“فضاء متوحش”.. صراع في الفضاء وشركات خاصة تهيمن عليه
“من يملك الهيمنة على الفضاء، سيتحكم بالمستقبل وبالبشرية”، هذا ما يراه ” كريس كيمب” الأمريكي النافذ الذي يتنافس منذ سنوات على حجز مكان له في الفضاء الخارجي، ذلك أن الأخير يشبه اليوم ما كان عليه الغرب الأمريكي في القرن الثامن عشر من جهة كونه ساحة مفتوحة للتنافس الشرس، للاستحواذ عليه أو قضم قطعة منه.
وتشبيه “الفضاء” بالغرب الأمريكي كان لأحد المتكلمين في الفيلم التسجيلي “فضاء متوحش جدا” (Wild Wild Space) للمخرج ” روس كوفمان”، ويبدو أن هذا التشبيه أعجب المخرج لدرجة أنه استوحى منه عنوان فيلمه، الذي يستعرض بتشويق وإحاطة ممتازة التنافس الذي ربما لا يعرفه كثيرون للاستحواذ على الفضاء، وهو المجال الذي تُقدر قيمة الاستثمارات فيه ببلايين الدولارات.
يشرح الفيلم منذ بداياته والتي تميزت بالمونتاج السريع الحيوي، بأن فكرة أغلبنا عن الصراع على الفضاء أصابها القدم، إذ لم يعد هذا الصراع بين حكومات الدول العملاقة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين كما كان عليه الحال لعقود عديدة، بل يدور اليوم بين شركات التكنولوجيا، وإن التوجه للاستثمار في تكنولوجيا الفضاء للبعض هو طريق لها للثراء والهيمنة.
وهناك شركات قليلة للغاية من التي تسعى لتحقيق غايات نبيلة؛ منها توفير تكنولوجيا الفضاء للجميع، وإن كانت هذه الشركات القليلة نفسها تتصارع بالأدوات ذاتها، ولا تنسى أبدا العوائد المالية التي يجب أن تحصل عليها لتستمر في عملها والمنافسة.
يعود الفيلم إلى العقدين الأخيرين والتطورات التكنولوجية في عالم الفضاء التي تمت فيهما، وينجح في محاورة أبرز الأسماء في عالم الشركات الخاصة المتنافسة اليوم، بيد أن الفيلم لم يحاور -ولأسباب لا نعرفها– إيلون ماسك، والذي يعد أحد اللاعبين الكبار اليوم في تكنولوجيا الفضاء، حيث رفع بشركة “سبيس إكس” (SpaceX) التنافس في عالم الفضاء إلى مستوى غير معهود.
الشخصيات الرئيسية
يهتم الفيلم بثلاث شخصيات رئيسية ويفرد لها المساحة الأكبر، وهم شباب بعمر واحد تقريبا جمعهم الشغف والطموح الكبير، وتقاطعت طرقهم عدة مرات، فقد عملوا في وكالة ناسا الأمريكية للفضاء في وقت واحد تقريبا، وانسحبوا منها بعدما اكتشفوا أن الوكالة الحكومية لن تحقق طموحاتهم، وأن الفضاء واسع أمامهم، وهذا ما ستثبته الأيام.
أولى هذه الشخصيات هو “كريس كيمب” (Chris Kemp) وهو شخصية غريبة الأطوار، لا يكل ولا يمل من الوصول إلى هدفه، رغم أنه تعرض للخيبات، واحدة تلو الأخرى، وشاهد أحلامه تنهار فعليا أمام عينيه، وسيظهر هذا في الفيلم التسجيلي.
أما الشخصية الثانية فهي “بيتر بيك” (Peter Beck)، وهو شاب نيوزلندي من أسرة فقيرة لم يتلق تعليما جامعيا، ولكن هوايته في إطلاق الصواريخ ستتطور عبر السنين وتحوله في النهاية للاعب كبير في هذا المجال.
والشخصية الثالثة هي “ويل مارشال” (Will Marshall)، من بريطانيا، والذي درّس في جامعات عريقة، وكان يملك طموحا منذ طفولته لولوج عالم تكنولوجيا الفضاء، وهذا سينعكس على عمله في المستقبل، اذ ستوفر شركته الناجحة “كوكب”، صورا يومية للكرة الأرضية، والتي لها اليوم فائدة كبيرة ومتنوعة في الكثير من مجالات الحياة، وسيأتي الفيلم للتفصيل فيه.
البدايات الصعبة والنجاحات الهائلة
بعد بداية الفيلم والتي تميزت بوفرة مشاهد الفضاء المثيرة، يهدأ إيقاع الفيلم عندما يبدأ بالتنقل بين شخصياته الرئيسية، والتي سينضم لها “بيت وردن”، وهو عالم أمريكي اقترب كثيرا من عالم الشباب المهتمين بالفضاء، وجذبهم إلى وكالة ناسا عندما تولى إدارتها في عام 2006، وبقي مسؤولا على سياساتها حتى عام 2015.
تختلف الظروف التي عمل بها الشباب الثلاث؛ فالأمريكي “كريس كيمب” تميز بعناده الكبير وإصراره على تحقيق حلمه الفضائي، أما “بيتر بيك”، فكان يعمل بصمت من نيوزلندا، وعندما زار الولايات المتحدة في محاولة للعمل في ناسا، واجهت محاولته الرفض والتعجب، فكيف يمكن لوكالة ناسا أن تعين شخصا لا يملك شهادة جامعية في مجاله؟!
ويبين “ويل مارشال” كيف أن وعيه بمشاكل العالم بدأ بالتشكل في موازاة عمله على بناء مستقبل له ولشركته، وهذا الوعي سيحدد هوية شركته، والتي ستنجح في إرسال مئات الأقمار الصناعية إلى الفضاء، والتي تلتقط يوميا ملايين الصور، معظمها متاح مجانا للراغبين.
وتشترك الشخصيات في الصعوبات التي واجهتها في الحصول على مستثمرين، والذين بدونهم لم يكن بإمكانهم التقدم خطوة واحدة، فتكنولوجيا الفضاء ذات تكلفة مرتفعة، ويكشف الفيلم أن أثرياء وادي السليكون (مكان شركات التكنولوجيا في الولايات المتحدة) التفتوا لأهمية الاستثمار في الفضاء، ووفروا مئات الملايين للشركات الجديدة.
إيلون ماسك
وعلى الرغم من أن الفيلم لم يحاور الشخصية الشهيرة “إيلون ماسك”، إلا أنه حضر شخصيا في مشاهد عديدة، كما تم التوقف مرارا أمام إنجاز شركته الفضائية. ففي أحد المشاهد المبكرة للفيلم يسأل صحفي تلفزيوني أمريكي “ماسك” ما إذا كان يعرف الكثير عن تكنولوجيا الفضاء، فيجيبه بأنه لا يعرف الكثير، ولكن هذا الرجل سيغير كثيرا في معادلات الفضاء حينما ينجح في تطوير صواريخ الفضاء، وتكنولوجيا الأقمار الصناعية.
وتهيمن الأقمار الصناعية التي أطلقها “ماسك” اليوم على هذا السوق، وخاصة بعد الحرب في أوكرانيا، فقد وفرت الإنترنت للجيش الأوكراني وللناس العاديين في البلد بعد انهدام البنى التحتية، وكما يشمل المجال الذي تنشط فيه أقمار ماسك كل العالم تقريبا، وهذه المرة الأولى في التاريخ التي يملك فيها شخص واحد هذا النفوذ على مجال الاتصالات اليوم.
أحداث كثيرة تصل إلى التخمة
يتميز الفيلم التسجيلي بوفرة المعلومات فيه، والأحداث الكبيرة التي تصل أحيانا إلى التخمة، وكما يمكن التوقف أمام أحداث بعينها، وعمل أفلام تسجيلية كاملة عليها، مثل تاريخ وكالة ناسا التي كانت تتحكم بالفضاء خلال عقود طويلة قبل أن يعرقل نشاطها البيروقراطية وسياسات الحكومة الأمريكية المفتقرة للإبداع.
وعلى الرغم من أن “بيت وردن” قد هز الوكالة الأمريكية للفضاء أثناء إدارته لها، إلا أن الزمن قد فات هذه الوكالة ولم يعد بإمكانها المنافسة مع الشركات الخاصة، وأصبحت الوكالة الحكومية تستعين بالشركات الخاصة الجديدة في إطلاق أقمارها الصناعية، وفي استعارة بعض التكنولوجيا الجديدة التي طورتها شركات الفضاء التجارية الشابة.
ويستعين الفيلم بصحفيين ومختصين، يضيفون بخبراتهم ومتابعتهم الطويلة لعالم شركات الفضاء الكثير من الخلفيات العلمية والاجتماعية للأحداث والشخصيات والظواهر التي يتناولها الفيلم، ويستشرفون المستقبل لهذه الشركات، والذي يعكس طبيعة الصراعات على الأرض، كما عبر أحد المتحدثين.
كابوس الفضاء
نجاحات تكنولوجيا الفضاء لم تمر دون تحديات كبيرة، إذ يمكن أن تنتقل الحروب الأرضية إلى الفضاء، كما حصل قبل سنوات قليلة عندما ضربت روسيا أقمارا صناعية أمريكية، هذا التطور الخطير يمكن أن يتصاعد في المستقبل، خصوصا مع المنافسة الشديدة والصراعات المتزايدة على الأرض، وتدخل التكنولوجيا في النزاعات العسكرية كما حدث في الحرب الأوكرانية المتواصلة إلى اليوم.
ويهتم الفيلم بقضية النفايات الطائرة في الفضاء الآتية من تدمر الأقمار الصناعية بسبب الاصطدامات أحيانا، حيث يمكن أن تتصادم الأقمار بالصدفة، وتتناثر قطعها في الفضاء، هذه القطع الصغيرة الطائرة يمكن أن تدمر أقمارا صناعية صغيرة أخرى في حال اصطدمت بها، بل إن هناك سيناريو يناقشه أحد الخبراء ويبين فيه خشيته من القطع المتناثرة التي يمكن أن توقف الاتصالات بالكامل مع الأقمار الصناعية.
الوجه الإنساني المحدود
ولعل أفضل مشاهد الفيلم من جهة عاطفية تلك التي تناولت منتجات شركة “كوكب”، والمنتديات التي تفتحها للناس العاديين، وللمنظمات الإنسانية، فالصور الدقيقة التي تلتقطها الأقمار الصناعية الخاصة بالشركة، يمكن أن تغير حياة ناس كثر، وتلهم الصناعة استراتيجيات لها علاقة بالتغييرات المناخية، أو دارسة الأرض من الأعلى؛ لتحديد أمكنة وجود الأعلاف للحيوانات، أو الأمكنة التي تتوفر بها الماء، وتستخدم هذه الصور في تحديد التغييرات التي تمر بها الأرض بدرجات كبيرة من الدقة.
ويظهر الفيلم التسجيلي لثوان معدودة صورا فضائية لتجمعات بشرية من اللاجئين الذين كانوا يتجمعون بعد هروبهم من حروب أو صراعات ما، هذه الصور التي مرت بسرعة على الشاشة تحمل قيمة عاطفية كبيرة، فهي تعيد الفيلم إلى “الأرض”، بعد أن حلق معظم زمنه في الفضاء.
ويخبرنا أحد الخبراء أن بعض الحكومات يمكن أن تستغل صور الفضاء للاجئين المتوافرة على الإنترنت لإيقاف اللاجئين أو احتجازهم، وهم وجه العملة الآخر للتكنولوجيا، والذي على العالم أن يتعامل معه في السنوات القادمة، ولا يبدو اليوم بأنه يملك إجابة واضحة عليه.