“إمبراطور فيسبوك”.. بداية مشرقة وفضائح مُحرقة لقيصر العالم الأزرق

تزايدت في السنوات الماضية الانتقادات الموجهة إلى موقع “فيسبوك” وإلى مؤسسه الشاب الأمريكي “مارك زوكربيرغ”، الذي أصبح بفضله خلال سنوات قلائل مليارديرا وواحدا من بين أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم، لما تتمتع به مؤسسته من شعبية واسعة.
وبسبب تلك الشعبية المتنامية أصبحت تتدفق عليه الإعلانات من كل صوب، الأمر الذي شجعه للمضي أكثر فأكثر نحو كسب المزيد من الأرباح، على حساب الأفكار والقيم التي نادى بها عند انطلاق مشروعه الواعد، وتحول إثرها جزء من منصته العملاقة إلى ساحة لنشر الأخبار الكاذبة، كما يؤكد منتقدوه.
ويطالب المنتقدون “مارك” بالتدخل بوصفه المسؤول الأول عن إدارة الموقع، من أجل وضع حد لهذا الأمر، لما له من تأثير سياسي واجتماعي سيئ على المستخدمين، إلى جانب اتهامه بعدم الالتزام بمبدأ “حفظ الخصوصية” والسماح بتسريب المعلومات الشخصية الخاصة بهم إلى جهات تستثمرها لأغراض سياسية وربحية، من دون علمهم.
“مارك زوكربيرج”.. شاب ذكي يصبح من أغنى رجال العالم
الحالة التي وصلت إليها مؤسسة “فيسبوك”، تطرح أسئلة حول توجهات مؤسسها وطبيعة شخصيته، فهل هو رجل أعمال جشع، أم شاب مثالي يطمح لتغيير العالم، ويدعو إلى الانفتاح؟ هل أفسدت شهرته وسلطته توجهاته، فأضحى إمبراطورا يميل إلى السيطرة وامتلاك القوة؟
تلك الأسئلة يبحث فيها الوثائقي الفرنسي “مارك زوكربيرغ.. إمبراطور فيسبوك” (Mark Zuckerberg, l’empereur de Facebook)، ويدعو صحفيين مختصين بعالم الإنترنت وعلماء اجتماع للمشاركة فيه والمساهمة في تحليل “ظاهرة” فيسبوك بعمق يتجاوز الوصف والمراجعة البسيطتين.
يقابل مخرجا الوثائقي “جوليان لي بوت” و”لوران فوليا” في بداية مساره، الصحفي “ديفيد كيرك باتريك” الذي رافق وكتب كثيرا عن مشروع “فيسبوك” منذ ظهوره قبل عقدين من الزمن تقريبا، ويعرف الكثير عن تفاصيله التي سيستفيد منها مُشاهدو الوثائقي كثيرا.
يُذَكر الصحفي بأهمية الاعتراف بأن الشاب “مارك” قد عمل بجد ومثابرة على تحويل فكرة مشروعه إلى صرح عملاق، وأسس بطموحه وذكائه منصة للتواصل الاجتماعي هي الأكبر في العالم. من فكرة بدت أول الأمر مثل مزحة، ثم سرعان ما تحولت إلى واقع، وإلى مشروع حوله من مهندس إلكترونيات، تخرج لتوه من جامعة هارفارد إلى واحد من أغنى رجال العالم.
“فيسماش”.. لعبة لشباب الجامعة تمهد للخطوة الكبرى
يكرس الوثائقي وقتا لمراجعة التاريخ الشخصي لـ”مارك” وأهم المراحل التي مر بها مشروعه. يخبرنا أنه منذ طفولته كان مولعا بصناعة أشياء جديدة من المواد البسيطة المتوفرة أمامه، وأنه في سن المراهقة ساعد والده طبيب الأسنان، من خلال ابتكاره برنامجا تقنيا خاصا بالحاسوب، يسهل عليه عمله في العيادة.
وعندما دخل جامعة هارفارد خطرت على باله فكرة تأسيس منصة إلكترونية داخلية، ينشر فيها صور زملائه وبشكل خاص صور الفتيات الجميلات. لكن تلك “اللعبة” سرعان ما تحولت إلى وسيلة أكثر تطورا، وأضحى بفضلها التواصل الإلكتروني بين الطلبة وتبادل المعلومات الخاصة بهم أكثر احترافية، وستمهد هذه الخطوة لبلورة فكرة تأسيس منصة إلكترونية جديدة أطلق عليها اسم “فيسماش”، لكنه قرر لاحقا إغلاقها، بسبب الانتقادات الموجهة إليها، ومنها الإساءة لسمعة الفتيات.
وعن ريادة مشروعه الخاص بالتواصل الاجتماعي يوضح “دومينيك كاردو” المختص بعلم الاجتماع، أنه لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقته مواقع أخرى من بينها: “مايسبيس” و”فريندستر”، بفارق أنه أجرى على مشروعه الخاص وهو في سن العشرين من عمره، تحسينات طفيفة ستمهد لاحقا لظهور “فيسبوك”، الذي سيصفه بـ”البنية التحتية الاجتماعية” الجديدة.

وادي السيليكون.. بداية الطريق إلى نادي الثراء الفاحش
يكشف المحللون عن سعة أفق “مارك” التجاري، ويظهر ذلك من خلال إقناعه لمجموعة من الأصدقاء المختصين بعلم الحاسوب والإنترنت بالانتقال معه من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، حيث عالم “وادي السيليكون”، وحيث الإمكانيات الحقيقية التي تحول الأفكار العلمية إلى واقع عملي.
جاء “مارك” إلى مدينة بالو ألتو، حيث يمكنه توفير المال لإطلاق “فيسبوك” الذي كان يريد به تحقيق حلمه بتغيير العالم وانفتاح سكانه على بعضهم من دون قيود، وهناك يعمل على التوافق مع روح المدينة وثقافتها، فيرتدي الملابس البسيطة التي يحب الشباب المتحرر ارتداءها، ويفتح مكتبا متواضعا ينطلق منه مشروعه إلى الوجود.
في بداية انطلاقته كان عدد مستخدمي “فيسبوك” لا يزيد عن ٥ ملايين مستخدم، معظمهم طلاب جامعات، لكن بعد عام واحد أخذ الرقم يتصاعد بشكل مذهل، وأضحى مستخدموه من كل الطبقات ومن كل جهات الأرض، ومعه أخذت الإعلانات تتدفق على الموقع بسبب ارتفاع أعداد مستخدميه لدرجة أنه في عام ٢٠٠٧، كان عدد المشاركين الجدد يزداد يوميا بحدود مئة ألف مستخدم.
لم يخفِ “مارك” ما تغدق عليه الإعلانات من أموال هائلة، وكانت الخشية من تحويل أفكاره الثورية إلى تجارية ربحية تضطره للادعاء بأن مردود الإعلانات يُكرس جُله لخدمة المشروع والعاملين فيه، لكنه كان في الواقع يجني أموالا هائلة بسرعة خيالية، ولم يكن باستطاعته إخفاء حقيقتها.
لقد أضحى الشاب وهو ابن 28 عاما مليارديرا خلال سنوات قليلة، لديه عدة قصور فخمة في بالو ألتو، ومساحات كبيرة من الأراضي في (جزر الهاواي)، كما وصلت قيمة استثماراته في مضاربات البورصة المالية عام ٢٠١٢ إلى ما يقارب من مئة مليار دولار أمريكي، ومع كل ذلك الثراء ظل يطلب المزيد من الأرباح والسلطة.
قيصر روما.. نقاط سوداء تحت عباءة الهوس الإمبراطوري
يقارن الوثائقي بين طموح “مارك زوكربيرغ” للسلطة والمال، وبين هوسه وإعجابه بقيصر روما الأول “أغسطس”، حتى أن قصة شعره جعلها أقرب إلى قصة شعر الإمبراطور، وخلال زيارته مع زوجته لروما لقضاء شهر العسل لم يتوقف عن كيل المديح للثقافة الرومانية ولإمبراطورياتها.
يحلل بعض المشاركين في الوثائقي ذلك الميل للتشبه بالإمبراطور إلى رغبة داخلية لديه ليكون مثله يوما. عند هذا الميل يتوقف صناع الوثائقي ويؤشرون إلى منعطف حاد آخر صاحب زيارته إلى أوروبا، ويتمثل بتقديم حقوقي نمساوي اسمه “ماكس شيرمز” شكوى ضد “فيسبوك”، لخرقها مبدأ “الحفاظ على الخصوصية”.

يذكر “شيرمز” في شكواه وأمام كاميرات الوثائقي أن المؤسسة قد نقلت معلومات خاصة به، إلى جهات أخرى من دون علمه، وهي معلومات تتعلق بحياته الشخصية وميوله السياسية، وقد تضر بسمعته الشخصية في حالة استخدامها ضده.
لم يهتم “مارك” بالشكوى، واكتفى بإحالتها إلى مسؤول قسم “الخصوصية” الذي رفض قبولها، لكن المشتكي لم يكتفِ برد “فيسبوك”، فرفع شكواه إلى “المحكمة الأوروبية”.
تلك التطورات صاحبتها شكاوى كثيرة أخرى ضد “فيسبوك” لنشره أخبارا سياسية كاذبة وتسريبه معلومات شخصية تخص مستخدميه مقابل المال، وذلك ما يدفع الوثائقي لبحث الأسباب التي جعلت “مارك” رجلا فوق القانون والمحاسبة.
ألاعيب السياسة.. رجل فوق القانون يصنع رجال البيت الأبيض
يشير الخبراء إلى أن السياسيين الأمريكيين هم من بين الأسباب التي جعلته شخصا يصعب محاسبته، ويقدمون تجربة الرئيسين السابقين “أوباما” و”ترامب” مثالا على ذلك، فقد عامل “أوباما” صاحب “فيسبوك” على أنه ثوري يريد تغيير العالم ويسهم في تعزيز الديمقراطية، توافقا مع رؤيته لوادي السيليكون كمصدر إشعاع لنشر الديمقراطية والانفتاح على العالم.
يكشف المحللون أن فوز “أوباما” بالرئاسة كان للفيسبوك دور مهم فيه، كما سيكون له دور في فوز “ترامب” لاحقا. وينقل الوثائقي تأثير الأخبار الكاذبة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خلال حملة “ترامب” الانتخابية، وقد أدت إلى إسقاط منافسته “هيلاري كلينتون”، بعد نشر إشاعات مسيئة لها سُربت ونُقلت عبر منصات تواصل يتحكم بها “زوكربيرغ”.
من المفارقات التي يذكرها المحللون أن صاحب أكبر منصة تواصل في العالم ينفي أمام وسائل الإعلام -كلما سُئل عن دور المنصة السلبي في الانتخابات الأمريكية- وجود أي تأثير للأخبار الكاذبة على الناخب الأمريكي، ويدّعي أن مواقفهم السياسية وخياراتهم المسبقة لا تتأثر بها أبدا.
ثورات الربيع العربي.. أحداث سياسية كبرى في أرجاء العالم
يراجع صُناع الوثائقي تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي في حقول السياسة في مناطق أخرى من العالم، ويجدون في تجربة “الربيع العربي” مثالا على الدور الإيجابي الذي يمكن لها أن تلعبه.
يثبت الوثائقي بالفحص والتحليل أن توسيع مساحة الاحتجاجات في تونس ومصر ما كان لها أن تكون بذاك الحجم، لولا وجود وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، إنستغرام، تويتر وغيرها) التي استُخدمت على نطاق واسع كوسيلة للتحشيد والدعوة للقيام بالمظاهرات التي أدت في نهاية المطاف إلى إسقاط الرئيسين المصري والتونسي.
وفي المقابل يسجل تأثيرات سلبية لها على التجربة الأمريكية، وبشكل خاص إيصال “ترامب” إلى سدة الحكم، وأيضا تشجيع بريطانيا على الانفصال عن الوحدة الأوروبية في إطار مشروع “بريكست”، وهناك الأزمة التي واجهت إدارته بسبب ما اعتُبر تشجيعا لجيش ميانمار للمضي في حملته لإبادة شعب روهينغا المسلم، إلى جانب تهم الإساءة للأطفال وإضعاف الديمقراطية.
“ميتا”.. خسائر واهتزازات عنيفة تعصف بالمنصة
الاهتزازات القوية التي عصفت بـ”فيسبوك” جراء تغليب المصالح الشخصية أضعفت المؤسسة وصاحبها، ودفعت أعدادا كبيرة من مستخدميها للمطالبة بطرده من منصبه، وبضرورة إحداث تغيير جذري في سلوك المؤسسة، وإلا فإنهم سينسحبون منها.
بعد كثير من الفضائح التي لازمت المؤسسة كان “مارك” يخرج على الملأ ليقدم اعتذاره، لكن لم يعد ذلك كافيا لإقناع الناس بجدية الاعتذار وندم صاحبه، لأنه بعد كل فضيحة واعتذار يعود لممارسة نفس السلوك البعيد عن توجهاته الليبرالية الأولى.
وهم يدللون على ذلك باستمراره بنشر الإعلانات المدفوعة وبيعه المعلومات الشخصية، وقد كُشف عن ذلك بعد فضيحة “كامبريدج أناليتيكا”، وهي فضيحة لم يتوصل استجواب “مارك” حولها أمام لجان مجلسي النواب الأمريكي والأوروبي إلى أي نتيجة تذكر، ولم تؤدِّ إلى حصول تغيير في إدارته لها، ولهذا جاء التغيير من خارجها من المستخدمين أنفسهم كما يؤكد بعض المشاركين في الوثائقي.
من خلال متابعتهم الدقيقة لمسار عمل “فيسبوك”، يلاحظون تغييرا يحدث في موقف الناس من المؤسسة وعملها، إذ لم يعد يمثل طموحاتهم ورغبتهم في رؤية عالم أفضل تسهم فيه إيجابيا منصات التواصل الاجتماعي، ولربما لهذا السبب أعلن “مارك” عن تغيير اسمها إلى “ميتا”، محاولا الالتفاف على ما يواجه مؤسسته من مشاكل جدية، بعد أن لاحظ انخفاضا كبيرا في عدد مستخدمي “فيسبوك”، لازمته خسارات مالية كبيرة يريد تعويضها بالدعاية إلى ما يسميه “التواصل الافتراضي” الجديد، لكن الوثائقي لا يتوقع له كبير نجاح، ما دام مثل سابقه متوجها نحو المال، لا الأفكار الداعية لتغيير العالم نحو الأفضل.