبية العامة ترفض أيّ عملية تمزيق للغشاء الكوني. وحديثنا هنا استشهادات رياضية بحتة، وربما قصور فهمنا لقوانين الجاذبية الكمية يحول بيننا وبين إدراكنا لإمكانية تنفيذ ذلك من عدمه.4
المصادر:
[1] ثورن، كيب (2014). العلوم وراء انترستلر. و. و. نورتون آند كومباني، نيويورك. ص139
[2] ديفيروكس، كارولين (2022). أطفال فضوليون: ما هي المادة الغريبة، وهل يمكننا استخدامها لصنع ثقوب دودية؟. الاسترداد من: https://www.space.com/curious-kids-what-is-exotic-matter-and-could-we-use-it-to-make-wormholes
[3] ثورن، كيب (2014). العلوم وراء انترستلر. و. و. نورتون آند كومباني، نيويورك. ص146
[4] نفس المصدر. ص148