الحليب الكوني.. هكذا يبدو لون الكون الذي يرصده العلماء
إنّ رؤية السماء في ليلة صافية، لتظهرها في عباءة شديدة السواد ترصعها بنجوم متناثرة، فيتبادر لذهن الرائي أنّ هذا الكون ليس إلا سقفا من الظلام الأبدي، فيحكم بنفسه على لون الكون، ولربّما أساء التقدير حينما قدّر أنّه اللون الأسود، وهو ليس كذلك. فما نراه في الحقيقة هو الظلام، والظلام ليس إلا نتيجة غياب الضوء.
وللإجابة على حقيقة متوسط لون الكون، فإنّ هناك عددا من المنعرجات والمنعطفات للوصول إلى الإجابة الصحيحة.
“يوهانس كبلر”.. تساؤل فلكي كبير بين بساتين الربيع
بينما كان عالم الفلك الألماني “يوهانس كبلر” يسير متأنيا في أحد البساتين المشجرة، يختلس النظر عاليا، أخذت أغصان الأشجار الكثيفة تهتز لهبوب الرياح، ولأنّه كان موسم الربيع، فإنّ الأغصان قد اكتست بغطاء كثيف من الأوراق، فحجبت جزءا من مشهد السماء المعتمة.
وكلّما كان يغوص أكثر فأكثر إلى وسط البستان، كانت الأشجار تزداد كثافة وسماكة، حتّى وصل إلى نقطة لم يعد يرى فيها أثرا للسماء، فوجد أنّ الأغصان قد أحاطت به من كلّ حدب وصوب، وحينها فقط تراجعت خطواته إلى الوراء وعاد أدراجه من حيث قدم.
لقد كان “كبلر” ذكيا بما فيه الكفاية ليضع إسقاطاته الفلكية مباشرة لما رآه، فقال مشبها النجوم بالأشجار، إنّه لطالما كان عدد النجوم لا نهائيا في الكون، فمن المنطقي أن تحجب هذه النجوم رؤية خلفية السماء المظلمة، فأينما يرمي المرء ببصره في السماء، سيجد نجمة ما على اتساع مجال رؤيته، وهذا يعني أنّ السماء ستكون كلّها مشرقة وتنبعث منها الحرارة على مدار اليوم، وهو ما لا يحدث بطبيعة الحال، فما المشكلة؟
“مفارقة أولبرز”.. لماذا تكون ليالي السماء مظلمة؟
لقد طرح “كبلر” تساؤله في الأوساط العلمية أوّل مرّة في عام 1610، وأعطى تعليلا عن كون السماء مظلمة ليلا مع أنها ملأى بالنجوم، قائلا إن الكون الذي يحتوي على النجوم في الأصل محدود الحجم عند حد معيّن، وخلف هذه الحدود فراغ معتم، ولهذا تظهر النجوم بقعا مضيئة في عباءة ظلماء.
وفي عام 1823، أعاد الفلكي الألماني “هاينريش أولبرز” صياغة التساؤل، فوضعه في إطار معضلة فلكية، فتساءل: لمَ لا يكون الليل مضيئا مع أن الكون لا نهائي ومليء بالنجوم؟ وتُعرف هذه المعضلة بمفارقة “أولبرز”.
مثّلت هذه المفارقة الفلكية تحديا لعلماء الفلك حينذاك، وطُرحت عدّة إجابات بائسة لترتد خائبة على أصحابها، وفي حدث غير متوقع، وصلت أولى الإجابات المقنعة من شخصية أدبية عظيمة بعيدة كلّ البعد عن المجال العلمي والفيزيائي، وهو الشاعر والكاتب الأمريكي “إدغار آلان بو” في عام 1848، حينما قال إنّ ثمّة حدا للكون، وهو حد الزمن، فعمر الكون ليس كبيرا بما يكفي لكي ينتقل الضوء في كلّ ركن فيه.
وفي مطلع القرن العشرين ومع تطوّر الأدوات الفلكية، خلص العلماء إلى تقديرات جيدة حول عمر الكون البالغ ما بين 12-15 مليار سنة، وفقا لما رصدته التلسكوبات لأكبر المجرّات عمرا. وهذا يعني أنّنا لا نرى سوى الضوء الذي انبعث من النجوم خلال هذه المدّة الزمنية فحسب، وربّما يكون هناك عدد من النجوم التي لا حصر لها خلف هذا الحد الكوني، لكننا لا نراها بحكم سرعة الضوء المحدودة.1
الأشعة الكهرومغناطيسية.. موجات ترسلها النجوم إلى عيوننا
ترسل النجوم والمجرات موجات مختلفة من الأشعة الكهرومغناطيسية، وهي تنقسم إلى مجموعات مختلفة بناء على طول الموجات المنبعثة، ابتداءً من أشعة غاما ذات الطول الموجي الأقصر، فالأشعة السينية، فالأشعة فوق البنفسجية، فالأشعة المرئية، فالأشعة تحت الحمراء، وآخرها موجات الراديو ذات الطول الموجي الأطول.
ويمثّل الضوء المرئي جزءا صغيرا من الطيف الكهرومغناطيسي من حيث نطاق الأطوال الموجية، لكنه الجزء الوحيد الذي تراه عين الإنسان، وهو الجزء الوحيد الذي يفسّر كلّ شيء تسقط عليه أعيننا.
وما ندركه من اختلاف في الألوان إنما هو في حقيقته اختلاف في الأطوال الموجية من الضوء المرئي؛ فاللون الأحمر والبرتقالي لهما أطوال موجية طويلة، والأزرق والبنفسجي لهما أطوال موجية قصيرة، وبينهما يقبع عدد لا نهائي من الألوان المختلفة التي لها أطوال موجية شتى كذلك.
أعمار النجوم.. أسرار ضوئية تكشف خبايا الكون
يمكن أن نعرف متوسط لون النجم أو المجرة، بمعرفة الأطوال الموجية المرئية التي تنطلق من المجرات والنجوم البعيدة. وفي عام 2002، أُجريت أكبر عملية مسح وإحصاء على الإطلاق للمجرات، وتُعرف بدراسة “مسح الانزياح المجري نحو الأحمر للمجال ذي الدرجتين”، وقد أجراها المرصد الأسترالي.
استغرقت العملية أكثر من عام لمسح وقياس 245,591 جرما سماويا، معظمها من المجرات، وقد حددت الدراسة بنية واسعة النطاق في مقطع واحد من الكون المرصود، وبالجمع بين أطياف كلّ هذه المجرات، استطاع القائمون على الدراسة إنشاء طيف ضوئي مرئي موحد يمثل الكون المرصود برمته، وأطلقوا عليه اسم “الطيف الكوني”.
ويمثل هذا الطيف الموحد جميع الطاقة المنبعثة عند أطوال موجية مرئية، وبه أصبح ممكنا الآن تحديد متوسط لون الكون.2
النقاط العمياء.. ألوان لا تراها عين الإنسان رؤية صحيحة
في ظل سعي الباحثين إلى ترجمة تلك البيانات الضخمة إلى شيء تألفه عين الإنسان، استعانوا بأجهزة الحاسوب، للبحث عن شيء ذي قيمة ومعنى.
وفي حين أنّ عين الإنسان لها ثلاثة أنواع من الخلايا المخروطية الحساسة للضوء الموجودة في شبكية العين، فإنّ كل نوع مهيأ لإدراك نطاقات مختلفة من الأطوال الموجية للضوء المرئي.
ونتيجة لذلك، يحدث أن تكون هناك بعض النقاط “العمياء”، التي تمنع العين من ملاحظة بعض الألوان ذات الأطوال الموجية المعينة على نحو صحيح.
كما أنّ الألوان التي تدركها العين تتأثر بشدة باختلاف لون الضوء الساقط عليها، فعلى سبيل المثال قد يظهر لون جسم ما بشكل مختلف في غرفة ذات إضاءة زاهية، مقارنة برؤيته في أجواء غائمة تنعدم فيها أشعة الشمس.
الحليب الكوني.. لون فاتح يتّشح به الكون
لتجاوز الحدود البصرية في تحديد القيمة واللون الصحيح، اعتمدت النماذج الحاسوبية المستخدمة على ما يُعرف بضوابط “الفضاء اللوني سي آي إي” (CIE) لاستخلاص متوسط لون الطيف الكوني.
و”الفضاء اللوني سي آي إي” هو مجموعة من الضوابط والتعريفات الرياضية للإحساس اللوني، وقد وضعته هيئة الإضاءة الدولية في عام 1931. 3
وأخيرا توصل الفريق إلى أن متوسط لون الكون هو درجة اللون الرملي (بيج) القريب من اللون الأبيض. وبعد إجراء استطلاع رأي لفريق البحث لاختيار تسمية مناسبة وميزة للون الجديد، خلصوا إلى تسميته “كوزميك لاتيه”، وهو مشتق من كلمة إيطالية تعني الحليب الكوني.
المصادر:
[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). مفارقة أولبر: لماذا السماء مظلمة في الليل؟. الاسترداد من: https://www.amnh.org/exhibitions/journey-to-the-stars/educator-resources/stars/olbers-paradox#:~:text=So%20why%20is%20the%20night,fill%20the%20sky%20with%20light.
[2] غلازبروك، كارل، وبالدري، إيفان (2004). الطيف الكوني ولون الكون. الاسترداد من: https://www.astro.ljmu.ac.uk/~ikb/Cosmic-Spectrum.html
[3] أبراهام، تشاندلر (2016). دليل المبتدئين لقياس الألوان سي آي إيه. الاسترداد من: https://medium.com/hipster-color-science/a-beginners-guide-to-colorimetry-401f1830b65a