الكيمياء الفلكية.. أسرار العناصر الكيميائية السابحة في السماء

في محاولة لفهم طبيعة الأرض والبيئة من حولهم، أقدم فلاسفة الإغريق على تجريد الأشياء والأجسام إلى أبسط شيء ممكن، وكان تصورهم يدور حول أربعة عناصر أساسية قادرة على تشكيل أيّ شيء في الوجود، وهي النار، والهواء، والماء، والأرض. وكلٌّ له دلالته الخاصة وخصائصه، وتتفاوت نسب وجود كل عنصر في المواد، ولهذا الاختلاف في النسب يُعزى وجود الوفرة والتنوّع الحاصل.
ويُطلق على هذه النظرية نظرية العناصر الأربعة التقليدية، وهو إرث إغريقي قديم حمله العلماء على أعتاقهم ألفي عام، وكان بمثابة حجر الزاوية الذي بُنيت عليه مجالات المعرفة الكلاسيكية مثل الفلسفة والطب والخيمياء وغيرها. ولا تكتفي النظرية بتعريف ماهية المركبات والمواد فحسب، بل إنّها تشرح طبيعة التفاعلات بين المواد المختلفة وآلية حدوث ذلك.
نظرية العناصر الأربعة.. إرث الأقدمين يضع مبادئ العلم الأولى
كان تجريد الكون وكلّ ما فيه إلى 4 عناصر مستمدا من الدراسات والتجارب التي صاغها الأقدمون، فقد نسبوا إلى كلّ عنصر صفتين سائدتين من أصل 4 صفات، وهي: الجاف والمبلل والحار والبارد. ولو تمعنّا في عنصر النار، فإننا سنجده جافا وحارا، وعلى النقيض فعنصر الماء في طبيعته مبلل وبارد، على حد تعبيرهم.
ولا يمكن الجزم بأنّ ثمة رابطا يصل بين نظرية العناصر الأربعة الكلاسيكية وبين علم الكيمياء، سواء بشكله الحالي، أو كما نشأ على أيدي العلماء المهرة، مثل الكيميائي المسلم جابر بن حيان، لكن ثمة توافقا بين الاستشهادات والبراهين المقرونة بطبيعة المواد وتفاعلها مع غيرها أو مع المحيط، وهذا التوافق خير دليل على قدم الكيمياء في التاريخ البشري، والنهضة التي حلّت عليه ما كانت لتكون لولا الوقوف على تلك العناصر الأربعة التي كان يُتصور أنّها تشكل الكون.
وفي حقيقة الأمر، فإنّ نظرية العناصر الأربعة في ظاهرها تحمل فحوى الحقيقة الكيميائية القائلة إن الكون بما فيه يتكوّن من عناصر عدّة، يبلغ عددها 118 عنصرا مكتشفا حتى هذه اللحظة. وهذه العناصر تتوزع بالترتيب على جدول خاص يُعرف بالجدول الدوري وفقا لعدد من العوامل والخواص، وكان الكيميائي “ديمتري مندليف” استوحى فكرة الجدول بشكله الحالي بعد أن رآه في المنام في قصّة طريفة.1
“الكيمياء الفلكية”.. سلاح المعرفة الأول في طريق الفضاء
تنقسم العناصر الكيميائية إلى مجموعات، وتتداخل هذه المجموعات فيما بينها وفقا للصفات المشتركة، وأبسط مثال على ذلك الحالة الطبيعية للعنصر سواء كان غازيا أو سائلا أو صلبا، وأيضا نوعه من حيث الخصائص الفلزية. ومجموعات أخرى تعنى بالاستقرار الذرّي، ومجموعة الغازات النبيلة، وغير ذلك.
وهذا التقسيم هو أعلى مستوى ممكن أن نصل إليه اليوم في تفصيل العناصر وترتيبها، إذ بدت وكأنها عناصر الشعار (اللوغو)؛ يتخذ كلّ عنصرٍ منها موقعه بانسيابية وتوافق تام. ويختلف وجود العناصر في الطبيعة بنسب متفاوته، فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى الغلاف الجوي للأرض، سنجد أنّ عنصر النيتروجين هو الأكثر وفرة بنسبة ساحقة، ثمّ يليه عنصر الأوكسجين الذي تعتمد عليه أغلب الكائنات الحيّة في النمو والتكاثر، وفي عملية تحويل الطعام إلى طاقة.

ولأنّ كوكب الأرض جزء من هذا الكون، فإنّ هناك عددا من العناصر المشتركة، توجد في الأرض وفي الفضاء السحيق، ومعرفتنا المسبقة في الكيمياء قد مهدت لنا الطريق لاكتشاف العوالم البعيدة كيميائيا. ويُطلق على هذا المجال علم “الكيمياء الفلكية”، ويُعنى بدراسة الكيمياء في النظام الشمسي، والوسط الواقع بين النجوم، أو بتعبير آخر “الوسط البين-نجمي”.
وخلال فترة طويلة، كانت لدى الفلكيين معرفة محدودة بتركيب الوسط البين-نجمي، فالكون المرئي لا يكشف سوى النجوم والمجرات والسدم، بينما يبدو الوسط الواقع بين النجوم مظلما تماما، كما لو أنه خالٍ من أي شيء. ومع ظهور وسائل التحليل الطيفي في الخمسينيات والستينيات، ظهر وجه جديد للكون لم نألفه من ذي قبل.
ويلعب التركيب الكيميائي والذري في السحب دورا أساسيا في تشكيل النجوم والكواكب وتطورها، فالنجوم والأنظمة الشمسية تنشأ من هذه السحب الجزيئية، وعليه، فإن بإمكاننا الحصول على معلومات قيّمة، بما يخص العمليات المعقدة التي تحدث خلال تكوّن وتطور أنظمة نجمية مشابهة لنظامنا الشمسي.
التحليل الطيفي.. أشعة ترصد أسرار الفضاء الغامضة
يعد التحليل الطيفي إحدى التقنيات العلمية الثورية التي تلعب دورا محوريا في مجال الفلك، ويعنى بدراسة التفاعل بين المادة والإشعاع الكهرومغناطيسي، مثل الضوء، عبر الأطوال الموجية والترددات المختلفة. ومن خلال تحليل طيف الإشعاع المنبعث أو الممتص أو المبعثر بواسطة الأجرام السماوية، يستطيع العلماء الحصول على معلومات قيمة حول التركيب الكيميائي والخصائص الفيزيائية، وحتى ما يتعلق بحركتها.

وتستخدم تقنيات التحليل الطيفي في جل المجالات التقنية المعاصرة، كدراسة الترددات الراديوية للنواة في المجال المغناطيسي، في تقنية طبية تُدعى التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) لتصوير الأنسجة الداخلية للجسم بدقة غير مسبوقة، وأيضا في دراسة البنية التحتية للبروتون والنيترون باستخدام مسرعات الجسيمات عالية الطاقة.
وعلى ضوء الحديث عن الكيمياء الفلكية، فإن التحليل الطيفي يسمح للباحثين بتحديد وتحليل وفرة الجزيئات والعناصر الموجودة في مناطق مختلفة من الفضاء، كما أنّ كل تركيبة كيميائية تصدر وتمتص الإشعاع بأطوال موجية محددة، وهو ما يخلق بصمة طيفية فريدة لها.
ويمكن أيضا تحديد مكونات النجوم البعيدة والجزيئات الكيميائية بين المجرات وحتى التراكيب الكيميائية البدائية قبل تكوّن النجوم الأولى، عن طريق التحليل الطيفي، عبر التصوير بمختلف أنواع الأشعة، وكل نوع يقدم معلومات محددة حول الجسم المستهدف، وهذه الأنواع هي:
التحليل الطيفي البصري (Optical Spectroscopy): يتضمن تحليل الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء القريبة التي تنبعث أو تمتصها الأجرام السماوية، ويستخدم في تحديد التركيب الكيميائي للنجوم والسدم والمجرات. التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء (Infrared Spectroscopy): من خلال دراسة الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من الأجرام السماوية، يمكن للعلماء دراسة الجزيئات العضوية المعقدة وجزيئات الغبار ودرجة حرارة الأجرام السماوية. وهذا النوع من التحليل الطيفي مفيد بشكل خاص في دراسة السحب بين النجوم والأقراص الكوكبية الدوّارة. التحليل الطيفي للأشعة فوق البنفسجية (Ultraviolet Spectroscopy): توفر الأشعة فوق البنفسجية معلومات حول الغاز المتأين والنجوم الساخنة، مما يمنح العلماء بُعدا إضافيا لفهم العمليات النشطة والتفاعلات الكيميائية التي تحدث في هذه الأوساط. التحليل الطيفي الراديوي (Radio Spectroscopy): تحمل الموجات الراديوية المنبعثة من الأجرام السماوية معلومات قيمة حول تكوين وحركة سحب الغاز بين النجوم، وهذا النوع من التحليل الطيفي ضروري لدراسة السحب الجزيئية ومناطق تشكل النجوم والكون المبكر.
هذا مع وجود أنماط أخرى من التحليل الطيفي مثل “الرنين المغناطيسي النووي” و”مطيافية رامان” وغيرهما، لكنها غير مستخدمة بشكل مباشر في نطاق الكيمياء الفلكية.2
سكّر الفضاء.. مركبات كيميائية متناثرة في بيتنا الكبير
لقد ساهم البحث الطويل في دراسة الفلك كيميائيا بظهور نتائج غير متوقعة على مدار السنوات الماضية، ففي نهاية عام 2011 أفادت مجموعة من الباحثين من جامعة هونغ كونغ بأنّ غبارا كونيا يحتوي على مواد عضوية معقدة للغاية، تشبه في تركيبتها تركيبة الفحم والبترول، ونُشِرت جميع النتائج في مجلة “نيتشر” العريقة.3
وفي إنجاز غير مسبوق عام 2012، أعلن باحثون من جامعة كوبنهاغن اكتشافهم لجزيء معيّن من السكر، وهو “غليكول ألدهيد” (Glycolaldehyde)، في نظام نجمي يبعد عن الأرض 400 سنة ضوئية. وهو ما دفع المغردين إلى الحديث عن أنّهم أخيرا وجدوا سكرا في الفضاء، من باب الطرفة.4

وفي مطلع عام 2014 أعلنت وكالة ناسا الفضائية عن إنشاء قاعدة بيانات طيفية محسنة لتتبع الهيدروكربونات الأروماتية متعددة الحلقات (PAHs) المنتشرة في الكون. ووفقا للعلماء، فإنّ أكثر من 20% من الكربون في الكون مرتبط بهذه المركبات الكيميائية التي يرى العلماء أنّها هي سبب ازدهار أنماط الحياة المعروفة، ويُتصور أنها قد تشكلت بعد خلق الكون مباشرة.5
ولم تكتفِ أجهزة الرصد بتعقب المناطق المزدحمة بالغبار الكوني فحسب، بل حتى المذنبات كانت جزءا يسيرا من الدراسة والتعقب، وكان تشريحها ضمن أدوات الكيمياء الفلكية. هذا فضلا عن دراسة كواكب المجموعة الشمسية، كالمريخ الذي نمتلك سجلا بيانيا جيدا عن حالته وتركيبته الكيميائية، لا سيما في ما يتعلق بوجود مركب الماء، وهو ما يضعنا أمام منعطف الذهاب إلى أبعد النقاط الممكنة خارج الأرض على المدى البعيد.
المصادر:
[1] بوبوفا، ماريا (التاريخ غير معروف). كيف اخترع مندليف جدوله الدوري في حلم. الاسترداد من: https://www.themarginalian.org/2016/02/08/mendeleev-periodic-table-dream/
[2] تشو، ستيفن (التاريخ غير معروف). التحليل الطيفي. الاسترداد من: https://www.britannica.com/science/spectroscopy
[3] تشاو، دينيس (2011). الاكتشاف: يحتوي الغبار الكوني على مادة عضوية من النجوم. الاسترداد من: https://www.space.com/13401-cosmic-star-dust-complex-organic-compounds.html
[4] محررو الموقع (2012). اكتشف سكر الفضاء حول نجم يشبه الشمس. الاسترداد من: https://www.space.com/17345-sugar-molecules-discovered-young-star.html
[5] محررو الموقع (2014). هل تحتاج إلى تتبع الجزيئات النانوية العضوية عبر الكون؟ لدى وكالة ناسا تطبيقا لذلك. الاسترداد من: https://www.nasa.gov/ames/need-to-track-organic-nano-particles-across-the-universe-nasas-got-an-app-for-that/