الجانب البعيد من القمر.. نظريات وألغاز في تاريخ مصباح السماء الكبير
لقد أثارت المزاعم الأمريكية كثيرا من الجدل حول زيف الصور القادمة من مسبار “لونا-3” الروسي بعد رحلة ناجحة سنة 1959، كانت هي الأولى من نوعها، إذ حلّق المسبار الفضائي فوق القمر من الجهة الأخرى التي لم تقع عليها أعيننا من قبل قط، فكان ما كشفت عنه الصور قد شكّل صدمة كبيرة، بسبب التباين الصارخ بين جانبي القمر كليهما؛ الجانب القريب المقابل لنا، والجانب البعيد الذي لا نراه.
كان الاختلاف في الصور بين الجانبين واضحا للغاية، فسهول اللافا التي تظهر على هيئة بقع معتمة تنتشر في الوجه المقابل للقمر، في حين يقلّ انتشارها في الوجه الآخر غير المرئي، كما أنّ الصور تظهر أنّ الجانب البعيد أكثر وعورة من الجانب القريب، وهو ما أشعل فتيل التساؤلات المتعددة.
ولم تقتصر رحلة لونا-3 على جلبها صورا للقمر فحسب، بل إنها فتحت الباب لطرح أحد أكثر الأسئلة جدليةً من ألغاز العلم الكبرى اليوم، وهو سر اختلاف الجانب البعيد من القمر عن الجانب القريب.
وفي فيلم “الجانب البعيد من القمر” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “ألغاز العلم الكبرى”، نتناول أشهر النظريات التي تفسّر ذلك الاختلاف، على لسان علماء وخبراء قضوا جلّ حياتهم في حلّ هذا اللغز العنيد.
عينات “أبوللو”.. اختلاف التركيب الكيميائي لواجهتي القمر
يعد من غرائب الأقمار في المجموعة الشمسية -ومنها قمرنا- أنّها تواجه الكواكب التي تدور حولها بجانب واحد، فينتج عن ذلك أنّ الجانب القريب يبقى قريبا دائما، والجانب البعيد يبقى بعيدا دائما. ويقول عالم الكواكب الأمريكي “بيل هارتمان” إن الروس في عام 1959 قد فاجأوا العالم بصور فريدة للجانب البعيد من القمر، وهو ما دفع الجميع للاستغراب مما في تلك الصور، لأنها لم تكن تشبه الجانب الأمامي من القمر بأيّ حال من الأحوال.
لقد دفعت تلك الصور إلى مزيد من الرحلات والتحريات خلال الأعوام القليلة التالية، للبحث عن سر ذلك الاختلاف، وكان كلّ اكتشاف جديد ترافقه حقيقة مثيرة تدفع إلى المزيد من التساؤلات عن ماضي القمر وتاريخه السحيق.
وفي نهاية ستينيات القرن الماضي، حطّت أوّل مركبة فضائية تحمل رائد فضاء على سطح القمر، ضمن “برنامج أبوللو الفضائي” في إنجاز تاريخي. ولم تكتفِ رحلات “أبوللو” إلى القمر بإجراء التجارب العلمية وجلب الصور فحسب، بل إن رواد الفضاء جلبوا معهم عينات قمرية، ساهمت في الكشف عن حقائق هامة عن القمر لاحقا.
ولدى عودتها إلى الأرض، جلبت رحلات “أبوللو” 382 كغم من الأتربة والحجارة والعينات من القمر، وتقول العالمة “جيس بارنز” من جامعة أريزونا -وهي من القلائل الذين يدرسون هذه العينات- إن هذه العينات تخضع لدراسة معمقة، لأن أساليب التحليل في تطور مستمر، وبذلك يستطيع العلماء الإجابة عن الأسئلة التي طُرحت في السابق، وأن تطرح أسئلة جديدة كذلك.
وقد كشفت دراسة الحجارة عن اختلاف جديد بين وجهي القمر، فهما يتكونان من مواد مختلفة، مما يشير إلى اختلاف في التركيب الكيميائي. وفي هذا الصدد تقول “جيس” إنهم عند دراستهم للتركيب الكيميائي للعينات التي جلبتها رحلات “أبوللو”، وجدوا بأنّ كثيرا من العينات غني بالبوتاسيوم النادر على الأرض والفوسفور وبعض العناصر المشعة.
ولأنّ هذه العينات جاءت جميعها من الجانب القريب من الأرض، فإنّ الباحثين قد اعتمدوا في مقارنتهم على دراسة عينات عشوائية من النيازك، للكشف عن هذا الاختلاف الإضافي.
دراسة حقل الجاذبية.. غموض يفتح أبوابا من التساؤلات
لقد دفع الغموض الذي يحوم حول الجانب البعيد من القمر إلى إرسال رحلات جديدة لدراسة حقل جاذبيته، وكان العالم “مارك ويتشورك” من مرصد “كوت دازور”، يترأس مهمة “غريل” (Grail) التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، لإنتاج أدق خريطة ممكنة لحقل جاذبية القمر، بعد أن أخفقت الرحلات السابقة في الحصول على إجابات مرضية.
ويدل حقل جاذبية القمر على كيفية توزيع الكتلة أسفل سطحه، وبذلك نستطيع معرفة ما يكمن تحت سطح القمر، ومدى سماكة قشرته كذلك. وكان العلماء قد أدركوا حينها أنّ الإجابة على أبرز التساؤلات التي تحوم حول القمر تكمن في دراسة حقل جاذبيته في المقام الأوّل.
وقد حلّق كلا المسبارين “إب” و”فلو” حول القمر، ومن خلال دراسة الاختلافات الدقيقة في المسافة التي تفصل بينهما، استطاع العلماء حساب التغيرات الموجودة في جاذبية القمر. وقد أحدثت النتائج زلزالا في المجتمع العلمي إذ تبيّن أن متوسط سماكة القشرة يناهز 30 كيلومترا في الجانب القريب من القمر، في حين تصل السماكة إلى 50 كيلومترا في الجانب البعيد.
نشأة القمر.. نبش في التاريخ السحيق لكشف الأسرار
إنّ ما تبع الكشف عن هذه الاختلافات في جانبي القمر، دفع العلماء إلى تعقب تاريخ نشأته ووضع الفرضيات المناسبة لحلّ جميع المعضلات، فأقيم حدث مهم في مطلع الثمانينيات، واتفق علماء الكواكب على عقد اجتماع للحديث عن نشأة القمر، فكان ذلك المؤتمر يوصف بأنه أحد أبرز المؤتمرات في تاريخ علم الكواكب.
ومع أن النظام الشمسي ذو أقمار كثيرة، فإن ما يميز قمر الأرض هو أنّ قطره كبير نسبيا، فهو يشكل ربع قطر الأرض، وهذه دلالة على أن تشكله حدث بطريقة غير اعتيادية. وكان التفسير الأبرز -الذي حظي بإجماع كبير- هو أنّ القمر قد تشكل بسبب تجمع الغبار والحطام الناجم عن اصطدام جسم عملاق بالأرض.
لكن هذه الفرضية كانت تفتقر إلى تفسير سبب وجود العناصر المشعة المكتشفة في عينات رحلات “أبوللو” في الجانب القريب من الأرض بشكل أكبر، ثم إنها لا تفسر سبب الاختلاف في السماكة، ولا تفسر مدى التباين واختلاف التضاريس في كلا الجانبين.
وبعد برهة من الزمن، ظهرت 3 نظريات أساسية، تتنافس اليوم فيما بينها، لحل هذه المعضلات وتفسير سبب وجود هذه الاختلافات، وقد انطلقت جميعا من فرضية الاصطدام العملاق، لكنها اختلفت حول ما وقع بعد ذلك وجعل القمر ذا وجهين مختلفين.
نظرية الحرارة.. حين كانت الأرض تلعب دور الشمس
يعرض الفيلم الوثائقي حديثا خاصا مع الباحث “مارك ويت شورك”، وهو صاحب النظرية الأولى التي تتناول اللحظات الأولى التي تلت الاصطدام الكبير مباشرة، فيقول إنه عندما تشكل القمر تحررت كميات كبيرة من الطاقة، وكانت الحرارة في القمر شديدة الارتفاع حينئذ، ومن المرجح أنّه كان في حالة انصهار كامل.
ثم أردف قائلا إنه إذا ما تبلور الجانب البعيد من القمر بمعدل أسرع من الجانب القريب لسبب ما، فإنّ قشرته ستتراكم بسرعة أكبر، وبذلك ستكون سماكة القشرة أكبر أيضا. وكانت الأرض حينها تمثل مصدرا للحرارة، إذ كانت تلعب دور الشمس، فتعمل على تسخين الجانب القريب من القمر.
علما بأنّ متوسط المسافة بين القمر والأرض تبلغ 384 ألف كيلومتر، ومهما كانت حرارة الأرض مرتفعة، فمن المحال أن تتسبب بتسخين سطح القمر على هذا النحو. ولكن ما تشير إليه المراصد الفضائية -التي تقيس المسافة باستمرار بين الأرض والقمر- هو أنّ القمر يبتعد عن الأرض بمعدل 3.78 سم سنويا، وربما تبدو المسافة ضئيلة، لكنها دليل كافٍ على أنّ نظام القمر والأرض كان مختلفا فيما مضى.
وقد أضاف العلماء بعض النقاط على هذه النظرية، فافترضوا أنّ الاصطدامات والنشاط الزلزالي ربما قد حطما القشرة بسهولة أكبر على الجانب القريب، وربما تسبب ذلك في زيادة النشاط البركاني على الجانب القريب، مشكلا سهول اللافا المعتمة التي نراها اليوم. في حين يقول المعترضون على هذه النظرية إن الحرارة التي تنطلق من الأرض، لا يمكن أن تتسبب بكلّ هذا التأثير مهما بلغ الأمر.
اصطدام آخر شديد.. سر المرتفعات على الجانب البعيد
بعد استعراض النظرية الأولى، يحلّق الفيلم الوثائقي إلى الجانب الآخر من الكوكب، ويسلك أحد المختصين الصينيين منهجية مغايرة لحل هذا اللغز. فلقد شرع عالم الحاسوب “مينغ هوا” باستخدام عمليات محاكاة حاسوبية معقدة منذ خمس سنوات للإجابة عن تلك التساؤلات.
وقد أظهرت التحليلات الرياضية أنّه في الماضي السحيق ربما حدث اصطدام آخر على سطح القمر، ويرى العالم “مينغ” بأنه إذا كان الجانب القريب من القمر قد تعرض لاصطدام، فمن المحتمل بأنّ كميات كبيرة من الحطام قد انتقلت وتجمعت في الجانب البعيد.
تفسّر هذه النظرية سر وجود المرتفعات في الجانب البعيد على نقيض ما هو في الجانب القريب ذي التضاريس الوعرة، كما أنّ الطاقة الناتجة من هذا الارتطام أدت إلى انصهار الجانب القريب وإتلافه، ومن هنا جاءت مكوناته الكيميائية الفريدة المشعة.
ويرى المعترضون على هذه النظرية بأنّه لا توجد آثار لمثل هذا الارتطام إن كان قد وقع حقا، هذا بالإضافة إلى أنّ الاصطدام لو حدث في وقت مبكر حينما كان القمر منصهرا، فلا يوجد سبب مقنع لحدوث اختلاف في انتشار الكتلة على هذا النحو.
اصطدام القمرين.. نظرية العناق الهادئ حول الأرض
يرى واضع النظرية الثالثة عالم الكواكب “إريك أسفاوغ” أن نظريته تقدم أفضل الإجابات لحلّ لغز الجانب البعيد، ويعرب عن طبيعة عمله بأنّه يتبع منهجية علمية، تقتضي البحث عن مكامن الخلل والنقص في الحلول التي طرحها العلماء بما يتعلق بالقمر، وهذا ما لا يجعله محبوبا بالضرورة ضمن شريحة واسعة من العلماء، على حد تعبيره.
ويرى أنّ قضية الجانب البعيد من القمر كالسهل الممتنع، متناولا اللغز من زاوية مختلفة، لذا فقد درس “إريك” نمط الارتطامات التي تحدث على نطاق أصغر بكثير، مشيرا إلى أنّ من نتائج الاصطدام العملاق الذي ضرب الأرض، أنّه لم يخلّف فقط القمر، بل شكّل قرصا آخر كان يدور حول الأرض أيضا، ثمّ طرح سؤاله ماذا لو كان هناك قمران بدلا من قمر واحد؟
يرى “إريك” أنّ الاصطدام العملاق نتج عنه قمران اثنان، وكانا يدوران معا حول الأرض، فبدأ النظام بالاضطراب، بسبب دوران قمرين حول الأرض في مدار واحد، لذا كان ارتطامهما حتميا.
وتعد الطبيعة الفريدة لهذا الارتطام هي الأساس في النظرية، إذ يشير “إريك” إلى أنّ فكرة تصادم الكواكب ليست جديدة، فقد ساد التفكير منذ قرون أنّ بعض الكواكب ترتطم ببعضها، لتتشكل كواكب أكبر حجما، وأحيانا يدمر بعضها بعضا ويتناثر حطامها في كل مكان، ويرى “إريك” أن الارتطام الذي حدث هنا كان بطيئا، لأنه عند حدوثه لم يُدمَّر الجسمان كلاهما، بل اندمجا معا.
وأردف قائلا إنّ معظم الارتطامات في المجموعة الشمسية تقع في سرعات كبيرة، إذ تدور الأرض حول الشمس بسرعة 30 كيلومترا في الثانية، ولا تقل سرعة الارتطام الاعتيادية عن 20 كيلومترا في الثانية، لكن الحديث هنا عن جسمين عالقين في مدار حول الأرض، وهذا يقيد سرعة الارتطام، كما يحدث بين سيارتين تتسابقان في مضمار مغلق وترتطمان ببعضهما، فيكون الارتطام بطيئا.
ووفقا لنظريته، فإنّ القمرين اقتربا من بعضهما بسرعة لا تتجاوز 2,5 كلم في الثانية قبل أن يتصادما، ونتيجة لهذا التصادم البطيء تناثر الحطام من الجانب القريب إلى الجانب البعيد.
لكن المعترضين على هذه النظرية قالوا إن وجود قمرين في هذه النظرية يمثل عيوبا كثيرة؛ منها أنهم يقترحون تطابقا كاملا في التركيب بين القمرين، وهذا لا يبدو معقولا، وعيب آخر يتمثل في إمكانية وجود قمرين اثنين في مدار واحد في الأساس.
تركيبة القمر.. كنز يختزن ملايين السنين من التاريخ
إنّ جميع النظريات الثلاث التي تناولها الفيلم الوثائقي مطروحة للنقاش منذ سنوات عدة، ولم ينتصر أيّ منها بعد، وما زال لغز الجانبين الغامض يستقطب علماء القمر من كل مكان، لأن دراسة تاريخ ونشأة القمر تقدم معلومات ثمينة عن شيء أكبر من ذلك بكثير.
وتقول العالمة “جيس” إنّ علماء الكواكب والجيولوجيين يرون أنفسهم محققين، فيحاولون جمع الأدلة من حولهم لتشكيل تاريخ النظام الشمسي، فالجانب البعيد من القمر لغز يبحث عن حل، ولذلك ينظر العلماء إلى القمر بوصفه مسرحا للجريمة، والنتيجة النهائية ماثلة أمام الجميع، لكن العلماء ما زالوا يجهلون السبب، لذا يحلل العلماء الحجارة كما يحلل المحققون الحمض النووي أو بصمات الأصابع.
وما يميز القمر عن الأرض هو أنّه ليس ذا صفائح تكتونية، فهي المسؤول الأول عن تدمير الحجارة والبنية القديمة التي نشأت مع نشأة الأرض، أما القمر فما زال يحتفظ بتركيبته الأساسية القديمة في سطحه، وذلك كنز عظيم بين أيدي العلماء، أشبه بكبسولة زمنية ستقود الجميع إلى ملايين السنوات من الماضي.
ويعرج الفيلم الوثائقي على مشاريع الفضاء القادمة لإرسال الإنسان إلى القمر مرة أخرى، وهو ما سيمثل نقطة انطلاق نحو المستقبل لحل لغز دنا أجله، لا سيما أن رحلة “أرتميس” القادمة في مراحل تجهيزاتها الأخيرة للرسو على سطح القمر، وجلب عينات من الجانب البعيد، للإجابة على أحد ألغاز العلم الكبرى.