الإنترنت البحري.. أسلاك تتحكم بالإنترنت العالمي
في السادس من أغسطس/ آب 2023، وقع انهيار أرضي تحت سطح البحر في وادي الكونغو الواقع عند مصب نهر الكونغو الفاصل بين أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، فأدى لتدمير اثنين من أهم الأسلاك البحرية التي تقدم خدمة الإنترنت لقارة أفريقيا، وأدت المشكلة إلى قطع الإنترنت على طول الساحل الغربي للقارة السمراء.
ولا تعد تلك أول كارثة تقنية من هذا النوع، فقد وقعت في العالم العربي حوادث شبيهة، ومن حين لآخر تصبح خدمة الإنترنت أبطأ أو ربما تنقطع، ونقرأ في الأخبار عن انقطاع سلك إنترنت بحري، أو نقل الإنترنت على سلك احتياطي إلى حين إصلاحه.
نحن نظن أن الإنترنت في العالم لم يعُد سلكيا، لأننا نستخدم الإنترنت بخدمة الواي فاي، لكن ذلك غير صحيح، بل إن 99% من حركة الإنترنت عالميا تقع بالأسلاك البحرية، والأمر لا يتعلق فقط بامتلاكك القدرة على مشاهدة المسلسل الذي تحب أو متابعة وسائل التواصل، أو حجز طائرة للسفر إلى دولة آسيوية، بل هو أعمق من ذلك، ويرتبط باقتصاد دول بأكملها يعمل بشكل يومي عبر التواصل مع الطائرات وسفن البضائع القادمة أو المسافرة.
ويكفيك أن تعرف أنه بسبب هذه الأسلاك، تتحرك رواتب مقدارها حوالي 9-10 مليارات دولار بين دول مختلفة، هذه الأسلاك هي شريان الاقتصاد العالمي المعاصر. وفي تلك النقطة لا بد أن تتساءل: ما هي هذه الأسلاك التي تتحكم في حياتنا إلى هذا الحد؟
أسلاك الاتصالات البحرية بين ضفاف الأطلسي.. ثورة التلغراف الكبرى
مثّل عام 1839 فتحا في تاريخ البشرية مع الاتصالات، فقد استطاع المخترع البريطاني السير “ويليام فوثرجيل كوك” والعالم البريطاني السير “تشارلز ويتستون”؛ تشغيل أول تلغراف كهربائي في العالم، وهو أحد أقدم أشكال الاتصال لمسافات طويلة باستخدام الإشارات الكهربائية، وكانت ثورة حقيقية في ذلك الوقت، أن تبعث رسالة لشخص يبعد عنك عددا من الكيلومترات.
ومع نمو الصناعة في عالم ما بعد الثورة الصناعية، كانت هناك حاجة لنقل الرسائل، ليس فقط داخل الدولة بل عبر الدول المختلفة، ولذلك فإن اللحظة التي نشأ فيها التلغراف هي نفسها اللحظة التي نشأت فيها فكرة نقل الإشارات التلغرافية عبر البحر.
وكانت أهم وأنجح محاولة في ذلك النطاق في عام 1851، حين قامت “شركة جون واتكينز بريت لمد خطوط التلغراف في القناة الإنجليزية” بمد أول خط اتصالات رسمي تحت الماء، أسفل القناة الإنجليزية بين فرنسا وإنجلترا، عن طريق سفينة وضع عليها السلك، ومضت في القناة بين الدولتين لإسقاطه في البحر، وبحلول عام 1853، مُدَّت أسلاك أخرى ربطت بريطانيا بدول أخرى، منها أيرلندا وبلجيكا وهولندا والدنمارك.
وقد واجهت هذه الأسلاك بلا شك انقطاعات كثيرة، بسبب العواصف وحركات المد والجزر والرمال وتآكل الصخور، لكن التقارير الهندسية -التي حاولت فهم حالات القطع تلك- ساعدت في تحسين جودة خطوط الاتصالات، حتى طورت الأمر من مستوى “تحت البحر” لمستوى “تحت المحيط”.
جاء ذلك على يدي المهندس البريطاني “فريدرك نيوتن جيسبورن”، فقد مد سلكا بحريا من نيويورك في الولايات المتحدة إلى نيوفاوندلاند في كندا، ولجأ بعد ذلك إلى رجل الأعمال الأمريكي الثري “سايروس ويست فيلد”، لبناء مشروع طموح، وهو سلك بحري عابر للمحيط الأطلسي، يخرج من نيوفاوندلاند ويصل إلى إيرلندا.
وقد زودت الحكومة البريطانية هذا الفريق بسفينة “إتش إم إس أغاميمنون”، وكانت إحدى أكبر السفن في البحرية الملكية، كما زودتهم الحكومة الأمريكية بالسفينة “نياغرا”، وعُدّلت السفينتان خصيصا بحيث تستطيع كل منهما مد نصف السلك إلى نصف المسافة، وفي 17 يوليو/ تموز 1858، وبعد 3 محاولات فاشلة، التقت السفينتان في منتصف المحيط، ورُبط السلكان. وفي 16 أغسطس/ آب 1858، وصلت رسالة من الملكة فيكتوريا إلى الرئيس “جيمس بوكانان” في أمريكا الشمالية عبر السلك البحري، على مسافة حوالي 4600 كيلومتر.
كانت الأسلاك البحرية ذات فائدة اقتصادية وسياسية كبرى لدى البريطانيين في تلك الفترة، سواء للتواصل بين المستعمرات والإدارة لحاكمة في بريطانيا، أو للتواصل بين التجار لتوجيه الرحلات البحرية المحملة بالبضائع من كل مكان في العالم. ولهذه الأسباب وبحلول بداية القرن العشرين، كانت الأسلاك قد سافرت عبر المحيط، ووصلت إلى أستراليا ونيوزيلندا وفيجي واليابان والهند وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول.
جيل الألياف الضوئية.. لغة من الضوء تحمل كمية هائلة من المعلومات
ما زالت الأسلاك توضع في المحيط بطرق شبيهة عبر سفن متخصصة، مع عوامل أمان إضافية بطبيعة الحال، وآليات تسهل وصول غواصي الإصلاح لمناطق الأعطال على طول السلك، كما أن الأسلاك باتت تدفن أسفل الشواطئ في مجرى مجهز، خشية أن تتأثر بحركة القوارب والبشر والكائنات البحرية.
وقد كانت الأسلاك الأولى بسيطة؛ عبارة عن سلك نحاسي لتمرير الإشارات الكهربية، مغلف بما سمي وقتها مادة العصر العجيبة، وهي مستحلب مأخوذ من شجرة الطَبْرَخِيّ أو “الكوتابركا”، وهي نوع من الأشجار الاستوائية التي تنمو في جنوب شرق آسيا وشمال أستراليا، وذلك لعزل النحاس عن الماء. وكانت المادة كانت غير قابلة للتلف، ولها خصائص تشبه المطاط، وتستطيع مقاومة التآكل.
وفي ثمانينيات القرن الفائت، ظهر جيل الأسلاك الجديد المكون من الألياف الضوئية. وتشبه الألياف الضوئية خيوطا صغيرة بحجم قطعة رقيقة جدا من السباغيتي، مصنوعة من الزجاج أو البلاستيك، وهي قادرة على حمل المعلومات باستخدام الضوء، وفكرتها يسيرة، فتخيل مثلا أنك تمسك بمصباح يدوي صغير، وتقف على مسافة بعيدة من صديقك الذي يمسك مصباحا شبيها، وتومضان لبعضكما بطريقة يفهم كل منكما خلالها ما يقصد الآخر.
هذه بشكل مبسط، هي الطريقة التي تنتقل بها البيانات عبر الألياف الضوئية، وهي تصمم بطريقة تجعل الضوء الداخل إليها ينعكس عن سطحها الداخلي في شكل متعرج (زقزاق)، يبدو الأمر كأنك ترمي كرة على الحائط، فترتد مرة أخرى.
نعرف أن الضوء يجري في الفراغ بسرعة تساوي حوالي 300 ألف كيلومتر في الثانية، وفي الألياف الضوئية يسافر بسرعة أقل بمقدار الثلث (حوالي 200 ألف كيلومتر في الثانية)، لكنها تظل أسرع بعشرات الأضعاف من الأسلاك النحاسية، أضف لذلك أنه يمكن للألياف الضوئية أن تحمل كمية هائلة من المعلومات، يشبه الأمر وجود طريق سريع للبيانات، حيث يمكن لعدد من السيارات (أو في هذه الحالة أشعة الضوء) السفر في نفس الوقت، ثم لا تتعثر في حركة المرور.
ثورة نقل البيانات.. أسلاك عالية الخدمة تربط أرجاء الكوكب
نظرا لأن الألياف الضوئية تستخدم الضوء، فإنها لا تتأثر بسهولة بأشياء مثل التداخل الكهربائي أو موجات الراديو، وهذا يجعل إشارة الاتصال أكثر وضوحا وأكثر موثوقية، ويمكن للإشارات أن تنتقل مسافات طويلة جدا دون أن تفقد كثيرا من القوة أو الجودة، أضف إلى ذلك أنه من الصعب الاستفادة من المعلومات التي تنتقل عبر الألياف الضوئية أو اعتراضها مقارنة بالأسلاك التقليدية، مما يجعلها أكثر أمانا لنقل البيانات الحساسة.
وباختصار، تشبه الألياف الضوئية البطل الخارق (سوبرمان) مقابل أسلاك الاتصالات التقليدية. وكان “تات-8” أول سلك ألياف ضوئية يمر عبر المحيط الأطلسي، وقد حمل البيانات بسعة 280 ميغابايت/ ثانية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا في عام 1989، أما في عام 2020 فقد أعلنت شركة غوغل تشغيل سلك جديد بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسبانيا بسعة 352 تيرابايت/ ثانية، أي ما يساوي أكثر من مليون ضعف السعة.
ومنذ أوائل عام 2023، أصبح هنالك ما يقرب من 1.4 مليون كيلومتر من الأسلاك البحرية التي تخدم الاتصالات على مستوى العالم، وبعضها قصير جدا، مثل سلك “سيلتكس كونيكت” الذي يبلغ طوله 131 كيلومترا فقط، ويصل بين أيرلندا والمملكة المتحدة، وفي المقابل، هناك أسلاك أخرى طويلة جدا، منها سلك “بوابة آسيا وأمريكا” الذي يبلغ طوله 20 ألف كيلومتر.
وفي مايو/ أيار 2020، تعاونت مجموعة من شركات الاتصالات منها “تشاينا موبايل إنترناشونال” و”ميتا” و”أورانج” و”فودافون” لبناء سلك جديد سمي “تو أفريكا” (2Africa)، ويبلغ طوله 45 ألف كيلومتر، وسيبدأ من غربي أوروبا ثم ينزل ويدور حول كامل ساحل قارة أفريقيا، ثم يتفرع قبالة السواحل الصومالية ليمر جانب منه للخليج العربي، وجانب آخر يمر عبر البحر الأحمر وصولا إلى البحر المتوسط كاملا، وسيفتح ذلك الباب لمزيد من التعاون الاقتصادي بين الدول التي يمر بها وتستفيد من خدماته.
بطش الإنسان والطبيعة.. أخطار تهدد شرايين الاتصالات الحديثة
في كل مكان تمتد فيه أوردة وشرايين الاتصالات الحديثة تحت البحار، فإن ذلك يعني تواصلا اقتصاديا وسياسيا كبيرا، ولكنه يفتح الباب للتساؤل عن درجات الأمان التي تحظى بها تلك الأسلاك، فهناك أخطار طبيعية، منها ثوران البراكين والزلازل أسفل المحيط، وهناك تهديدات بشرية تتعلق بالمعدات مثل شبكات الجرافات وأجهزة صيد الأسماك، أضف لذلك أن هناك هواجس جديدة من أن تصبح الأسلاك عرضة للتدمير والحرب السيبرانية من قبل بعض الدول والجماعات.
وعلى سبيل المثال، أطلق حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي قبل مدة فرقة عمل مشتركة لحماية البنية التحتية الحيوية المعرضة للتخريب، مثل أسلاك الإنترنت وخطوط الغاز، وصارت الهجمات الهجينة والإلكترونية تؤدي إلى تفعيل المادة 5 بشأن الدفاع الجماعي عن النفس، وتُعرّف على أنها هجوم مسلح ضد الناتو.
هذا ليس جديدا بالمناسبة، فعند اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان لدى بريطانيا نظام أسلاك تلغراف يساعدها على التواصل مع مناطق متفرقة حول العالم، ونتيجة لذلك استطاعت تنظيم المعارك، وسرعان ما توصل البريطانيون إلى أن قطع الأسلاك الألمانية تحت الماء كان وسيلة ممتازة لحرمان العدو من التواصل خلال وقت قريب من الوقت الفعلي. وفي هذا السياق استغلت بريطانيا هيمنتها على البنية التحتية الدولية للتلغراف، لمراقبة الاتصالات.
إنترنت الأقمار الصناعية.. تكلفة ضخمة تهددها عواصف الشمس
تأتي المخاوف الحالية المتعلقة بأسلاك الإنترنت في سياقين مهمين، الأول يتعلق بأن القوانين التي تحكم الأسلاك البحرية دوليا محدودة في تطبيقها، وما زالت بدائية بعض الشيء، والثاني أن هناك توترا دوليا واضحا بين روسيا على سبيل المثال وحلف الناتو، وكذلك بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وفي سياق قيام أي حرب بين هذه الأطراف فإن أسلاك الاتصالات التي تمد مليارات البشر بالإنترنت ستكون معرضة لضربة من هنا أو هناك.
وفي تلك النقطة قد تظن أن الحل بات قريبا، لأن الأسلاك التي تجري تحت البحار والمحيطات ستستبدل بالإنترنت غير السلكي من الأقمار الصناعية من مشروعات مثل “ستار لينك” الذي يديره “إيلون ماسك”، لكن ذلك غير ممكن حاليا وربما مستقبلا حتى، فأسلاك الإنترنت قادرة على نقل كميات كبيرة من البيانات بسرعات هائلة، وهي فعالة من حيث التكلفة، فمع أن تكلفة إنتاجها وتشغيلها المرة الأولى مكلفة، فإنها بعد ذلك تنخفض بشكل جذري.
وعلى الجانب الآخر، تتطلب الأقمار الصناعية عملا كثيرا وإنفاقا كبيرا طوال الوقت، كما أنها تكلف أكثر في حالة حركة البيانات ذات الحجم الكبير، وهي عرضة للتلف بسبب التوهجات الشمسية. وعلى سبيل المثال، أعلنت شركة “ستارلينك” في فبراير/ شباط 2022 عن سقوط أكثر من 40 قمرا صناعيا من مدارها في الفضاء إلى الأرض، وذلك بعد 5 أيام فقط من إطلاقها، بسبب عاصفة جيومغناطيسية قوية ارتبطت بانفجار هائل على سطح الشمس.
ولهذا السبب يرى الخبراء أن الإنترنت الفضائي وذلك القادم من الأسلاك البحرية سيعملان جنبا إلى جنب وباختصاصات متمايزة، مع ميل الكفة الأساسية ناحية أسلاك الاتصالات التي تجري أسفل البحار والمحيطات.
المصادر
1- Dual Subsea Cable Cuts Disrupt African Internet
https://www.kentik.com/blog/dual-subsea-cable-cuts-disrupt-african-internet/
2- Submarine Cable History
https://www.submarinecablesystems.com/history
3- At the bottom of the sea: a short history of submarine cables
https://blog.apnic.net/2020/02/12/at-the-bottom-of-the-sea-a-short-history-of-submarine-cables/
4- Fiber optics
https://www.explainthatstuff.com/fiberoptics.html
5- خارطة كابلات العالم المعاصر كلها
https://www.submarinecablemap.com/
6- Submarine Cable 101
https://www2.telegeography.com/submarine-cable-faqs-frequently-asked-questions
7- 2Africa Cable
https://www.2africacable.net/updates
8- Announcing the Grace Hopper subsea cable, linking the U.S., U.K. and Spain
9- The Most Vulnerable Place on the Internet
https://www.wired.co.uk/article/submarine-internet-cables-egypt
10- Are Laws Regulating Subsea Cables Outdated?
https://subtelforum.com/stf-mag-feature-are-laws-regulating-subsea-cables-outdated/
11- Satellite internet services like Elon Musk’s Starlink won’t make giant undersea cables extinct, experts say
12- Forget Nuclear Weapons, Cutting Undersea Cables Could Decisively End A War
13- Russia Developing Weapons to Target Critical Subsea Cables, Pipelines
14- Submarine Cable vs Satellite: Which is the Better Option for Internet Connectivity
15- Why submarine cable, why not satellite?
https://orhanergun.net/why-submarine-cable-why-not-satellite