الأشرعة الشمسية.. أجنحة تحلّق إلى أقرب النجوم في رحلة تستغرق 20 عاما
كان التحدي الأصعب التي واجه الإنسان هو الهروب من سطح الأرض، والتحرر من جاذبيتها بأيّ ثمن، للوصول إلى الفضاء الخارجي، وسبر دهاليز الكون وأغواره، فساهم عدد من الرياضيين والفيزيائيين في صياغة معادلات رياضية لرفع الأجسام إلى الأعلى، وكانت معادلة العالم الروسي “قسطنطين تسيولكوفسكي” تمثّل حجر الزاوية التي بُني عليها علم الصواريخ.
نشر “تسيولكوفسكي” المعادلة عام 1903 ضمن ورقته البحثية “استكشاف الفضاء الخارجي بواسطة الأجهزة الصاروخية”، وهي تنص على أنّ المبدأ الذي ينبغي أن تتبعه جميع الآلات للصعود إلى الفضاء؛ هو أن تكون هذه الأجسام قادرة على تزويد نفسها بقوّة دفع (تسارع)، عبر طرد بعض كتلتها بسرعات عالية، فيحدث اندفاع للجسم، وفقا لمبدأ حفظ الزخم (Conservation of Momentum).1
وبعد فترة وجيزة من إيجاد المعادلة، وتحديدا في عام 1912، كان العالم الأمريكي “روبرت غودارد” قد قطع شوطا كبيرا بتطوير المعادلة بشكل مستقل، وقد بدأ أبحاثه العملية في تحسين محركات الصواريخ، ونجح في إطلاق أوّل صاروخ يعمل بالوقود السائل عام 1926، ثم تبعت تلك اللحظة الفارقة إنجازات لا حصر لها في الفضاء.2
لم يكتفِ الإنسان بإرسال الصواريخ والمركبات والأقمار الصناعية إلى الفضاء الخارجي، بل صعد بنفسه عاليا، متجاوزا الحد الفاصل بين الغلاف الجوّي للأرض والفضاء الخارجي الذي يُعرف بخط “كارمان”، ويقع على ارتفاع 100 كيلومتر فوق سطح البحر، ويعد رائد الفضاء الروسي “يوري غاغارين” أوّل من فتح أبواب الفضاء على مصراعيها لكافة روّاد الفضاء لاحقا.
وكانت العقود القليلة التالية مليئة بالرحلات والمهام الفضائية التي استهدفت كثيرا من الأجرام السماوية، فلم تكن الأرض والقمر الهدف الوحيد، بل إنّ مسابير فضائية حلّقت بعيدا إلى الشمس والمريخ والمشتري وبقيّة الكواكب المجاورة، حتّى أن كوكب بلوتو القزم الذي يقف على أطراف المجموعة الشمسية، وجد من يلقي عليه التحيّة من الأرض.
“فوياجر1”.. أول العابرين حدّ الغلاف الشمسي
من اللحظات الفارقة التي خُلّدت في تاريخ البشرية المحدود في مجال الفضاء، لحظة اجتياز المسبار الفضائي “فوياجر1” حد الغلاف الشمسي، وهو الحد الفاصل بين المجموعة الشمسية والوسط النجمي السحيق، وذلك في يوم 25 أغسطس/ آب 2012، على مسافة 18 مليار كيلومتر من الشمس.
وقبل ذلك الإنجاز البشري الفريد، قضى “فوياجر1” نحو 35 عاما عائما في الفضاء باحثا عن سبيل للخروج، وكان قد أُطلق عام 1977 مع توأمه “فوياجر2” الذي حلّق خارج المجموعة الشمسية، لكن إلى وجهة أخرى سعيا للبحث عن نجم حاضن آخر بعيد عن الشمس.
ويرى العلماء أنّ كلا المسبارين في نهاية المطاف سيصلان إلى نجم ما سابح في الفضاء، ووفقا للحسابات الحالية، فإنّ “فوياجر1” متجه نحو نجم يُدعى “غليس 445” (Gliese 445)، وهو يبعد عن الأرض بحوالي 17.5 سنة ضوئية، وفي غضون 40 ألف سنة، سيقطع المسبار الفضائي 0.35% فقط من المسافة المطلوبة للوصول.3
“القنطور الأقرب”.. قزم أحمر على مسافة 81 ألف سنة
قياسا على تلك الأرقام التي ذكرنا، فإنّ التنقل بين النجوم والبحث عن كواكب أخرى خارج المجموعة الشمسية، يُعد أمرا مُحالا وصعب المنال، بالنظر إلى محدودية التكنولوجيا التي يمتلكها البشر اليوم.
ويُعد نجم “بروكسيما سنتوري” أو “القنطور الأقرب” أقرب النجوم إلى الشمس، وهو نجم قزم أحمر يقع عند مسافة 4.2 سنوات ضوئية، وإذا افترضنا أنّ “فوياجر1” كان متجها نحوه بسرعته الحالية (56 ألف كلم/ساعة)، فسيستغرق ما يقارب 81 ألف عام لتغطية هذه المسافة كاملة.4
وعطفا على جميع ما سبق، فإنّ المسبار الفضائي ستنفذ طاقته في نهاية المطاف، ولن يكون قادرا على تغيير اتجاهه أو سرعته، بغض النظر عن مصدر الطاقة المستخدمة، لا سيما مع محدودية السرعة والكفاءة لدى جميع المحركات المستخدمة اليوم في الصواريخ والمركبات الفضائية، وهي تنقسم إلى 3 فئات، ألا وهي المحركات الكيميائية، والمحركات الكهربائية والأيونية، والمحركات النووية.
“نظام الأشرعة الشمسية المُركّب”.. ثورة الفضاء القادمة
في أبريل/ نيسان 2024، أعلنت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” عن مقترح آلية ثورية قادرة على إرسال المركبات الفضائية ومسابير الفضاء بسرعة وكفاءة عاليتين، بواسطة نظام شراعي شمسي، على غرار السفن الشراعية القديمة التي كانت تستخدم الرياح مصدرا للطاقة.
يحمل هذا النظام اسم “نظام الأشرعة الشمسية المرَكّب المتقدم”، وتعمل وكالة “ناسا” على أن يكون برنامجا ثوريا قادرا على حلّ معضلات عدّة في ضربة واحدة، ويسعى المقترح لاستخدام أشرعة خفيفة الوزن، مصنوعة من البوليمر المرن وألياف الكربون، على أن تكون قادرة على أخذ الإنسان إلى أبعد مما حققه في وقت وجيز.5
ففي أنظمة الدفع الحالية مثل تلك الموجودة في مسباري “فوياجر1” و”فوياجر2″، تُستخدم محركات ثقيلة تعمل على الوقود الداخلي الذي تحتويه، وتتوقف عن العمل بمجرّد نفاد هذا الوقود. كما أنّ سعة خزّان الوقود تبقى محدودة، بسبب ما تضيفه من وزن قد يعوق رفع الصاروخ عن سطح الأرض، وهي في النهاية تحرق كثيرا من ذلك الوقود للهروب من جاذبية الأرض.
وما جاء في المقترح الجديد يتخلّى عن فكرة الوقود الداخلي، ويتخذ أشعة الشمس مصدرا للطاقة والوقود غير المحدود، لكي تعمل الأشرعة التي ستدفع المركبات الفضائية في أرجاء الكون.
الفوتونات.. ثروات يحملها ضوء الشمس
يتكوّن الضوء القادم من الشمس من جسيمات دون ذرية يُطلق عليها الفوتونات، ومع أنها ليست ذات كتلة، فإنّ لها زخما (Momentum). وباستخدام أشرعة ضخمة عاكسة للضوء، ستحصل المركبة الفضائية على زخم كاف إثر اصطدام الفوتونات بالأشرعة.
وقد لا تبدو هذه التقنية عملية على سطح الأرض ضمن الغلاف الجوّي، على عكس الفضاء، فهو يفتقر لجميع أنواع المقاومة، بما في ذلك مقاومة الهواء، فكلّ ما يتطلّبه الأمر دفعة طفيفة من الشمس، وستسير المركبة الفضائية على أكمل وجه.
ومع أن الفوتون الواحد ذو قدر ضئيل من الزخم، فإنّ الشمس تنتج كثيرا من الفوتونات باستمرار، وما دامت الشمس موجودة أو يمكن رؤيتها، فإنّ المركبة الفضائية ستحصل على تسارع مستمر، وإن كان التسارع بطيئا نسبيا.
ويمكن توجيه هذه الأشرعة الشمسية باستمرار عن طريق التلاعب بميلانها وخصائصها الهندسية لتغيير وجهة المركبة الفضائية، فلا تقتصر الحركة على اتجاه الأشعة الشمسية.
أشعة الليزر.. رحلة العشرين عاما إلى رِجل قنطورس
بطبيعة الحال، فإنّ نظام الأشرعة الشمسية يعتمد على 3 عوامل لتحديد سرعة المركبة الفضائية، ألا وهي حجم الشراع، وكتلة المركبة، والمسافة الفاصلة بينها وبين الشمس.
يمكن أن يعالج العاملان الأولان ببساطة في أثناء تصميم المركبة الفضائية، لكنّ التحدّي الحقيقي يكمن في العامل الثالث، وهي المسافة الفاصلة عن مصدر الطاقة، ألا وهي الشمس.
فوفقا لقانون “التربيع العكسي”، فإن شدة ضوء الشمس تتناسب عكسيا مع مربع المسافة الفاصلة بين الجسمين، أي لو تضاعفت المسافة فإنّ شدّة الضوء تقلّ إلى ربع القيمة الأصلية (السابقة).
وللتغلّب على هذه المشكلة، ابتكر علماء من مؤسسة “بريكثرو إنيشاتيفز” (Breakthrough Initiatives) نموذجا لمركبة فضائية، تُدفع بأشعة الليزر من الأرض مباشرة، ونظريا يمكن أن تصل سرعة الشراع الشمسي نحو 20% من سرعة الضوء، أي أنّه سيسير بسرعة 216 مليون كيلومتر في الساعة، مما يجعله قادرا على الوصول في ظرف 20 عاما نحو أقرب النجوم إلينا، رِجل قنطورس.
انعكاس الأشعة.. تخوفات من أكثر أنظمة السفر منطقية
يرى العلماء القائمون على هذه الفكرة أنّها أكثر أنظمة السفر بين النجوم منطقية حتى الآن، ومن الوارد أن تكون زيارة نجم آخر -بعيدا عن الشمس- قابلة الحدوث في غضون جيل واحد فقط، بدلا من الانتظار آلاف السنوات.6
ومع أننا متفائلون حيال هذه المدّة القياسية، فإنّ ثمّة تخوفات كبيرة حول تصويب أقوى وأشد أنظمة الليزر المصنوعة من الأرض باتجاه مركبة فضائية سابحة بالفضاء، فقد يترتب على انعكاس الأشعة على الأرض أضرار غير محسوبة، ولن يكون من السهل تداركها لاحقا.
وقد ينظر المهندسون إلى إمكانية وضع مركز إطلاق أشعة الليزر في مكان ما في الفضاء بحيث يكون عائما، أو ربّما على سطح القمر، لتفادي أيّ زحزحة أو انزياح لمصدر الأشعة.
اختبار التحقق.. تحليق على بعد ألف كيلومتر
تأمل وكالة “ناسا” تقييم فكرتها المبتكرة عن طريق اختبارها على أرض الواقع، ففي المهمة التجريبية التي انطلقت في شهر نيسان/ أبريل 2024، أرسلت الوكالة قمرا صناعيا بحجم فرن صغير على ارتفاع ألف كيلومتر، بواسطة صاروخ الفضاء “إلكترون”، الذي طوّرته شركة الفضاء الأمريكية “روكيت لاب”.
وهناك فُتحت الأشرعة الشمسية، وامتدت بواسطة 4 أذرع، لتكون بالنهاية على شكل مربّع كامل، ويصل طول كلّ ضلع فيه إلى نحو 9 أمتار.
وإذا كانت الظروف الضوئية مواتية، فمن الممكن رؤية الأشرعة الشمسية من الأرض، وربّما يكون سطوعها مشابها لسطوع نجم الشعرى اليمانية، وهو ألمع نجم في سماء الأرض.7
وتخضع الأشرعة الآن للاختبار عن طريق أداء بعض المناورات، بتغيير اتجاه الأشرعة بالنسبة لزاوية سقوط أشعة الشمس، ويأمل العاملون على المشروع جمع البيانات الكافية، لبناء واستنساخ التجربة اليابانية في عام 2010، وهي مهمة “إيكاروس” لأول نظام أشرعة شمسية مصغّر في العالم، وقد حققت نجاحا مبهرا، على حد وصف وكالة استكشاف الفضاء اليابانية.8
المصادر:
[1] ارلازوروف، ميخائيل (2024). قسطنطين تسيولكوفسكي. الاسترداد من: https://www.britannica.com/contributor/Mikhail-S-Arlazorov/89
[2] أوري، جون (2021). مرور 95 عاما على أول صاروخ يعمل بالوقود السائل. الاسترداد من: https://www.nasa.gov/history/95-years-ago-goddards-first-liquid-fueled-rocket/
[3] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). مهمة في الوسط النجمي. الاسترداد من: https://voyager.jpl.nasa.gov/mission/interstellar-mission/#:~:text=On%20Aug.,to%20explore%20this%20new%20territory.
[4] ويت، كيلي كيزر (2023). لماذا تقترب مركبة فوييجر الفضائية من الأرض؟. الاسترداد من: https://earthsky.org/space/voyager-spacecraft-getting-closer-to-earth/#:~:text=Voyager%201%20moves%20at%20a,than%20they’re%20moving%20away.
[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). نظام الأشرعة الشمسية المركب المتقدم. الاسترداد من: https://www.nasa.gov/mission/acs3/
[6] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). ستارشوت. الاسترداد من: https://breakthroughinitiatives.org/initiative/3
[7] محررو الموقع (2024). ناسا الجيل القادم من تكنولوجيا الشراع الشمسي جاهزة للإطلاق. الاسترداد من: https://www.nasa.gov/general/nasa-next-generation-solar-sail-boom-technology-ready-for-launch/#:~:text=With%20its%20large%20sail%2C%20the,star%20in%20the%20night%20sky.
[8] هاول، إليزابيث (2014). إيكاروس: أول شراع شمسي ناجح. الاسترداد من: https://www.space.com/25800-ikaros-solar-sail.html