“اليوم الأخير للديناصورات”.. كارثة أفنت ثلاثة أرباع الكائنات الحية على الكوكب

في سماء لا يعكر صفوتها غمامة، برز قرص الشمس واعتلى الأفق وأضاء كل أرض مر فوقها فبدا يوم كأي يوم قد مضى على كوكب الأرض.

كل الكائنات الحية منهمكة بصباح يوم جديد، تبحث عن قوت يومها، فهذه الزواحف المجنحة التيروصورات تحلق عاليا، وكذلك الزواحف البحرية المخيفة البليزيوصورات والموزاصورات في عالمها، تغوص في أعماق البحار، والديناصورات بجميع أشكالها وأحجامها، التي تربعت على هرم المخلوقات الحية عددا وضخامة، تحتل معظم اليابسة، على أرض تملؤها أنماط حياة متنوعة، مع وفرة من الطيور والحشرات والنباتات.

لقد بدا كل شيء على ما يرام، وما من أمر خارج عن المألوف في عجلة حياة الكائنات الحية، قد مضى نحو 66 مليون سنة، حتى صباح ذلك اليوم بالتحديد، قبل أن يلمع في السماء الصافية وميض خافت، خافت للغاية أشبه بلألأة نجمة، ذلك الوميض الذي لاح في الأفق، ثم غيّر كل شيء أسفله إلى الأبد.

كان الإدراك محالا لدى المخلوقات الحية آنذاك، بين ما كانوا يرونه وما كان يوشك على الحدوث، فعدم تنبؤهم بخطر غير معتاد وضع حياتهم على المحك، هذا إن كان باليد حيلة، وإن بدا غير مألوف للغاية ظهور نجمة تلمع في وضح النهار.

لم تكن نجمة بل زائرا ثقيل الظل، أرخى بظلامه على الكوكب، وهو يزداد حجما ساعة بعد ساعة، وقد تحول من نجمة صغيرة إلى قرص ملتهب بحجم قرص الشمس في السماء، ثم ما لبث أن قذف بكل ضخامته نحو الأرض، قاطعا الغلاف الجوي في ظرف ثانيتين فقط.

فقد كان يسير في الفضاء بسرعة تبلغ 20 كيلومترا في الثانية، وفقا لدراسة أعدها باحثون من “كلية لندن الإمبراطورية للعلوم والتكنولوجيا والطب” عام 2020، أي ما يعادل 200 ضعف سرعة الصوت، وهو نطاق السرعة الفائقة للغاية.1

بحجم يفوق جبل إيفرست، أطل النيزك العملاق الذي تراوح قطره بين 10 إلى 80 كيلومترا، وعند الحديث عن كتلة بهذه الضخامة تسير بهذه السرعة الفائقة، فإن من المتوقع أن نرى طاقة حركية مهولة على وشك أن تتحرر، وأن يُرى أثرها على الأرض لحظة الاصطدام، ويُقدر علماء الأرض أنها تتراوح بين 21-921 مليار قنبلة نووية، من مثل التي أُسقطت على مدينة هيروشيما اليابانية.2

عرضت الجزيرة الوثائقية فيلما وثائقيا، تتناول فيه أبرز المحطات في سياق البحث عن مستحاثات لديناصورات قضت أثناء وقوع الاصطدام الكبير، ويتناول الوثائقي شهادات علماء أحافير وجيولوجيين، لمطابقة الأدلة التي عُثر عليها حتى الآن، وهي تظهر أن الأرض كانت مسرحا لكارثة جماعية آنذاك.

فرضية ألفاريز.. كنز علمي منحوت تحت الماء

في عام 1980، وُضعت “فرضية ألفاريز” التي تنص على أن نيزكا ضخما قد ضرب الأرض في الحقبة الزمنية ما بين العصر الطباشيري والعصر الباليوجيني من السلم الزمني للأرض، وقد وضعها الجيولوجي عالم الأرض “والتر ألفاريز”، ووالده الجيولوجي الشهير الحاصل على جائزة نوبل “لويس ألفاريز”.

وفي ذات الحين كان الجيوفيزيئيان “غلين بانفيلد” و”أنتونيو كامارغو” يعملان بإحدى شركات استخراج النفط التابعة للحكومة المكسيكية، ولطبيعة عملهما طُلب منهما أن يدرسا ويمسحا منطقة خليج المكسيك شمال شبه جزيرة “يوكاتان”، بحثا عن أفضل مناطق النفط، بواسطة تقنية المسح المغناطيسي.

لاحظ الباحثان وجود قوس ضخم قابع تحت الماء، كأن أحدا نحته على نحو دقيق، فاستنتجا أن ضربة قوية أصابت هذا المكان فيما مضى. لكن افتقارهما للأدلة الأحفورية جعل اكتشافهما بعيدا عن الأعين حينا من الزمن.

فوهة تشيكسولاب في خليج المكسيك، نتجت عن اصطدام نيزك هائل قبل نحو 66 مليون سنة

أما “لويس ألفاريز” وابنه “والتر”، فلم يتوانيا في الاطلاع على المعلومات السابقة بشأن الصدع أو الفوهة الضخمة في خليج المكسيك، وقد لاحظا انتشارا لعنصر الإيريديوم في طبقة “حدود عصري الطباشيري-الباليوجيني” (Cretaceous–Paleogene boundary)، وهي طبقة رقيقة من الصخور تفصل بين الحقبتين الجيولوجيتين، ومن الممكن رؤيتها بسهولة في التراكمات الجبلية والصخرية.

لقد كانا يعلمان أن عنصر الإيريديوم لا ينتشر بكثافة على سطح الأرض، وإنما يأتي عادة مع النيازك الساقطة على الأرض، لذلك استنتجا بأن ثمة رابطا بين الصدع المكتشف، وقد سُمي لاحقا “فوهة تشيكشولوب” (Chicxulub Crater)، وبين طبقة حدود عصري الطباشيري-الباليوجيني، فكلاهما يعودان لذات الحقبة الزمنية تقريبا، أي قبل 66 مليون عام.

ثم بدأت عدة دراسات تتحقق من مدى صحة ذلك الادعاء منذ ذلك الحين، وفي عام 2016، استطاع علماء استخراج عينة من قاع البحر، حيث توجد فوهة تشيكشولوب، وقد منحتهم فكرة خاطفة عن حجم الكارثة التي حلت، فقد طارت كميات كبيرة من الصخور والغازات المتبخرة إلى الأعلى فور الاصطدام.

أمطار صخرية تكشف آثار الكارثة

في عام 2019، وجد علماء الحفريات في ولاية داكوتا الشمالية كنزا من الحفريات بقرب طبقة حدود عصري الطباشيري-الباليوجيني، فقد وجدوا نظاما بيئيا متكاملا بشكل غريب، يعود لوقت وجيز قبل حدوث الاصطدام الذي تبعه انقراض جماعي.

مستحاثة يد ديناصور

على نحو مثير، كانت الطبقة تحتوي كميات من الأجسام الزجاجية الصغيرة، تدعى “تكتيات” (Tektite)، ويُحتمل أن تكون هذه القطع الزجاجية ناتجة عن هطول أمطار صخرية، قادمة من بخار الصخور الناتج عن الاصطدام، بعد إذ تكورت في السحب.3

وإنه لمن المثير كذلك أن جميع مستحاثات الديناصورات وُجدت في هذه الطبقة الجيولوجية، ومما لا يترك مجالا للشك أن ثمة حادثة عظيمة حلت على الأرض، وأودت بحياة الملايين من الديناصورات ومخلوقات أخرى.

أمواج السماء وحرائق الأرض.. لحظات الحادثة الأولى

تجاوز النيزك الضخم حدود غلاف الأرض الجوي في ظرف ثانيتين، وهو يوشك الآن أن يتسبب بإحدى أعظم الكوارث التي شهدتها الكائنات الحية قاطبة آنذاك. لقد اختار موقع سقوطه على مياه خليج المكسيك، ولأن النيزك مندفع بسرعة عالية، فإن الماء سيصبح كأنه مادة صلبة عند لحظة الارتطام، أشبه بمطرقة حديدية ثقيلة عملاقة ترتطم بلوح من الفولاذ.

سوف تسبب الحادثة ضغطا هائلا ومفاجئا على الذرات والجزيئات في الماء والصخر، فترتفع درجة الحرارة إلى عشرات الآلاف، وتنتج من ذلك هالة ضخمة من البلازما.4

وعند لحظة ارتطام النيزك بالقاعدة الصخرية تحت الماء، ستتحرر طاقة تعادل ملايين من القنابل النووية، فتتسبب بتبخر النيزك على ضخامته المهيبة. ثم سيتكور وميض ضوئي عظيم فوق الخليج المكسيكي، وستنتقل طاقة حرارية على هيئة أشعة حرارية بسرعة الضوء، تحرق كل أخضر ويابس فورا، ضمن نطاق دائرة نصف قطرها 1500 كيلومتر.5

اللحظات الأولى لوصول النيزك القاتل إلى الأرض

ثم يصنع الارتطام حفرة يبلغ عمقها نحو 25 كيلومترا، وقطرها نحو 100 كيلومتر، وبالمقابل ترتد مياه المحيط إلى الأعلى حتى يبلغ ارتفاعها مئات الكيلومترات. ليس هذا فحسب، فبسبب الانفجار الهائل ستنطلق أحجار وصخور متناثرة إلى الغلاف الجوي، يُقدر مجموع كتلتها بـ60 ضعف كتلة النيزك الأولية.

من هذه الأحجار ما سيفلت من جاذبية الأرض، ويسحب في الفضاء، فيصل إما إلى القمر أو المريخ، لكن الغالبية تبقى في الغلاف الجوي للأرض، أو تكون في مدار قريب حول الأرض، ثم تمطر السماء أحجارا وصخورا على الأرض.

سيكون الاصطدام مريعا للغاية، حتى إنه قد يكون سببا في اهتزاز حقول الحمم البركانية في القارة الهندية، وسيستمر نشاطها البركاني نحو 30 ألف سنة لاحقا، من دون أن يهدأ.

وهذا ما يفسر ظهور فرضية تذكر أن البراكين قد تكون هي سبب انقراض الديناصورات، بإشارة إلى حقول البراكين في الهند، وتسمى “مصاطب ديكان” (Deccan Traps)، وهي من أكبر المعالم البركانية على الأرض.6

حرارة وعواصف وغبار وظلام دامس.. ما بعد الفاجعة

عند منتصف القارتين الأمريكيتين، اقتُلعت النباتات والأشجار من جذورها، وقُذفت بعيدا عن موقعها بآلاف الكيلومترات، ولم ترحم تبعات الاصطدام أي كائن حي، ثم انطلقت موجات تسونامي متجهة بالمحيط الأطلسي والهادي، بلغ ارتفاعها نحو ألف متر، فأغرقت كثيرا من السواحل والمعالم اليابسة.

وما زالت في الغلاف الجوي ملايين من الأحجار والصخور المتناثرة والمتقاذفة، وهي على وشك أن تعود إلى الأرض، وهنا تحدث المأساة الأكبر، فبسبب السرعة العالية للأجسام المحلقة ستكتسب طاقة حرارية عالية، وينعكس ذلك على حرارة الغلاف الجوي نفسه.

تصاعد دخان عظيم إثر الاصطدام غطى الكوكب بأكمله كما يحدث فيما يُعرف بالشتاء النووي

وترى بعض الدراسات بأن حرارة الكوكب ربما بلغت في ذلك اليوم مئات الدرجات المئوية في دقائق معدودة، ودراسة أخرى ترجح أن الحرارة وصلت آلاف الدرجات المئوية في ظرف زمني محدود أقرب إلى الدقيقة.

وفي كلا الحالتين، لن ينجو أي كائن حي يجد هذا القدر من الحرارة، إلا إن استطاع أن يجد لنفسه مأوى أو مخبأ، أو أن يدفن نفسه تحت الأرض. وقد سببت هذه الحرارة حرائق شاسعة على مستوى الكوكب كله، في منظر مهيب ومريع، وأصبح كوكب الأرض رقعة من الجحيم.

نتجت من ذلك الاحتراق كمية من الدخان العظيم، غطت الأرض وحجبت ضوء الشمس عنها، فدخل الكوكب في ظلام كاحل، وهبطت درجات الحرارة إلى حد التجمد.

كان تأثير الاصطدام مريعا على حياة اليابسة، ولا يقل سوءا في الحياة المائية، فقد مات 90% من “العوالق” (Plankton) بسبب حجب ضوء الشمس، وهي تعد المصدر الأساسي للشبكة الغذائية للمخلوقات البحرية، وبذلك انقرضت أعداد ضخمة من الزواحف والآمونيات.7

فناء ربع الكائنات الحية على الكوكب

لا شك أن ما شهدته الأرض في نهاية الحقبة الطباشيرية يُعد من أكبر الانقراضات الجماعية للكائنات الحية في تاريخ الكوكب، فقد ظلت الأرض شهورا وربما سنوات مكانا غير صالح للمعيشة، ولم ينج من هذه الحقبة الحرجة إلا ربع الكائنات الحية.

أي أن 75% من المخلوقات الحية انقرضت، ومنها الديناصورات، بعد أن كانت تحتل الكوكب زمنا لا يقل عن 200 مليون سنة، ولم ينجُ من أصنافها وأحجامها غير الديناصورات الطائرة، ويشاع افتراض بأن الطيور بشتى أشكالها تنحدر من هذه الديناصورات الناجية.

ديناصورات برية وبحرية وجوية انقرضت بفعل اصطدام النيزك العملاق

ومع انقراض ثلاثة أرباع الكائنات الحية، أصبحت الثدييات الناجية من الحادثة تتقلد زمام الكائنات الحية، تزامنا مع تعافي الكوكب على مدار ملايين السنوات.

إن للأرض تاريخا طويلا ونزاعا يمتد لمليارات السنوات مع المتطفلين القادمين من الخارج، فالأرض ما كان لها أن تنزوي وتستقل في عالمها من دون أن يطل عليها ما يعكر صفوها بين الفينة والأخرى، ويرى الجيولوجيون أنه في كل 50-100 مليون سنة يسقط على الأرض نيزك ضخم، مشابه لحجم النيزك الذي تسبب بفوهة تشيكسولاب، وأدى إلى انقراض الديناصورات.8

وما نعيشه اليوم ليس استثناء عما سبق، ولتفادي خطر يلوح في الأفق، ما علينا إلا أن نتهيأ كما يجب، وفي مقالة أخرى بعنوان “طوق نجاة من نيزك.. كيف يمكننا إنقاذ الأرض؟” نستعرض أبرز الأفكار والحيل القادرة على تخليصنا مستقبلا من الوقوع بكارثة مشابهة.

المصادر:

[1] جارث، كولينس وآخرون (2020). مسار شديد الانحدار لفوهة تشيكسولاب. تم الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/s41467-020-15269-x

[2] خافير، هيكتور (2014). تقديرات طاقة وكتلة وحجم نيزك تشيكسولاب. تم الاسترداد من: https://arxiv.org/abs/1403.6391

[3] جاجارد، فيكتوريا (2019). لماذا انقرضت الديناصورات؟. تم الاسترداد من: https://www.nationalgeographic.com/science/article/dinosaur-extinction

[4] شونتينج، دافيد (2017). تشيكسولاب: التأثير والتسونامي: قصة أكبر كويكب معروف ضرب الأرض. سبرينجر، برلين. الطبعة الأولى. ص50

[5] جوليك، شين وآخرون (2019). اليوم الأول من حقبة الحياة الحديثة. تم الاسترداد من: https://www.pnas.org/content/116/39/19342

[6] جاجارد، فيكتوريا (2019). لماذا انقرضت الديناصورات؟. تم الاسترداد من: https://www.nationalgeographic.com/science/article/dinosaur-extinction

[7] جيبس، سماثا وآخرون (2020). تتحول عوالق الطحالب إلى الصيد للبقاء على قيد الحياة والتعافي من تأثير الظلام في نهاية العصر الطباشيري. تم الاسترداد من: https://www.science.org/doi/10.1126/sciadv.abc9123

[8] الشريف، يمان (2020). فناء البشرية.. طريق الإنسان إلى الانقراض الموشك. تم الاسترداد من: https://ajmn.tv/f9pdw


إعلان