الموصلات الفائقة.. هل تغير شكل العالم؟

في عالم باتت تسيطر عليه الآلات الكهربائية بشتى مجالات الحياة، من أبسط التراكيب إلى أعظمها تعقيدا، من الجوّالات مرورا بالحواسيب إلى إدارة المنشآت الضخمة؛ باتت الحضارة البشرية تضع جلّ حملها على الشبكة الكهربائية في تسيير حياتها، ولو أنّ عطبا ما طرأ على هذه الشبكة فإنّ أضرارا قاهرة ستصيب دولا ومنظمات عالمية. فالكهرباء اليوم بالنسبة للحضارة البشرية تمثّل عصب الحياة كما هو الماء بالنسبة لكافة الكائنات الحية، وفي أبسط تعاريفها، فإنّ الكهرباء ليست إلا نتاج حركة الجسيمات المشحونة من مكان إلى آخر.
وما يقف وراء هذه الشبكة الكهربائية ويتيح الوصول إليها بأسلم الطرق، هي الموصلات الكهربائية التي تنقل التيار الكهربائي بلا كلل ولا تعب من نقطة إلى أخرى. ولو ضربنا مثالا بسيطا فإن الأسلاك النحاسية ذات الكفاءة المحدودة تنقل الكهرباء إلى المنازل، وأيضا على مستوى الدوائر الكهربائية الدقيقة المعقدة التي ترتكز عليها كافة الأجهزة كالهواتف الذكية وغيرها، تعمل الموصلات -وغيرها من الوسائل- على نقل الكهرباء بهدوء تام دون ضجر.
وعلى الرغم من الخدمات الجليلة التي تقدمها هذه الموصلات للبشرية، فإنّ لها حدودا يستعصي تجاوزها، ويمكن اختصار بعض عيوبها بشكل رئيسي فيما يُعرف بالمقاومة الكهربائية، إذ تعمل نفس الموصلات على تبديد جزء من الطاقة على شكل حرارة عند مرور التيار الكهربائي فيها، وهذا يعني إهدارا للطاقة غير محبّب، ولا يكاد يخلو موصّل من نسبة مقاومة للكهرباء. ومن عيوبها كذلك محدودية نقل التيار الكهربائي، فبمجرّد تجاوز الحد الممكن فإنّ هذه الموصلات ترتفع درجة حرارتها، مما يتسبب بتلفها وربّما أضرار أكبر كاندلاع الحرائق.
ومع جموح طموح الإنسان في نقل الكهرباء بكفاءة وقدرة أعلى، فإنّ سعيه الحثيث انطلق منذ عقود طويلة، بحثا عن الموصلات الفائقة التي تعد بمثابة “حجر الفلاسفة” عند الخيميائيين، فتلك الموصلات الخارقة قادرة على نقل الكهرباء والتيار الكهربائي -دون خسارة أي طاقة- على شكل حرارة، ودون وجود أيّ حد لمرور التيار الكهربائي، وحينها سيتغيّر العالم رأسا على عقب، وهذا ليس مجرّد ادعاء فحسب، بل تغيّر سيطرأ على الكوكب لا حدود له.
إنتاج الطاقة الكهربائية.. همّ البشرية الأول خلال ثورة الاختراعات
في أحد السجالات العلمية الشهيرة التي دارت في نهاية القرن التاسع عشر بين العالم الصربي “نيكولا تيسلا” و”توماس أديسون”، كان همّ البشرية الأكبر حينئذ هو إشعال مصباح، وذلك باستخدام أبسط الأساليب المكتشفة، ثمّ انطلقت الاختراعات تتوالى والأجهزة الكهربائية تظهر واحد تلو الآخر، تحت سقف محدود لبعض الموصلات الكهربائية المكتشفة آنذاك، ولا بد من القول إن ما حققته البشرية -على الرغم من القيود الفيزيائية- خلال العقود الماضية يعد إعجازا.

وتنتج الطاقة الكهربائية بعدة أنماط، وأشهرها عن طريق المولدات الكهربائية ذات الوقود الأحفوري وهي تعمل على تحويل الطاقة الحركية إلى طاقة كهربائية، وهذا النمط هو الأكثر انتشارا في العالم لغرض تلبية حاجة المدن والأماكن السكنية، ومن الطرق الشهيرة أيضا تحويل الطاقة الكيميائية إلى طاقة كهربائية كما هو الحال في البطاريات المنتشرة في بعض الأجهزة المنزلية، وأيضا في السيارات والسيارات الكهربائية الدارجة اليوم.
كما أنّ التيار الكهربائي ينتقل عبر الموصلات بسبب حركة الجسيمات المشحونة، وعادة ما تكون إلكترونات، ولو نظرنا إلى النحاس والألومنيوم والفضة (وهي أحد أفضل الموصلات الكهربائية)، نجد بأن الإلكترونات غير مرتبطة بذرات المعدن بإحكام، وعليه فإنّ لديه قدرة عالية على الحركة بحرية داخل الموصل عند تعرضها لمجال كهربائي. وينشأ المجال الكهربائي عند وجود فرق الجهد الكهربائي -وهي تمثّل القوّة الدافعة للكهرباء- بين نقطتين.
انجراف الإلكترونات.. تدافع يحدث تيارا كهربائيا شديدا
تنجرف الإلكترونات استجابة للمجال الكهربائي الناشئ داخل الموصل، وعلى الرغم من سرعة الإلكترون البطيئة نسبيا، فإنّ الأعداد الضخمة من الإلكترونات داخل الموصل تسمح بحدوث تيار كهربائي شديد، فتتدافع الإلكترونات باتجاه المجال المغناطيسي.1

ولأن ثمة عوائق تتعلق بالتركيب الذري والجزيئي في الموصل، فإنّ جزءا من هذا التيار الكهربائي -الذي يضم سربا كبيرا من الإلكترونات- يصطدم بهذه العوائق فتنتج عن ذلك حرارة، وهذا الاصطدام نعبّر عنه فيزيائيا بالمقاومة الكهربائية.
وقد لاحظ العلماء بأنّ ثمة علاقة قوية تجمع بين الحرارة والمقاومة الكهربائية؛ فمع ارتفاع درجة الحرارة تهتز الذرات أو الجزيئات الموجودة داخل المادة بقوة أكبر، مما يؤدي إلى زيادة الاصطدامات والتفاعلات مع الإلكترونات العابرة مع التيار.
تبريد الموصلات.. حاجة ملحّة وتكلفة ضخمة
انطلاقا من التفاعلات مع الإلكترونات العابرة، بدأت فكرة تبريد المواد للحصول على موصلات بلا عوائق، أو بمعنى أصح بلا مقاومة كهربائية، وحينها سنحصل على موصلات فائقة التوصيل. ولا يبدو الأمر بهذه السهولة، فتبريد الموصلات سترافقه غالبا تكلفة وتعقيدات إضافية.
فعلى سبيل المثال، يعد مصادم الهادرونات الكبير (LHC) أضخم مسرّع جسيمات ذرية وأعلاها طاقة وسرعة في العالم، ويقع تحت الأرض على شكل دائرة بطول 27 كم، ويستخدم ذات التقنية في خلق مجال مغناطيسي قوي باستخدام ملفات فائقة التوصيل، تُحفظ في درجة حرارة منخفضة جدا تعادل 271.25 درجة مئوية تحت الصفر، أي أقل من الصفر المطلق بـ1.91 درجة مئوية فقط (الصفر المطلق هو سالب 273.15).

وللقيام بهذه المهمة الصعبة يتطلب الأمر بناء نظام تبريد يحتوي على 96 طنا من الهيليوم السائل، وهو الأكبر من نوعه في العالم، وهو ما يجعل تبريد الموصلات تحديا كبيرا، فيبقى استخدام الموصلات الفائقة محدودا للغاية، على الرغم من حسناتها الهائلة.2
ولكن بدلا من تبريد المواد، أجرى مجموعة من العلماء بحثا عن مواد ذات خواص مغايرة غير مألوفة، وهي موصلات قادرة على نقل التيار الكهربائي، من دون أن تتعرض إلى ارتفاع في درجة الحرارة في المقام الأول.
موصلات فائقة غنية عن التبريد.. آمال المستقبل
في يوليو/ تموز من هذا العام 2023، تفاجأ العالم بخبر اكتشاف موصلات فائقة تعمل في درجة حرارة الغرفة، أي درجة الحرارة الطبيعية، وقد ظهرت الدراسات الأولية لهذا الموصّل الفائق عن طريق موقع “أركايف” (ArXiv) وهو أرشيف لمسودات أوراق علمية إلكترونية لمجالات عدّة.
وقد نشر الاكتشاف فريق من الباحثين يترأسهم “سوكبي لي” و”جي هون كيم” من جامعة كوريا الواقعة في سيول، وقد ادّعى الفريق بأنّ الموصّل الفائق يُدعى “إل كيه 99” (LK-99)، ويعمل في ظروف الضغط ودرجة الحرارة الطبيعية. كما نُشِرت صور ومقاطع أخرى توضح قدرة الموصل على التفاعل مع المجال المغناطيسي في درجة حرارة ملائمة.3
أحدث الخبر صدمة هائلة وبات حديث الساعة، فما يحمله هذا الاكتشاف يفوق أقصى خيالات البشر، فقد دفع ذلك المشككين في إعادة التجربة وتقييم نتائجهم مع الورقة الأصلية، ولم يمض الكثير من الوقت حتى أعلنت جميع المراكز البحثية المعنية بأنّ الورقة البحثية المنشورة لا تعطي النتائج الصحيحة، وبالتالي فإنّنا ما زلنا بعيدين كل البعد عن تحقيق هذا الإنجاز.
ولكن ماذا عساها أن تحقق البشرية بوجود هذه الموصلات الفائقة الخيالية. فيما يلي جانب من الاستخدامات المتاحة المحدودة ريثما يصل العلماء إلى اكتشافهم الأكبر.
تصوير الرنين المغناطيسي.. تقنية ثورية تتسلل إلى جسم الإنسان
بات من الممكن بالاستعانة بالموصلات الفائقة الغوص في غَور الجسم البشري، من دون الاضطرار إلى أيّ تدخل جراحي، وهذا ما يجعل الأمر ذا فائدة عظيمة في القطاع الطبي والصحي. وهذه أولى الميزات التي بدأت منذ عهد قديم تطرح في الأوساط العلمية على يد الفيزيائي الهولندي الحاصل على جائزة نوبل “هايك أونيس”.
فقد تراءى له بأنّ الموصلات الفائقة قادرة على خلق حقول مغناطيسية قوية، من دون ارتفاع في درجة الحرارة. لكن من سوء حظه، أنه لم يحن اختراع أو اكتشاف الموصلات الفائقة في عهد “أونيس”، بل ظهرت لاحقا في فترتي الخمسينيات والستينيات، بعد تمكن العلماء من تحديد المواد المناسبة وتطويرها للقيام بهذه المهمة.

فلقد توصّل العلماء إلى تكنولوجيا التصوير بالرنين المغناطيسي، وهي إحدى التقنيات الثورية في الطب، القادرة على كشف الأورام وفحص الوظائف العصبية والكشف عن الاضطرابات في المفاصل والعضلات والقلب والأوعية الدموية، وذلك بتصوير طبي غير جراحي ينتج صورا تفصيلية لكل بنية داخلية تقريبا في جسم الإنسان.
وتستخدم معظم أنظمة التصوير بالرنين المغناطيسي مغناطيسا فائق التوصيل، مكوّنا من عدة ملفات من الأسلاك يعبر خلالها تيار كهربائي عالي، فينتج عنه مجال مغناطيسي ذو قوة تصل إلى 2 تسلا، (تسلا هي وحدة قياس شدة المجال المغناطيسي)، ومن باب المقارنة لإدراك مدى قوة المغناطيس المستخدم، فإنّ المجال المغناطيسي للأرض يتراوح بين 25-65 ميكروتسلا، و1 تسلا يعادل مليون ميكروتسلا.
ولتفادي الحرارة الكبيرة الناتجة، فإنّ الأسلاك الموصلة للتيار الكهربائي تغمر في الهيليوم السائل عند درجة حرارة 269 درجة مئوية تحت الصفر.4
نقل الطاقة الكهربائية.. فرصة لزيادة الكميات وتقليل الخسائر
في مجال آخر ووفقا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA)، فإنّ خسائر نقل وتوزيع الكهرباء السنوية بلغت في المتوسط حوالي 5% في الولايات المتحدة بين عامي 2017-2021. 5
ولو ترجمنا هذه النسبة إلى لغة الأرقام فإن ذلك يعني هدر حوالي 250 مليون ميغاوات في الساعة، أي ما يقدّر بـ20 مليار دولار من قيمتها النقدية. ومع طرح استخدام الموصلات الفائقة على مستوى البنية التحتية، فإنّ نقلة نوعية ستحدث، ليس فقط على صعيد القدرة في نقل الكهرباء بكميّات أكبر، بل أيضا بما يتعلق بالتوفير والحد من الطاقة المهدرة.

كما ستتاح فرصة لبناء محطات توليد الطاقة الكهربائية، سواء تلك التي تعمل بالطاقة النووية أو بالوقود الأحفوري، عند مسافات بعيدة من المدن وعن التجمعات البشرية، وهو ما يعزز جودة الحياة في الأماكن السكنية، ويقلل وجود الأخطار المحتملة.
وقد استطاعت مدينة إيسن الألمانية استحداث هذه التقنية وبناء أطول سلك فائق التوصيل في العالم، ويزيد طوله عن 1 كم، بهدف أن يصبح نموذجا لمشاريع عالمية مماثلة في المستقبل. ويربط هذا السلك محطتي محوّلات طاقة كبيرتين في المدينة بقدرة نقل طاقة أكبر بـ5 مرات من السلك النحاسي التقليدي المنتشر حول العالم، وهذا ما سيّوفر مليارات الدولارات من خسائر النقل.6
القطارات المغناطيسية.. قطارات معلقة تسابق سرعة الصوت
على مستوى المواصلات والتنقل، يمكن قطع الطرق التي يستغرق قطعها بضع أيام في ساعات معدودة، بواسطة قطارات فائقة السرعة زهيدة التكلفة، حتى أنها قد تنافس بسرعتها الطائرات التجارية، وهذا يعود إلى آلية عملها بمغانيط فائقة التوصيل، مصنوعة من لفائف من أسلاك فائقة التوصيل. هذه الأسلاك يمكنها إيصال تيارات كهربائية أكبر بكثير من الأسلاك العادية، مما يخلق مجالات كهرومغناطيسية قوية.
وتعمل هذه المجالات القوية على تكوين وسادة مغناطيسية ترفع القطار وتمنعه من ملامسة السكة الحديدية، فتنعدم الحاجة للعجلات والمحاور، وتحلّ مكان الحركة الميكانيكة تقنية كهربائية. ونظرا لغياب الاحتكاك مع السكك الحديدة فإنّ القطارات نظريا قادرة على الاقتراب من سرعة الصوت، هذا إذا ما استثنينا تأثير الديناميكا الهوائية الناتج عن الاحتكاك مع الهواء.

ويُطلق على القطار المغناطيسي اختصارا اسم “ماغليف” (Maglev) وقد بدأ العمل عليه منذ ستينيات القرن الماضي، ولم ينتشر حول العالم بسبب تكلفة إنشائه الباهظة، لكن بعض الدول حققت تقدما كبيرا في قطارات “ماغليف”، ففي الصين تصل سرعته نحو 430 كم في الساعة، وفي اليابان يترقب العالم خلال عامين تدشين خط “تشو شينكانسن” الذي سيرفع قطارا مغناطيسيا معلقا تزيد سرعته عن 500 كم في الساعة، ليربط بين مدينتي طوكيو وناغويا بمدة زمنية قياسية تبلغ نحو 40 دقيقة، وهي مسافة تقطعها السيارة في أكثر من 4 ساعات.7
كما أنّ الموصلات الفائقة ستشعل ثورة عالم الحواسيب الكمومية، فتزداد كفاءة المعالجات إلى مستويات مجنونة، ولا يعلم أحد ما هي الحدود التي يمكن أن تقف عندها هذه الأجهزة الإلكترونية. فكلّ ما ذُكر يعد جزءا يسيرا من الاستخدامات المتاحة اليوم لكن التكاليف باهظة، وهو ما يعد عقبة لا يمكن تجاوزها، إلا باكتشاف مواد أو موصلات فائقة قادرة على العمل، من دون الحاجة إلى تبريدها.
إن مهمة إيجاد موصلات فائقة بهذه المواصفات ما زالت سارية حتى اللحظة، وعلى الرغم من صعوبة هذه المهمة، فما زالت الآمال قائمة في العثور على حجر الفلاسفة الذي سيستسقي منه العالم والبشرية جمعاء. ومن يدري ماذا يخبئه المستقبل، فالباب ما زال مفتوحا على مصراعيه أمام كافة الباحثين والعلماء.
المصادر:
[1] محررو الموقع (2022). شرح الكهرباء. الاسترداد من: https://www.eia.gov/energyexplained/electricity/the-science-of-electricity.php#:~:text=The%20protons%20and%20electrons%20of,have%20a%20negative%20charge%20(%2D).
[2] كاستيلفيتشي، دافيد (2023). كيف يمكن للموصلات الفائقة في درجة حرارة الغرفة أن تغير العلم؟. الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/d41586-023-02681-8#:~:text=Superconductors%20are%20materials%20that%2C%20at,under%20extreme%20pressures%2C%20or%20both
[3] جاريستو، دانيال (2023). ادعاءات الموصلية الفائقة الجديدة تترك العديد من العلماء في حالة شك. الاسترداد من: https://www.scientificamerican.com/article/viral-new-superconductivity-claims-leave-many-scientists-skeptical1/
[4] جولد، تود (2023). كيف يعمل الرنين المغناطيسي. الاسترداد من: https://science.howstuffworks.com/mri.htm
[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). أسئلة شائعة. الاسترداد من: https://www.eia.gov/tools/faqs/faq.php?id=105&t=3
[6] تيمليتون، جراهام (2014). أول خط كهرباء فائق التوصيل في العالم يمهد الطريق لتوفير مليارات الدولارات، وإنشاء المزيد من محطات الطاقة النووية. الاسترداد من: https://www.extremetech.com/extreme/182278-the-worlds-first-superconducting-power-line-paves-the-way-for-billions-of-dollars-in-savings
[7] محررو الموقع (2022). ماغليف الياباني: أسرع قطار فائق السرعة في العالم. الاسترداد من: https://www.jrailpass.com/blog/maglev-bullet-train