“هل تثق باللقاحات؟”.. تاريخ طويل من الجرائم الطبية والتجارب الوحشية

حين اجتاح فيروس كورونا العالم في 2020، جلب معه مشكلة أخرى، وهي المعلومات المضلِّلة، فقد انتشر الوباء كالنار في الهشيم، ولكن وسائل التواصل أمطرتنا بوابل من الرسائل غزير، من قبيل: “لا تسمعوا لهذا الهراء”، و”الفيروس مجرد خدعة”، و”نحن لسنا فئران تجارب”.

وكانت هنالك أيضا رسائل منمقة، تعترف بوجود الفيروس، ولا تعارض اللقاحات صراحة، ولكنها تشيد بالبدائل الطبيعية، من قبيل استعمال أعشاب معينة. إنها حملات شرسة قادها مثقفون وفنانون ومؤثرون، حتى قبل توفير اللقاحات.

أما السود والملونون في القارتين الأمريكية والأوروبية، فقد كانت عقدة المؤامرة لديهم تستند لأحداث تاريخية مؤسفة، وهي تجارب طبية وحشية، تركت ندوبا غائرة في مجتمعات بأكملها، وتُستدعى اليوم لمعركة أخرى معاصرة.

عرضت الجزيرة الوثائقية على شاشتها فيلم “هل تثق باللقاحات؟”، ويصحبنا فيه منتج الفيلم “شاي رودس”، وهو بريطاني ذو أصول أفريقية، فينبش تاريخ التجارب الطبية القذرة، وأثرها على تفكير الناس اليوم في التعاطي مع الأوبئة واللقاحات.

عبيد توسكيغي.. فصول قذرة من تاريخ الطب الأمريكي

تقع ولاية ألاباما بأقصى جنوب الولايات المتحدة، وقد كانت مسرحا لإحدى أسوأ التجارب الطبية على البشر، ففيها مدينة توسكيغي الشهيرة بتاريخها العنصري المظلم، فهناك استُعبد عشرات آلاف الأفارقة للعمل في مزارع القطن.

حتى بعد تحريرهم عقب الحرب الأهلية 1865، عاشوا فقراء بعيدين عن المدارس والتعليم، ولا حقّ لهم في الانتخاب، مع نقص في الرعاية الصحية، وكانت كثير منهم مصابين بمرض الزُهري.

العبيد الأفارقة بمزارع القطن في توسكيغي

في عام 1932، قرر علماء أمريكيون إجراء دراسة طبية في توسكيغي، وجنّدوا لها 600 من السكان السود، بعضهم حامل للمرض، لكنهم أخبروهم بأنهم جميعا “لديهم دماء سيئة”، ولديهم الفرصة في العلاج والغذاء وتأمين الدفن المجاني، إذا خضعوا للدراسة.

هذه اللغة الحازمة البسيطة التي تحدثوا بها للخاضعين للتجربة، ليست هي اللغة التي تحدَّث بها الأطباء فيما بينهم. يقول أحدهم لرئيسه: في نهاية هذه الدراسة، ستكون لدينا حالات بمضاعفات مختلفة من المرض، من الذين لم يتلقوا سوى الزئبق، ولا يُعدون معالَجين بالمعنى الحديث للعلاج.

تجارب لقاح الزهري في بدايات القرن الـ20

يتحدث عمر نيل، وكان عمدة توسكيغي سابقا، وقد خضع عدد من ذويه للتجربة، فيقول: خضع عمي “فريدي” للدراسة، وكذلك عمي “روفوس” وابنه “روبين”، وكان عدد سكان المدينة يومها 3500 إنسان فقط، خضع 600 منهم للدراسة، وهو عدد كبير نسبيا.

الحرمان من البنسلين.. جريمة مخزية ترعاها الحكومة

بعد 15 عاما من الدراسة، وقبل 30 عاما من نهايتها، ظهر إنجاز طبي باهر؛ ألا وهو البنسلين، ذلك الدواء العجيب الذي عالج أمراضا كثيرة منها مرض الزهري.

وتكمن المأساة في أنه لم يسمح للخاضعين للدراسة بالاستفادة من هذا العلاج، حتى بعد أن أصبح في متناول الجميع.

وعندما انتهت الدراسة عام 1972، كان قد تُوفي 178 ممن خضعوا للتجربة، وأصيبت زوجات 40 منهم، وولد 29 طفلا مصابين بالمرض، كل هذا على مرأى ومسمع العلماء والأطباء الذين أجروا الدراسة.

البنسلين.. العلاج السحري

هذا ولم تقدم الحكومة اعتذارا إلا في 1997، في عهد الرئيس “بيل كلنتون”، فقد اعتذر اعتذارا رسميا قال فيه: ما فعلته حكومة الولايات المتحدة آنذاك كان مخزيا.

ألقت هذه التجربة بظلالها على زمن كورونا، فقد تزعزعت الثقة تماما بين السكان والحكومات المتعاقبة، وسيطرت على الناس فكرة الدونية السوداء والتفوق الأبيض. تلك الفكرة المسكوت عنها بين العموم، والتي صرخ بها عمر نيل بكل جرأة ووضوح.

عمليات بلا تخدير.. إعادة تأهيل المستعبَدات للولادة

على بعد 65 كيلومترا فقط من توسكيغي، كانت هنالك فضيحة طبية أخرى في مونتغمري، بطلها الدكتور “جيمس ماريون سيمز”، الذي بنى مجده على علاج أمراض النساء المستعبَدات، وحظي باعتراف عالمي.

فقد أنشأ في عام 1840 عيادة، ثم بنى في فنائها الخلفي مستشفى من الخشب، ليجري فيه عمليات تجريبية على النساء المستعبَدات.

كان نظام العبودية يقضي أن تلد المستعبدات أطفالا أصحاء، ليُستعبدوا ويستخدموا في أعمال الزراعة، وكانت عمليات الولادة المتكررة تُحدث تهتكات في جسد المرأة تسمى “الناسور المهبلي الحويصلي”، وكان يؤتى بهن لعيادة “سيمز”، من أجل “إصلاحهنّ” وإعادة تأهيلهن للحمل والولادة.

لوحة “أناركا”.. إحدى ضحايا الدكتور “سيمز”، خضعت لـ30 عملية جراحية دون موافقتها

كانت المستعبدات يُستخدمن متاعا، ولا يحق لهم إبداء رأيهن في قبول العملية أو رفضها، وكانت العمليات تجرى دون تخدير، ويقوم مساعدو الطبيب بتثبيت أيديهن وأرجلهن فقط، بدعوى أن السود “ليس لديهم إحساس بالألم”.

كانت  من أولئك النساء فتاة تدعى “أناركا”، وتبلغ من العمر 16 عاما، وقد خضعت لثلاثين عملية جراحية من هذا النوع، خلال 5 سنوات.

بنى “سيمز” شهرته الواسعة على هذا النوع من العمليات، وقد جرّب فيها كل أدواته على مريضات لا خيار لهن بالرفض، وأقيمت له النصب التذكارية في أنحاء البلاد، حتى جاء العام 2018، وبعد احتجاجات عارمة، أزيل أحد تماثيله في مدينة نيويورك.

وما تزال النساء الأفريقيات في ألاباما ينظرن بعين الريبة والشك لكل ما يصدر عن حكومة الولاية، أو الحكومة الفيدرالية، فيما يتعلق بالصحة العامة، نتيجة لما استقر في أذهانهن من ممارسات طبية لا تليق بالبشر، وهو موقف ينسحب على لقاح كورونا.

توعية لقاح كورونا.. حملة عفوية في محلات الحلاقة

عندما أصبح تطعيم كوفيد متاحا، انقسم الناس عرقيا بشأن قبول تلقي اللقاح. ففي إنجلترا مثلا استجاب أكثر من 80% من البيض لتلقي العلاج، في حين لم تتجاوز نسبة استجابة السود 30%.

وفي العاصمة الأمريكية واشنطن، كانت هنالك أفكار إبداعية لإقناع الأمريكيين الملونين بتلقى اللقاح، مع أن الماضي الأسود مترسخ في أذهانهم، وقد قاد الدكتور “ستيفن توماس” من جامعة ميريلاند حملة للتشجيع على أخذ اللقاح، مسرحها صالونات الحلاقة التي يتردد عليها الأمريكيون الأفارقة.

الدكتور “ستيفن توماس” قائد حملات إقناع السود والملونين بأخذ اللقاح

يقول “ستيفن”: بدأت الفكرة بصالون واحد، على أن يتلقى رواده اللقاح بعد تشجيع من العاملين في الصالون، من دون ضغط أي جهة رسمية، وقد نشرت الفكرة في أكثر من صالون، بعدها تلقيت مكالمة من البيت الأبيض يطلبون توسيع الفكرة، وها نحن أولاء اليوم نقدم التطعيم في أكثر من 1000 صالون حلاقة، لكن ما زال التردد موجودا، والشائعات كذلك.

وثائقيات التشكيك.. موجة عارمة من المعلومات المضللة

ثمة شكل آخر للتشكيك باللقاحات والتشجيع على رفضها، منها موجة الأفلام التي تظهر أنها وثائقية، والحق أنها أفلام دعائية، مولتها جماعات ضغط ضد تلقي اللقاحات.

ومن تلك الجماعات “منظمة الدفاع عن صحة الأطفال”، ويرأسها “روبرت كينيدي”، وهو ابن أخي الرئيس “جون كيندي”، وقد كان خطابه من خلال فيلم ساهم بإنتاجه، وهو موجه للسود، ويذكرهم بالممارسات الطبية الخاطئة ضدهم.

“روبرت كيندي” صاحب حملة العنصرية الطبية الدعائية

وقد تعقّبته إحدى هيئات مكافحة المعلومات المضللة. يقول رئيسها التنفيذي “عمران أحمد”: يرأس كينيدي منظمة حماية الأطفال، وهي منظمة خيرية معفاة من الضرائب، يجني من خلالها ربع مليون دولار سنويا، وقد أشرف على إنتاج أفلام موجهة للمجتمع الأسود في أمريكا، ويعيد سردية تجربة توسكيغي بتضخيم مشوه، ليستقر في أذهان السود أنها مؤامرة ضدهم.

ويقول د. “ستيفن”: لا بد من إعادة الحسابات والتفكير جديا في ما أوقعه هذا الوباء بمجتمعاتنا، لقد تعطلت مصالح كثيرة، وتوقفت عجلة الاقتصاد في كثير من القطاعات. علينا أن نلفظ الشائعات، ونتوقف عن ربط التاريخ السيئ بما يصيبنا من أحداث، وننظر قدما نحو المستقبل.

تجربة غاز الخردل الحارق على أجساد الهنود

لم تكن الانتهاكات الطبية مقصورة على الأمريكيين، فقد اقترف الأطباء والعلماء البريطانيون أسوأ من ذلك في أوج عهد الإمبراطورية، ففي 2007 كشفت وثائق سرية عن تجارب علمية عسكرية قام بها البريطانيون في الهند.

في 1916، طوّر معهد الأسلحة السرية البريطانية أسلحة كيميائية، لاستخدامها في الحرب العالمية الأولى، وقد لاحظ الرائد “سولت” أن حروق غاز الخردل التي تصيب موظفي المعهد في إنجلترا شديدة، وتستغرق وقتا طويلا للشفاء.

الحروق الناتجة عن استخدام غاز الخردل في التجارب على الهنود

فخطرت له فكرة أن يجربها على الأجناس المختلفة من سكان الهند الأصليين، ويرى أثر غاز الخردل على أجسادهم، والوقت اللازم للشفاء، ونال الموافقات اللازمة من المعهد للقيام بتلك التجارب.

اختفى اسم “سولت” من السجلات، لكن التجارب استمرت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي على أجساد الجنود من البريطانيين والهنود، ولم تظهر الصور المروعة للتجربة إلا بهذا القرن، فقد اعترفت الحكومة بأخطاء الماضي، ولكنها بررت ذلك بأن معايير الرعاية الاجتماعية يومئذ لم تكن كما هي عليه الآن.

“يحزنني أنه لا مساواة بين البشر”

في مدينة كامبالا عاصمة أوغندا، تروي الصحفية “ليديا نامبيرو” قصة حصلت لها شخصيا، ففي 1994 اتصل أطباء أمريكيون بعمها “يوشيا” الذي كان مصابا بالإيدز، وكانوا يجربون مركبا جديدا يمكن أن يساعده، وقد تحسنت حالته بعد العلاج، وغادر المستشفى.

العمّ “يوشيا” ضحية تجارب الأطباء الأمريكيين على علاج الإيدز

بعد عدة شهور، أخبره الأطباء بأن تجربتهم قد انتهت، وأنه إذا أراد العلاج مرة أخرى فعليه أن يدفع ثمنه، وبعد ذلك مرض وبدأت صحته بالانهيار بشكل مروع، ولأنه لم يكن باستطاعته شراء العلاج، فقد توفي بعد 3 سنوات.

تقول “ليديا”: يحزنني أنه لا مساواة بين البشر، ففي غرب الأطلسي يستطيع الناس أن يتعالجوا ويعيشوا حياة طبيعية، وهذا ما يحصل في كوفيد أيضا.

لقاح زائف لاغتيال أسامة بن لادن.. جريمة المخابرات

في 2011، انطلقت عملية “رمح نيبتون” للقبض على أسامة بن لادن، واستطاعت المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي أي” تحديد منزل في بلدة أبوت أباد في باكستان، وقد رجّحت أن بن لادن كان يسكنه مع عائلته، لكنها كانت بحاجة للمزيد من التأكد.

لذلك وضعوا خطة قوامها برنامج تطعيم متنقل مزيّف، وغرضه الوحيد جمع حمض الأطفال النووي في ذلك المنزل، ثم مقارنته بالبيانات التي لديهم عن حمض بن لادن.

كان سعيد شاه يعمل في صحيفة “غارديان”، وهو من كشف خيوط المؤامرة. ويقول: إنْ كان أناس قادرون على دخول ذلك المنزل من غير إثارة للشبهات، فهم الأطباء والممرضات بلا شك، وقد جُنّد الطبيب الباكستاني “شاكيل أفريدي” لذلك، ولم يكن لديه علم بالمؤامرة.

المنزل الذي اغتيل فيه أسامة بن لادن في باكستان

استخدم الأطباء لقاحا يتطلب الحقن، وكانوا يجمعون الدم الباقي على إبرة الحقن، ثم يحللون الحمض النووي، وقد استغرقت العملية بضعة أسابيع في كل أرجاء البلدة، وتبين أن بن لادن كان يعيش في ذلك المنزل مع زوجاته وأطفاله.

لاحقا، قُتل بن لادن في غارة، وكان أعظم نصر رأت أمريكا أنها حققته في القرن الـ21، وقد حُقق بلقاح زائف طبقته المخابرات الأمريكية على بلدة كاملة. أما الطبيب “أفريدي” فيقضي حكما بالسجن مدة 33 عاما، بتهمة التواطؤ مع الأمريكان.

دفعت زعزعة الثقة في برامج التطعيم “طالبان باكستان” لمنع تنظيم حملات لقاحات شلل الأطفال، وكان منتشرا في باكستان، واستهدفت الحركة القائمين على حملات تطعيم شلل الأطفال في باكستان، فقتلت العشرات منهم، وتلك نكسة كبيرة لجهود حملات التطعيم، وقد تكرر ذلك مع جائحة كوفيد، فكانت باكستان من أضعف الدول تفاعلا مع اللقاحات.

“خلايا هيلا”.. متاجرة بالمرضى في صرح جامعي عريق

ذهب منتج الفيلم “شاي رودس” إلى مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند، فالتقى بشخصية فريدة، هي “فيكتوريا بابتست”، لمناقشة موضوع هشاشة الثقة في الرعاية الصحية العامة.

“فيكتوريا” هي سليلة عائلة عانت كثيرا من فقدان الثقة الطبية، كما أنها متخصصة في الرعاية الطبية العامة، وتدير حملة لقاح كوفيد بمنطقتها، أما جدّتها “هنرييتا لاكس” فقد نشأت في مزعة للتبغ في كلوفر بولاية فرجينيا.

وقد التقى “رودس” مع “فيكتوريا” في مستشفى جامعة “جونز هوبكنز”، وهو المكان الذي طُوّر فيه أحد أهم الاكتشافات الطبية في القرن الـ20، ألا وهي سلسلة خلايا “هيلا”، التي لا تموت مباشرة بعد أخذها من جسم الإنسان، بل تبقى حية وتستنسخ نفسها، مما مكّن من إجراء التجارب، من دون حاجة إلى التجربة على أجساد البشر أنفسهم.

الجدّة “هنرييتا لاكس”.. سميت خلايا هيلا تخليدا لذكراها

وقد سمّيت هذه الخلايا “خلايا هيلا”، تخليدا لذكرى جدة فيكتوريا الكبرى، وكانت قد عملت في المستشفى عام 1951، ثم توفيت في ذلك العام بسرطان عنق الرحم.

لكنها لم تكن تعلم أن الخلايا التي أخذت من عنق رحمها، قد أصبحت سلعة يتداولها الأطباء من دون علمها ولا موافقتها.

وفي نفس اليوم الذي ماتت فيه الجدّة، أعلن مستشفى هوبكنز اكتشاف “الخلايا التي تستطيع العيش خارج جسم الإنسان”.

اليوم تعلن “فكتوريا” رسالتها أنها ليست ضد البحث العلمي، ولكن يجب أن يكون بالطريقة الصحيحة، ولا تريد أن تكون قصة جدتها مانعا من أخذ اللقاحات، ولا إجراء البحوث بالطرق الشرعية السليمة.

نعم، لقد واجه السود والملونون تاريخا مؤلما من التجارب الطبية المسيئة، وهذا ظلم تاريخي كبير، ولكنّ إعادة سرد هذا التاريخ السامّ المؤلم اليوم يعدّ ظلما كبيرا آخر، لا سيما في معرض التردد في أخذ اللقاحات.


إعلان