الإسراء والمعراج.. معجزة تخرق قوانين الفيزياء الكونية

هل تعلمون بأن قصة معجزة الإسراء والمعراج تشبه قصة الرجل الذي عنده علم من الكتاب في قصة سيدنا سليمان عليه السلام حين طلب من جلسائه: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)، أي من يأتيني بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين؟

(قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَقَامِكَ)، أي قبل انتهاء عملك وعودتك إلى بيتك، أو قبل أن تقوم عن كرسيك.

من فوق الصخرة المشرفة عُرج بالنبي الأكرم إلى السماوات العلى. وتكريما لها، بنيت فوقها القبة الذهبية

لم يُرض هذا العرض سيدنا سليمان، فجاءه عرض آخر..

(قَالَ الذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ..)

وعلى الفور، كان عرش بلقيس بين يدي سيدنا سليمان عليه السلام:

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي)، أي رأى العرش أمامه.

علم الكتاب.. قدرة خارقة تفوق عفاريت الجن

العفريت من الجن، هو أقوى ذلك النوع من المخلوقات، وكان حدّ قدرته أن يأتي بالعرش قبل أين يقوم سيدنا سليمان عليه السلام من مقامه.

هذا يعني أن العرض التالي لن يقدمه جني ولا عفريت، بل رجل إنسي من بني البشر، لكن عنده علم من الكتاب، أي آتاه الله بعض العلم الخاص أو القدرة الخاصة، والكتاب ليس معلوما ما هو بالتحديد، فربما كانت الكرامة أو اسم الله الأعظم علمه الله إياه..

الجميل أن سيدنا سليمان عليه السلام لم يستغرب العرضين، لأن قدرته -بلا شك- تفوق قدرات من دونه، فقبل من الثاني وأقره، ورأى الأمر شيئا عاديا، لذا أقر بأن ذلك من فضل ربه عليه.

رسم تخيلي لعرش بلقيس يطير في الهواء من اليمن إلى فلسطين

في رأيي أن الذي حدث في كلتا الحالتين خرق لقوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء والطبيعة البشرية جميعا، فكيف للعفريت أن يأتي بالعرش في بضع دقائق أو حتى بضع ساعات، إلا أن تكون له قدرة خارقة؟

ومن باب أولى أن يفعل الذي عنده علم من الكتاب.

ولكن، كيف سينقل العرش؟ أليس العرش بناء داخل قصر له جدران؟ هذا يعني أن علينا أن نفكك العرش وأن نخرجه من أبواب القصر، أو أن نهدم جدران القصر كي نخرج العرش كما هو..

لكن الأمرين لم يحدثا، لأن كل ذلك سيحتاج وقتا طويلا، وسيكون تحت أعين الحراس والناس والمشاهدين، وحتى بلقيس نفسها.

من بلاط بلقيس إلى قصر سليمان

ما حدث في قصة سليمان هو أن العرش كان داخل قصر بلقيس في اليمن، وفي لمحة بصر أصبح أمام سيدنا سليمان في فلسطين، بلا قوانين طبيعة ولا أسباب مادية معقدة، وكأنه كن فيكون، ولله المثل الأعلى، فكل تلك المعجزات والكرامات إنما هي بأمر الله وتحت نظره وإرادته، وهو من يهبها لمن يشاء من عباده.

ألا تذكرون معي قول الله تعالى في حق الجن والشياطين ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِن حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾؟

أتعلمون أيها البشر أن الجن -والملائكة من باب أولى- يعيشون معنا في عالمنا، وهم يروننا ولا نراهم، فالملائكة يتوافدون على الأرض، ولكل ملك مهمة ووظيفة، بل إن هناك ملكيْن موكلين بتسجيل أعمال العبد لحظة بلحظة، وهناك قرين (شيطان) مرافق لكل إنسان لا يفارقه إلا عند الموت.

لكن أين هؤلاء جميعا، لماذا لا نراهم، لماذا لا نشعر بهم؟

الجواب: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِن حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾، لكن ماذا يمكن أن نفهم من هذا السياق؟

نفهم منه أن الكون المخلوق (المحدث) لا ينحصر في تلك الأشياء المادية التي تحكمها قوانين الفيزياء والطبيعة، والتي وضع الله لها نواميس ثابتة تسير عليها، بل إن هناك عوالم أخرى تعيش في كوننا، لكن قوانيننا لا تحكمها، إلا بإذن الله.

أبعاد أخرى فوق أبعاد البشر الأربعة

يعيش الملائكة والجن في أبعاد (فيزيائية أو كونية) أخرى، وهي أعلى من أبعادنا الأربعة (المكانية الثلاثة والبعد الزماني، بحسب آينشتاين والنظرية النسبية). إنهم يعيشون في أبعاد أعلى، ولا يمكن لصاحب الأبعاد الأقل أن يرى أو يدرك أصحاب الأبعاد الأعلى، ولكن العكس صحيح.

حين يتحدث علماء الفيزياء عن نظرية النسبية والأبعاد الرباعية، يضربون عادة مثالا معروفا لتوضيح هذه الفكرة، فيقولون:

الجن والملائكة يعيشون في أبعاد أعلى من الأبعاد الكونية المحسوسة، ما يمنع عنا رؤيتهم أو إداركهم

تخيل أن مخلوقا ظلّيا (ثنائي الأبعاد كالظل، ليس له سمك ولا ارتفاع) أراد أن يفهم كوننا ثلاثي الأبعاد (الأبعاد المكانية)، فإنه لن يستطيع تخيله مطلقا، ذلك لأنه يظن بأن كل الكون مصنوع من شاكلته ببعدين، حتى وإن علم بأنه يعيش في عالم ثلاثي الأبعاد.

ونحن -معشر البشر- مثل ذلك المخلوق الظلّي، فالكون الذي نعيش فيه مكون من أربعة أبعاد (وهذا حد علمنا الفيزيائي حتى الآن، وذهب أصحاب نظرية الأوتار الفائقة -التي لم تثبت بعد- إلى الأبعاد في الكون قد تصل 11 بعدا)، لكننا لا ندرك منها إلا ثلاثة، والزمن هو البعد الرابع، وهو يسري في اتجاه واحد ولا يعود أبدا للوراء، بل إنه عمودي على الأبعاد المكانية الثلاثة جميعا، وهو أمر لا يمكن إدراكه إلا رياضيا دون العقل. فأنى لمخلوقات ذات أبعاد دنيا أن تدرك أبعادا عليا؟

يعيش الملائكة والجن في أبعاد أعلى من أبعاد الفيزياء التي تحكمنا، ولا تحكمهم تلك القوانين لأنهم يسيرون خارجها، فهم يروننا ولا نراهم، والملائكة ينتقلون بين السماء والأرض في لا زمن، والجن يعيشون مئات وألوفا من السنين، كما ورد في قول جن موسى عليه السلام.. ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى).

رحلة الإسراء والمعراج من مكة المكرمة عبر بيت المقدس إلى السماوات العلا معجزة لا تحكمها قوانين الفيزياء

وكما هو معلوم بالضرورة، أن سيدنا جبريل عليه السلام ينزل بالوحي بأمر الله في لمح البصر، والأمثلة على ذلك كثيرة من الوحي الذي جاء بلمح البصر، فمن ذلك حديث النبي ﷺ: (لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة)، وآية المجادلة ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾.. إلخ.

وهو ما يعني أن حركة الملائكة والجن ليست كحركة البشر، ولا القوانين التي تحكمهم واحدة.

قدرة رجل تحرر من نواميس الفيزياء

الرجل الذي عنده علم من الكتاب، إنما آتاه الله -والله أعلم وأحكم- قدرة الانتقال في أبعاد الملائكة، فقدرة الجن محدودة بنص القرآن، وقد رفضها سيدنا سليمان، فانتقل الرجل في أبعاد أكبر من أبعاد الجن، ففاق قدرتهم في التنقل والحركة، وتحرر تماما من قوانين الفيزياء التي تحكم جسده وزمنه والبناء الذي سيأتي به من اليمن.

ولأن تلك النواميس لم تعد تتحكم به، فهو متحرر من الزمن كذلك، أي لا يسري عليه الزمن، ولا يسري عليه المكان، وقوانين الإنتروبيا لا تعمل على جسده ولا على الشي الذي سينقله، ولذلك استطاع أن يخترق جميع تلك الجدران الحاجبة والحاجزة، وأن يأتي بعرش بلقيس من اليمن، من دون أن يصيب العرش ولا القصر أي أذى، ومن دون أن يمر الزمن عليه.

مفهوم النظام المغلق الذي كلما مر عليه الوقت زادت فيه الفوضى، ولا يمكن أن تعود طبقتا الرز والعدس إلى ما كانتا عليه

وأما قصة قوانين الإنتروبيا، ففي الفيزياء تشير “الإنتروبيا” إلى مقياس الفوضى أو العشوائية في النظام، فكلما زادت الفوضى أو العشوائية زادت الإنتروبيا، والمقصود أن الأنظمة المغلقة لا يمكن أن تقل فيها تلك الفوضى، بل يجب أن تكون مفتوحة حتى يعود النظام.

يضرب العلماء مثالا عمليا على ذلك، فيقولون: تخيل أنك وضعت في مرطبان زجاجي طبقة من العدس، وفوقها طبقة من الأرز، ثم أغلقت المرطبان (نظام مغلق) وبدأت ترجه وتهزه، فما الذي سيحدث؟ سيختلط العدس بالأرز.

في نظريته النسبية العامة، وضع آينشتين أربعة أبعاد للكون منها الزمن

ماذا لو بقيت ترجه ألف سنة، هل سيعود العدس طبقة واحدة والأرز طبقة أخرى؟ الجواب، لا، بل مستحيل، لأن النظام مغلق، وتزداد فيه العشوائية والفوضى.

ولكن لو فتحنا المرطبان (نظام مفتوح) لاستطعنا فصل حبات العدس عن حبات الأرز، وإعادتها إلى شكلها الأول، وهذا ما لا يمكن أن يحدث في الكون، لأن الكون مغلق بنواميسه، والزمن فيه لا يسري إلا باتجاه واحد، ولا يمكن أن نتحكم فيه.

ماذا نستفيد من هذه القصة؟ وما علاقة الإنتروبيا بقصة عرش بلقيس؟

الإنتروبيا.. فوضى لا يمكن التنبؤ بمخرجاتها

هل تذكرون آلات مسلسلات الخيال العلمي، التي يدخل فيها الإنسان، ثم يختفي ويظهر في مكان آخر من الكوكب أو الكون؟

هذا الخيال العلمي هو المقصود بالإنتروبيا، وهو نظام مغلق لا يمكن التحكم بمخرجاته، فلو أن إنسانا (على الحقيقة) دخل جهازا ينقله إلى مكان أو كوكب آخر، فإن الشيء الذي سيخرج في الناحية الأخرى (على الكوكب الآخر) ربما لا يكون إنسانا، بل كتلة لحم أو شيئا لا شكل له، وربما -في أحسن الأحوال- تصبح عينه في ظهره، أو رأسه في رجله، أو لا يد له.

فاحتمالية أن يعود الإنسان إلى شكله الأصلي بعد أن تبعثر في الجهاز الخارق، هو زيادة في الفوضى، ولا يمكن التنبؤ بمخرجاته.

نفس الشيء يمكن قوله في حق عرش بلقيس، فلو افترضنا أنه دخل جهازا خارقا، فلربما ظهر عند سيدنا سليمان بهيئة مختلفة عن شكله الأصلي.

إذا تحرك الجسم بسرعة تقارب سرعة الضوء فإنه ينكمش حتى لا يكاد يرى منه شيء

وكذا حال الإنسان، فانتقاله بسرعة هائلة تقارب سرعة الضوء سيقتله أولا، ثم يحول جسده إلى رقاقة، بسبب الضغط الهائل الذي يلقاه في اتجاه السرعة، وهي واحدة من نتائج نظرية النسبة الخاصة، فكلما زادت السرعة تقلص الطول، ويسمى ذلك انكماش “فيتزجيرالد”، وقد نظم الفلكي الدكتور عبد الرحيم بدر في ذلك شعرا، فقال:

ليس في الهيجا كزيدْ.. فسواه السيف يُعصى

حرك السيف وشدّ.. سرعة البرق وأقصى

بانكماش فيتزجيرالدْ.. سيفه أصبح قرصا

ليلة الإسراء والمعراج.. رحلة إلى سدرة المنتهى

لم يكن ما حدث ليلة الإسراء والمعراج خاضعا لقوانين الطبيعة قولا واحدا، إنما هي معجزة أكرم الله بها نبينا محمدا ﷺ، فأوتي مثل ما أوتي صاحب علم الكتاب، ونبينا ﷺ أكرم عند الله وأعز وأقرب، فهو يحظى بما لم يحظ به بشر من قبله ولا من بعده، مع بقاء دعوة سيدنا سليمان محفوظة (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِن بَعْدِي)، وقد احترمها رسولنا الكريم ﷺ حين أمسك يوما بجنيّ، ثم أطلقه.

فقد ركب سيدنا محمد ﷺ البراق (الدابة المعجزة)، وكان يرى ويسمع ويكلم سيدنا جبريل (الملك الذي لا يُرى وهو قادم من أبعاد أعلى)، وهذا يعني أن سيدنا محمد ﷺ قد أُلبس حلة القدرة على عبور تلك الأبعاد اللامكانية واللازمانية العليا، وإن كانت الأحداث تذكر مروره بالكثيب الأحمر وبيت لحم، لكنها سريعة غير خاضعة لقوانين السرعة البشرية.

انطلق سيدنا محمد ﷺ بمعية سيدنا جبريل عليه السلام (صاحب الأبعاد الملائكية) إلى السماوات العلى، وهي سماوات غيبية لا يدري كنهها أحد، وكانت رحلة المعراج الطويلة بقصصها وغرائبها، وبلغ سدرة المنتهى ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى)، وكل ذلك غيب لا يعلمه إلا الله، ولا يقع في كوننا ولا تحكمه قوانيننا، ولا يمكننا تعيينه ولا رصده ولا معرفة أين هو.. إنه الغيب المطلق الذي أُمرنا أن نؤمن به.

تعجز قوانين الفيزياء أن تفسر كيف عُرج بالنبي الكريم إلى السماء السابعة وعاد في بضع ساعات

ثم نزل سيدنا محمد ﷺ إلى السماء السادسة، فقابل سيدنا موسى عليه السلام، فسأله عما فرض الله عليه من صلوات، فأجابه بأن ربه عز وجل فرض عليه 50 صلاة في اليوم والليلة، فقال له: ارجع إلى ربك واسأله التخفيف.

وهكذا نزل أمر الصلاة في ليلة المعراج من فوق سبع سماوات، ومفهوم الفوقية هنا نسبي ليس له معنى حقيقي، فالله لا تحده أكوان ولا أزمان، وتعالى الله عما يقول المجسمون.

ثم عاد رسولنا الأكرم ﷺ من السماوات العلى إلى بيت المقدس، ومن هناك عاد إلى مكة المكرمة، كرمها الله، وكان فراشه لا يزال دافئا. وهُنا المعجزة، فكيف يمكن لرحلة تستغرق ذلك الوقت الطويل أن تبدأ وتنتهي والفراش لا يزال دافئا؟

إنه الخروج من الزمان والمكان، والتحرر من قيود نواميس الأرض إلى الملكوت العليا، إلى نواميس الله الكبرى التي يهبها لمن يشاء من عباده، إنه علم الكتاب الذي يهبه الله لمن يشاء من عباده الصالحين.

معجزة وتكريم بعد أحداث سنة أليمة

كانت حادثة الإسراء والمعراج معجزة خارقة لنواميس الكون، جاءت تكريما لنبينا محمد ﷺ بعد أحداث السنة العاشرة الأليمة، التي فقد فيها زوجته خديجة رضي الله عنها، وعمه أبا طالب الذي كان ينافح عنه، وما لقي من تكذيب قريش والطائف له، فجاءت رفعا لمقامه وتصديقا لرسالته، وآية تُعجز الكفار والمشركين والمكذبين، وترفع شأن الصحابة الصديقين رضوان الله عليهم أجمعين.

هل يمكن أن يكون في الكون أبعاد فوق أبعادنا لا نستطيع إدراكها؟

هذه الحادثة في غرابتها، تشبه حادثة الذي عنده علم من الكتاب، واستطاع أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن في لمحة بصر، قبل مرور أي زمن أو وقت.

وما تلك المعجزتان إلا خرقا للنواميس، وخروجا عن الأبعاد المكانية والزمانية التي تحوينا في هذا الكون، فبالتحرر منها يجد الإنسان قدرة غير التي نعرفها في هذا الكون، ولا تحق تلك القدرة إلا للأنبياء والأولياء والملائكة.

والله أعلم.. وصلى الله وبارك على سيدنا محمد صاحب الإسراء والمعراج وعلى آله وصحابته المصدقين له ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

والحمد لله رب العالمين.


إعلان