القارة القطبية الجنوبية.. تاريخ وأسرار الفاتنة البيضاء العصية على تطويع المستكشفين
استقلّ ثلة من الرجال الألمان سفينتهم بقيادة “ألفريد ريتشر” -وهو نقيب في البحرية الألمانية- بهدف إيجاد منطقة ملائمة في القارة القطبية الجنوبية لبناء قاعدة لصيد الحيتان، لغرض تزويد ألمانيا بحاجتها من زيت الحوت الذي كان يُستخدم آنذاك في إنتاج السمن والصابون.
فقد كانت ألمانيا ثاني أكبر مستورد لزيت الحوت من النرويج بكميّة تساوي 200 ألف طن متري سنويا، ولذلك كانت الدولة النازية تعتزم أن تستقلّ في مواردها، وأن تحقق الاكتفاء الذاتي وهي على مشارف حرب عالمية.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ البعثة الألمانية كانت تهدف إلى اكتشاف مواقع محتملة، لتنصيب قواعد ألمانية للقوات البحرية، فتكون مطلّة بشكل مباشر على المحيط الأطلسي، وقريبة من أهم المعابر في المحيط الهندي.
وصلت البعثة الألمانية أراضي القارة القطبية واستقرّت في أقصى شمال القارة عند ما يُعرف بأرض “نويشفابن لاند” أو “شوابيا الجديدة” كما أطلق عليها النازيون، وتبلغ مساحتها 600 ألف كيلومتر مربع، وتقع بين خطي طول 20 درجة شرقا و10 درجات غربا. ولكن سرعان ما تراجعت ألمانيا عن فكرتها وعادوا أدراجهم، نظرا لاندلاع الحرب العالمية الثانية التي بدأت في وقت أبكر مما كان متوقعا.
وبعد مرور نحو 6 سنوات من الحرب العنيفة التي أنهكت القارة الأوروبية وأضرّت بالاقتصاد العالمي، أعلن الرايخ الثالث الألماني استسلامه رسميا في سبتمبر/ أيلول 1945، ووفقا لشروط الاستسلام فقد تنازل النازيون عن جميع أراضيهم باستثناء أرض واحدة لم تُدرج ضمن البنود، ولا يعلم أحد هل سقطت سهوا، أم أنهم لم يدركوا سيادتهم على تلك الأراضي، فكان ما زال شعار الصليب المعقوف يرفرف في القارة القطبية، وما زالت الحكاية هناك لم تنته بعد.
شكّلت القارة القطبية النائية منذ عهد قديم الكثير من الغموض، وساهمت في نشوء عدد من نظريات المؤامرة، وبحكم المسافات البعيدة وصعوبة الوصول، عززّ ذلك تبني كثير من المفاهيم المغلوطة التي كثيرا ما تُحاك بذكاء ودهاء. فما هو سر القارة القطبية؟
قارة الجنوب.. طبقات جليدية متراكمة منذ ملايين السنين
تعد القارة القطبية الجنوبية أحدث القارات اكتشافا، وتقع في أقصى النصف الجنوبي للأرض، وتتمركز بشكل غير متماثل حول القطب الجنوبي للكوكب، ويحيط بها المحيط القطبي الذي يمتد من سواحل القارة حتى خط عرض 60 درجة جنوبا. وبسبب موقع القارة المحوري -بما تعنيه الكلمة من معنى- فإنّها تعيش في حالة تجمّد شبه تام بعد انفصالها الأخير عن قارة أفريقيا قبل نحو 160 مليون سنة.1
لقد كانت نتائج ذلك الانفصال أن غزا الكساء الأبيض القارة، بعد أن كانت تنعم بغطاء نباتي أقرب لحال القارة الأفريقية اليوم، وبسبب الظروف القهرية التي مرّت بها القارة مثل ظهور “التيار القطبي للقطب الجنوبي” (Antarctic Circumpolar Current) الذي يمثّل حاجزا أمام التيارات الدافئة الاستوائية، ويمنعها من الوصول إلى القارة المتجمّدة؛ حدث عزل تام على مستوى المناخ، وبقيت القارة في سبات متجمّد طويل الأمد.
وعلى مدى ملايين السنوات تساقطت الثلوج، وتراكمت على سطح القارة القطبية الجنوبية، وتشكّلت طبقة جليدية أشبه بالغطاء الجليدي يبلغ متوسّط سماكته كيلومترين على مساحة 13.7 مليون كيلومترا مربّعا، وتربط هذه الطبقة الجليدية الشاسعة بين جزئي القارة التي تتألف منها جيولوجيا، كما تغطي الطبقة نحو 8% من إجمالي اليابسة على الأرض، وتبلغ أعلى قمّة فيها 4.9 كيلومترات في المرتفع الجبلي المعروف “فينسون ماسيف”، وهو أحد القمم السبعة في العالم.
وتضم الطبقة الجليدية في جوفها حوالي 25 مليون كيلومتر مكعب من الجليد، وإذا تعرّضت تلك الكتلة الجليدية الضخمة للذوبان تحت أيّ ظرف، فإنّ متوسّط مستوى سطح البحر سيرتفع بمقدار 61 مترا، وهذا يعني بأنّ جميع الأبنية التي تتألف من 18 طابقا سيبتلعها الماء، ويطمر كلّ ما هو أقل منها ارتفاعا. وقياسا على ذلك فإنّ تغيرات جوهرية ستطرأ على كوكب الأرض وعلى الكائنات الحية، لا سيما تلك المناطق الساحلية التي يقطنها 40% من سكان الكوكب، أي نحو 3 مليارات نسمة.2
“جايمس كوك”.. صدفة تكتشف أعظم أسرار الكوكب
لم يُرفع الحجاب عن القارة المتجمّدة إلا قبل نحو 250 عاما، وفقا للرحلات التاريخية المسجّلة والموثقة، وكانت رحلة المستكشف والبحّار البريطاني “جايمس كوك” عام 1773 أوّل رصد تاريخي للقارة، فبعد أن أخذ أسطول السفن الشراعية ينجرف في الصقيع البارد بين أكمام الثلوج البارزة فوق سطح الماء الراكد، في مهمة بحث طويلة عن نهاية لهذا العالم، وعن أراضٍ جديدة لم تطأها قدم إنسان من قبل، شاهد القبطان “كوك” تلالا ثلجية تطفو على الماء على امتداد بصره، ففضّل الالتفاف حولها بدل أن يخترقها، وبعد مُضي نحو 9 أشهر من الصراع مع التقلبات الجوية وتلاطم الأمواج، استطاع الالتفاف حول الكتل الثلجية الضخمة إلى الطرف الآخر من الأرض.
لم يدرك حينها القائد “كوك” أنّ وراء أكوام الثلوج تلك أرضا شاسعة ذات جبال وفوهات بركانية، تغطيها طبقة جليدية سميكة يصعب الوصول إلى سطحها. وفي يناير/ كانون الثاني 1820 أشار الرحّالة الروسي “ثاديوس فون بيلينجسهاوزن” إلى أنّه رأى شاطئا جليديا ذا ارتفاع شاهق خلال رحلة استكشافية، ومن الناحية التاريخية تعد تلك أوّل إشارة إلى وجود أراضٍ قطبية.
وفي نفس الوقت تقريبا، أبلغ ضابط البحرية الملكية البريطانية “إدوارد برانسفيلد” عن رؤية جبال عالية مغطاة بالثلوج، خلال رحلة استكشافية لرسم الخرائط، وقد بدا له أنّ سواحل القارة غير مألوفة البتة، فبدلا من الرمال والصخور التي تزيّن الشواطئ، فقد تراءت أمامه جدران ثلجية شاهقة على امتداد الساحل، وهذا ما يعكس عظمة المكان وصعوبة الوصول إليه.
قطب الجنوب.. حاجز جليدي ضخم يحول دون الحلم
بعد تحديد موقع القطب المغناطيسي الشمالي للأرض عام 1831، بدأ المستكشفون والعلماء عملية البحث عن القطب المغناطيسي الجنوبي. وكان ضابط البحرية الملكية البريطانية “جايمس كلارك روس” من أوائل من أخذوا على عاتقهم إنجاز المهمة، فبعد أن حدد موقعها التقريبي، انطلق بسفينتيه “إريبوس” و”تيرور” برحلة استكشافية بين عامي 1839-1843.
لكن الرحلة لم تتكلل مساعيها بالنجاح، فقد واجهه حاجز جليدي ضخم يزيد ارتفاعه عن 30 مترا، عُرِف لاحقا باسم “جرف روس الجليدي” الذي تساوي مساحته دولة فرنسا بأكملها، وعلى امتداد البصر تختفي فيه جميع مظاهر التضاريس الذي نعرفها.
وكان الإنزال الأوّل كما دوّنته كتب التاريخ يعود إلى البحار الأمريكي “مركاتور كوبر” في يناير/ كانون الثاني 1853، حينما وطأت قدماه الساحل الشرقي للقارة القطبية في أرض فكتوريا التي تحد جرف روس الجليدي.
وبسبب وعورة الأرض وصعوبتها، لم تشهد الزيارات القطبية أيّ توغلات إلى قلب القارة، بل اكتفى المستكشفون بالمناطق الساحلية ودراسة جغرافيتها وتضاريسها، وقد قال القائد “روس” إنه ليست هناك أي فائدة علمية تذكر، أو مسائل تستحق عناء البحث في هذه المنطقة، وهو ما أخمد بريق رحلات الاستكشاف، قبل أن يشتعل فتيله مجددا بعد نحو نصف قرن.
استكشاف القطب الجنوبي.. سباق ملحمي في عصر البطولات المرعب
مع نهاية القرن التاسع عشر، بدأ ما يُعرف بعصر البطولات (The Heroic Age) لاستكشاف القطب الجنوبي، وقد استمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى مع بعثة السير “إرنست شاكلتون” عام 1917، وهي التي تُعد وفقا للمؤرخين خاتمة تلك الفترة البطولية.
فقد أسفرت هذه السنوات القليلة عن عدّة رحلات استكشاف من 10 بلدان، ساهمت جميعا في البحث العلمي والجيولوجي، ضمن محدودية المصادر الطبيعية والتقنية المتاحة على حد سواء، لذا كان ينظر الجميع إلى تلك الحملات البحثية على أنها عمل بطولي واختبار حقيقي لقدرة الإنسان على التحمّل، وقد وصل عدد ضحايا من فقدوا حياتهم في هذه البعثات 23 رجلا.
وكان من أشهر الملاحم التي خلّدها المؤرخون، السباق الذي حلّ بين البعثة البريطانية “تيرا نوفا” بقيادة الكابتن “روبرت فالكون سكوت”، والفريق النرويجي بقيادة “رولد أموندسن”، وكان هدف السباق الأساسي هو نيل شرف أوّل وصول إلى الموقع الجغرافي الصحيح لقطب الأرض الجنوبي.
لقد خطط الرحّالة “أموندسن” في بادئ الأمر المغادرة إلى القطب الشمالي، لكن اثنين من المستكشفين الأمريكيين ادّعيا أنّهما قد وصلا إلى شمال الكرة الأرضية، فتغير مسار رحلته، وبات هدفه نيل الأصعب، وهو الوصول إلى القطب الجنوبي للأرض.
كلاب الزلاجات.. مشاركة حيوانية ذكية تصنع الفارق
لم يكن في الحقيقة ثمّة تنافس وسباق مباشر بين “أموندسن” و”سكوت”، إلا في وقت متأخر حينما نزل “سكوت” في مدينة ملبورن الأسترالية في أكتوبر/ تشرين الأول 1911، ومن هناك وصلت برقية قد أرسلها “أموندسن” إلى “سكوت” يشير فيها إلى أنّ سفينته توشك على الوصول إلى القارة القطبية، في إشارة واضحة إلى نيته تحقيق ما عجزت عنه البشرية من قبل.
شمل طاقم “سكوت” 5 أفراد اختيروا بعناية فائقة من أصل 4 آلاف مرشّح، وكان تمويل البعثة بنفقة خاصة، على نقيض البعثة النرويجية التي لاقت دعما وتمويلا حكوميا، وهو ما منح “أموندسن” فرصة إضافية للتخطيط والتحضير، وكانت البعثة النرويجية تضم 5 أفراد أيضا.
لم يعوّل “سكوت” كثيرا على استخدام العنصر الحيواني في التنقّل مثل الكلاب والأحصنة، وكان يفضّل التنقل سيرا على الأقدام أثناء رحلتهم الشاقة، وكانت تلك إحدى المحطات الفارقة لاحقا، وقد صبّت في صالح “أموندسن” الذي اصطحب معه 52 كلبا لجر الزلاجات الثلجية، وعمد إلى إعدام بعض الكلاب في سبيل إطعام البقية في أثناء الرحلة كما كان خُطط له، وقد نجا 11 كلبا فقط في نهاية المطاف.
وفي منتصف ديسمبر/ كانون الأول 1911، وعند الساعة الثالثة بعد الظهر، أصبح “أموندسن” رفقة طاقمه أوّل من يصل إلى القطب الجنوبي المغناطيسي للأرض، فأقاموا هناك وظلّوا يدرسون ويعاينون المكان، وعند مغادرتهم تركوا وراءهم بعض الرسائل والمعدّات وخيمتهم لتكون علامة للفريق الإنجليزي من بعدهم. وقد غادرت البعثة النرويجية بعد مكوثها يومين، ووصل جميع الطاقم بأمان، بعد أن قطعوا نحو 2580 كيلومترا في 99 يوما.
“كلماتي هذه وجثثنا يجب أن تكون كفيلة بسرد حكايتنا”
بعد نحو شهر من وصول الفريق النرويجي، وصل الفريق الإنجليزي إلى المكان ذاته، وكانت آمالهم قد تحطمت بعد أن رأوا آثار البعثة السابقة، ولم يمكثوا سوى يوم واحد، ثم انطلقوا عائدين في 17 فبراير/ شباط وقد تملكتهم الخيبة، وفي حقيقة الأمر لم تكن تلك أكبر المصائب بعد، ففي أثناء عودتهم هبّت رياح ثلجية عاتية أصابتهم بشدّة، مما أدّى إلى وفاة أحد الرجال الخمسة.
ظلّت البعثة الإنجليزية تسير في ظروف قهرية حتى يوم 16 مارس/ آذار، فتوفي رجل آخر إثر إصابته بالغرغرينا في قدمه، ويُدعى الكابتن “لورانس أوتس”، وقد ضحّى بنفسه في سبيل إنقاذ البقية، ويذكر “سكوت” في مذكراته أنّ “لورنس” في ذلك الصباح قال لهم قبل خروجه من الخيمة إنّه سيخرج ويقضي بعض الوقت في الخارج، وحينها اختفى ولم يعد مطلقا.
وفي يوم 29 مارس/آذار كان المستكشفون الباقون الثلاثة قد لقوا جميعهم حتفهم، وقد دوّن “سكوت” في مذكرته كلماته الأخيرة: لو كنّا على قيد الحياة، لكان لدي قصص كنت سأرويها عن صلابة وشجاعة زملائي، وإنها كانت لتلهم قلب كل رجل إنجليزي. على أيّة حال، فإنّ كلماتي هذه وجثثنا يجب أن تكون كفيلة بسرد حكايتنا، إننا سنستمر حتى النهاية، لكننا نزداد ضعفا بطبيعة الحال، ولا أرى أن النهاية ستكون بعيدة، ويبدو الأمر مؤسفا، ولكن لا أظن أنني أقوى على كتابة أكثر من ذلك.3
عُثِر على جثث الطاقم وعدتهم بعد عدّة أشهر، وكانت لمذكرات “سكوت” وصورهم الملتقطة أثر بليغ ما زال حاضرا حتى اليوم.
العصر الميكانيكي.. طائرات وأقمار صناعية ترسم تضاريس القارة
في السنوات اللاحقة لوصول المستكشفين، دخلت الطائرات في عمليات استكشاف القارة القطبية، وكان ذلك إيذانا بما يسمى “العصر الميكانيكي” في رحلات التنقيب، فقد ساهمت تلك البعثات في الكشف عن أجزاء كبيرة للقارة، وفي الحصول على خرائط أكثر تفصيلا، ثمّ ما لبثت أن أطلقت الأقمار الصناعية إلى الفضاء لتزود البشرية بخرائط شاملة مفصّلة لمعظم القارة.
وما هو جدير بالذكر أنه في عام 2018 نُشِرت أدق خريطة شمولية للقارة، وتعرف تلك الخريطة باسم “نموذج الارتفاع المرجعي للقارة القطبية الجنوبية” (REMA)، فقد استخدمت تقنية حديثة تعتمد على تجسيد الرسومات حاسوبيا بثلاثة أبعاد مستنبطة من بيانات الارتفاع والعلو (Digital Elevation Model). وبقياس الارتفاع والانخفاض في مختلف تضاريس القارة بواسطة الليزر المُرسَل من الأقمار الصناعية المتمركزة أعلى القارة، استطاع الباحثون تغطية 95% من مجمل القارة بتفاصيل على مستوى حجم سيارة وما أقل.4
وعلى إثر تلك الاكتشافات جاء تحديد معالم القارة جغرافيا، وتبلور مع مرور الوقت. ويقسّم الجغرافيون القارة إلى قسمين تفصل بينهما سلسلة الجبال العابرة للقارة القطبية الجنوبية “ترانس أنتاركتيكا”، وهي تربط بين بحري “ويدل” و”روس”.
ويهيمن الغطاء الجليدي على معظم القارة القطبية، وهو أكبر غطاء جليدي في العالم، ويُعد كذلك أكبر خزّان للمياه العذبة، ويبلغ متوسط سماكة الجليد نحو 1.6 كيلومتر على أقل تقدير، كما توجد بعض البحيرات الكبيرة المندثرة تحت الجليد بحالتها السائلة مثل بحيرة “فوستوك” الواقعة شرق القارة، وهي إحدى أكبر البحيرات في العالم، ويرى العلماء بأنّ مياه هذه البحيرة لم تر النور منذ حوالي 35 مليون سنة أو أكثر.
كما أنه في الحقيقة لا يبدو كلّ شيء متجمدا أو هادئا أسفل الغطاء الجليدي، فثمّة براكين نشطة في القارة المتجمّدة، كالبركان الموجود في جبل “إريبوس”، ويبلغ ارتفاعه نحو 4 كيلومترات، ويقع شرق القارة على حافة جرف روس الجليدي.5
“معاهدة أنتاركتيكا”.. تعاون دولي على الاستكشاف
لم تسفر بعثات الاستكشاف في مطلع القرن العشرين عن أيّ نيات استعمارية، ولم تحدث محاولات تملّك أراض حتى، وإنما كانت جميع الجهود المبذولة تصب في غايات موحدة ظاهريا، لكن على أعقاب الحرب العالمية الثانية، بدا جليا أنّ مطامع الاستعمار تتغلغل إلى النفوس، فعملية “الوثب العالي” (Operation Highjump) ضمن برنامج القارة القطبية الجنوبية التابع للبحرية الأمريكية بين عامي 1946-1947، كانت أحد الشواهد على ذلك.
فقد أرسلت الولايات المتحدة أسطولا بحريا هو الأكبر لديها، ويتألف من 4700 رجل و13 سفينة و33 طائرة، وكان غرض تلك العملية تدريب وتعزيز قدرة الجنود الأمريكيين على الحرب في ظروف قاسية، واختبار المعدّات والأسلحة في درجات حرارة متدنيّة، وكان من ضمن الأهداف تمكين السيادة الأمريكية وتوسيع رقعتها، لا سيما في المناطق الاستراتيجية البعيدة. وفي تلك الأثناء كان العدو السوفياتي يراقب عن كثب جميع تلك التحركات المقلقة، ويُقال إنّ تجارب نووية أُجريت قريبا من القارة، وهو ما لم تعلّق عليه المصادر الحكومية.
وظلّت الاضطرابات العسكرية والسياسية تأخذ وتيرة متصاعدة في ظلّ احتدام الصراع في الحرب الباردة، وكذلك نشوء خلافات بين عدّة دول كانت لها قواعد في القارة المتجمدة مثل بريطانيا وتشيلي والأرجنتين. وبعد بذل جهود مكثفة، أعلِن عن مشروع دولي في مجال البحث والتطوير العلمي، شاركت فيه 67 دولة من حول العالم في عام 1957، وأطلق على ذلك العام “السنة الجيوفيزيائية الدولية”.
لقد كانت نتائج ذلك التعاون مثمرة للغاية وهو ما دفع 12 دولة (الأرجنتين وأستراليا وبلجيكا وتشيلي وفرنسا واليابان ونيوزيلندا والنرويج وجنوب أفريقيا والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) إلى توقيع “معاهدة أنتاركتيكا” في مدينة واشنطن عام 1959، وقد دخلت حيّز التنفيذ بعد عامين، وما لبثت أن انضمت دول أخرى إلى المعاهدة، حتى بلغ عددهم اليوم 56 عضوا.
وتنص الاتفاقية على 5 بنود أساسية:6
- استخدام القارة القطبية الجنوبية للأغراض السلمية فقط.
- حرية البحث العلمي في القارة القطبية الجنوبية والتعاون لتحقيق هذه الغاية.
- مشاركة الملاحظات والنتائج العلمية وإتاحتها للجميع.
- لا تحق المطالبة بأي توسعات إقليمية وسيادية جديدة، والبقاء على ما هو في الوضع الراهن.
- ينبغي أن تكون جميع المناطق في القارة القطبية الجنوبية، بما في جميع المحطات والمنشآت والمعدات الموجودة داخل تلك المناطق مفتوحة في جميع الأوقات لعمليات التفتيش والمراقبة، لضمان سريان المعاهدة بالشكل الصحيح.
مستعمرات القارة القطبية.. ظروف عصيبة تواجه الباحثين
لا تشبه القارة القطبية المتجمّدة أي شيء آخر نألفه، ولربّما ظنّ زائرها بأن هذه الأرض لا تنتمي لكوكب الأرض، فالغطاء الجليدي يمتد امتداد البصر، وتنتشر الأنهار والوديان المتجمّدة ناصعة البياض، وينبثق منها اللون الرمادي لقمم الجبال الصخرية، ونور الشمس قلّ ما يسلك طريقه نحو اليابسة دون أن تعترضه الرياح الثلجية الموجودة بكثافة. ومهما كانت للإنسان تجارب عدّة في الحياة البرية، فإنّ القارة القطبية بما توفره من تجربة فريدة كفيلة بأن تغطّي على جميع التجارب السابقة.
ونظرا للظروف القاهرة والعصيبة فإنّ المستعمرات البشرية أو مراكز الأبحاث التي بُنيت لا تحمل ذات الصبغة الهندسية التي نألفها في المدن والمناطق ذات الأجواء المعتدلة، لذا يتعيّن على المهندسين المعماريين أن يأخذوا بعين الاعتبار عدّة عوامل، أهمها الثلوج المتراكمة باستمرار، والبرد القارس، والرياح الشديدة.
إضافة إلى ذلك يتمحور التركيز في التصميم الهندسي المبتكر على تحسين الظروف المعيشية للمقيمين في المحطات، وبطبيعة الحال يتضمن الأمر استشارة أطباء نفس متخصصين في الألوان، لخلق أجواء محاكية للواقع، ولتعويض أكثر من 100 يوم من الظلام الدامس كل عام، فالإضاءة ينبغي أن تكون طبيعية تحاكي ضوء النهار، لإبقاء إيقاع الساعة البيولوجية منتظما بشكله الصحيح، بالإضافة إلى أهمية استخدام المواد الصحيحة، لإضفاء روائح طبيعية تخفف قسوة البيئة الجامدة المعزولة.
هندسة مراكز الأبحاث.. ابتكارات تكسر المستحيل في قارة العلوم
ثمّة عدة مراكز أبحاث علمية بنيت على أسس مبتكرة تعالج المشاكل التي ذكرنا آنفا، ومنها محطة “أبحاث هالي” التي تتكوّن من 8 وحدات تحتوي على أرجل هيدروليكية ترفعها عن الأرض وتبقيها فوق الثلوج المتراكمة، كما توجد زلّاجات عملاقة ضمن الأرجل قابلة للسحب، مما يسمح بنقل الأبنية بشكل مستمر إذا حدث طارئ ما، ويمكن لهذه الوحدات أن تضم 52 باحثا في نفس الوقت.
ومن ضمن الترشيحات كذلك مركز “الأميرة إليزابيث” وهي أول قاعدة قطبية تجمع بين مواد صديقة للبيئة واستخدام الطاقة النظيفة، فهي بذلك تكون أول محطة أبحاث خالية من الانبعاثات المضرّة في القارة القطبية، فجميع الطاقة المستخدمة هي ناتجة عن طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وما يزيد الأمر إبهارا أنّ هذه المحطة لا تحتاج إلى تدفئة داخلية، لأنها لا تفقد الطاقة الحرارية الموجودة، وذلك بسبب الاستعانة المبتكرة بما يسمى “الهندسة المعمارية السلبية” (Passive Architecture).7
ويعد مركز “جانغ بوغو” للأبحاث إحدى المعجزات الهندسية، بالنظر إلى تصميمه الفريد المعتمد على درء وإخماد الرياح القطبية، باستخدام خصائص الديناميكا الهوائية، ويتألف المركز من 3 أجنحة متحدة في نقطة التقاء، وتبلغ مساحته الكلية 4 آلاف متر مربع، فيكون بذلك أحد أكبر المقرات البشرية في القارة.8
وتشتهر القارة القطبية بأنّها نقطة ساخنة للأبحاث والتجارب العلمية، ويُطلق عليها أحيانا قارة العلوم، كما أن عدد الأشخاص الذين يعملون في المجال العلمي يتراوح بين 4800 خلال موسم الصيف (من ديسمبر/ كانون الأول وحتى مارس/ آذار)، و1200 خلال الشتاء (من يونيو/ حزيران وحتى سبتمبر/ أيلول). ففيها يُجري العلماء عددا من التجارب في مجالات الفيزياء الذريّة وعلم الفلك ودراسة الأنظمة البيئية للأرض وقراءة السجلّات المناخية التاريخية وغيرها من العلوم الطبيعية.
واليوم لا يقتصر الذهاب إلى القارة القطبية الجنوبية على غرض البحث العلمي فحسب، بل إنّ شركات عالمية تفتح باب السياحة في جولة كاملة لإجراء عدد من الأنشطة المشوّقة لعشاق التحدي ومحبي روح التجربة، ومع أن القارة المتجمّدة لا تعدّ الوجهة السياحية المفضلة حول العالم، فإن الإقبال على شركات السياحة كبير وملفت.
المصادر:
[1] ويثرز، نيكي (التاريخ غير معروف). منذ متى أصبحت القارة القطبية الجنوبية متجمدة؟. الاسترداد من: https://www.sciencefocus.com/planet-earth/how-long-has-antarctica-been-frozen
[2] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). صفائح الجليد. الاسترداد من: https://www.nsf.gov/geo/opp/antarct/science/icesheet.jsp#:~:text=The%20essence%20of%20Antarctica%20is,97.6%20percent%20of%20the%20continent
[3] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). استكشاف القارة القطبية الجنوبية – جدول زمني. الاسترداد من: https://www.rmg.co.uk/stories/topics/history-antarctic-explorers
[4] إلكينس، كيل (2022). نموذج الارتفاع المرجعي للقارة القطبية الجنوبية. الاسترداد من: https://svs.gsfc.nasa.gov/4478/
[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). تشكّل جبل إيربوس. الاسترداد من: https://earthobservatory.nasa.gov/images/152134/erebus-breaks-through
[6] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). معاهدة القارة الجنوبية أنتارتيكا. الاسترداد من: https://www.ats.aq/e/antarctictreaty.html
[7] ليشر، كولين (2013). 5 مباني بحثية مذهلة في القطب الجنوبي. الاسترداد من: https://www.popsci.com/science/article/2013-07/5-arctic-research-buildings-thatll-shake-science/
[8] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). محطة أبحاث جانغ بوجو الكورية في القطب الجنوبي. الاسترداد من: https://hbarchitects.co.uk/jang-bogo-korean-antarctic-research-station/