تاريخ الفولاذ.. محرك الصناعة العالمية وتهديد المناخ الصامت

دخان كثيف ملأ ورشة الحدادة ذات الإضاءة الخافتة، بينما كان الضباب يسود المكان في الخارج في ساعات الصباح الأولى، ومن الداخل كان صوت قرع مطرقة يعلو شيئا فشيئا، وكان الشرر يتطاير في كل اتجاه مع كل ضربة، فينير وجه الحداد المتعرق وهو يرفع مطرقته مرة أخرى ليسدد الضربة التالية.
بين يديه الغليظتين، كانت قطعة حديدية ملتهبة تتشكل على مهل، لتكون أغلى ما يملكه محارب ما من العصور الوسطى، وخلفه كان الفرن يزأر زأرته المعتادة، مطلقا ألسنة اللهب عاليا، كلما وضع الحداد قطعته الثمينة وسط النار، فيتحول لونها من رمادي باهت إلى برتقالي متوهج.
مرارا وتكرارا، بين الحرارة العالية والضرب بالمطرقة، كان الحداد يصنع سيفا مميزا، ثم يغمسه في حوض زيت بارد متخلصا من الحرارة، ثم يصقله بحرفية عالية، حتى يصبح آلة حادة قادرة على مقارعة أعتى جنود العالم. إنه السيف الحديدي.
لكن ثمة مشكلة هنا، فهذه القطعة الحديدية الثمينة -على نجاعتها وقدرتها الفائقة- تحمل عيوبا قد تكلف المحارب حياته، فالسيوف الحديدية ناعمة نسبيا، وقد تنحني مع كثرة مقارعة السيوف أثناء الحرب، ناهيك عن أن الحديد يفقد حدّته مع كثرة الاستخدام، مما يؤدي إلى زوال ميزة السيف بصفته أداة حادة.
من هنا، جاء البحث عن بديل لأداة حربية قادرة على الصمود في أحلك الظروف، وبمحض الصدفة المطلقة وجد بعض الحدادين أن الحديد عند خلطه مع قليل من الكربون ينتج مادة أصلب وأكثر تحملا بمراحل، وأطلقوا عليه اسم “الصّلب”، ثم تطور لاحقا وأصبح اسمه الفولاذ في اللغة الدارجة.
الحديد معدن مقدّس أمطرته السماء
يعد الحديد رابع أكثر العناصر الكيميائية شيوعا في القشرة الأرضية، فضلا عن كونه أكثر المعادن وفرة في الكوكب، ويتصور أن معظم نواة الأرض تتكون من الحديد والنيكل، وعند وجوده في صورته النقية، فإنه يكون عرضة للتآكل السريع، بسبب الهواء الرطب ودرجات الحرارة المرتفعة.

وفي الأساس، فإن الحديد مادة صلبة وهشة، ويصنف من معادن المجموعة الثامنة في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية، كما أنه نادرا ما يكون نقيا في الطبيعة، بل يكون مركبا مع عناصر أخرى ليجرى استخراجه.
يوجد الحديد أساسا في تركيبتين طبيعيتين، تعرفان كيميائيا باسم “الهيماتايت” و”الماغنتايت”. كما يحتوي الحديد على أربعة أشكال بلورية مختلفة، وهي خاصية كيميائي تسمى “التآصل” (Allotropy)، ويعني ذلك أن الحديد يحتوي على أربعة أشكال بنيوية مختلفة، بحيث ترتبط الذرات بأنماط مختلفة، وفقا لمختبر “لوس ألاموس” الوطني، وتسمى هذه الأشكال “الفيريتات”.
وقد ألف الإنسان الحديد منذ عصور طويلة، وطوّعه بتقنيات شتى لتساعده ضمن النطاق المحدود آنذاك، وكانت تلك الحقبة تعرف بالعصر الحديدي، ويمتد من 1200 إلى 500 سنة قبل الميلاد.

ووفقا لإحدى الدراسات القديمة المنشورة في “دورية العلوم الأثرية” (Journal of Archaeological Science)، فثمة شواهد على أن الفراعنة قد عرفوا الحديد، واستخدموه بمهارة عالية لأغراض عدة، قبل نحو 5200 عاما.
يتضح ذلك من المقتنيات الأثرية التي كانت مع الملك الفرعوني توت عنخ آمون، وخنجره الحديدي الموجود الآن في المتحف المصري، ويبلغ عمره نحو 3300 سنة، مع أن صهر الحديد وتصنيعه لم يكن متعارفا عليه آنذاك.
كما لم يكن ظهور الأدوات الحديدية محصورا في منطقة واحدة من العالم، بل امتد إلى مشارق الأرض، فقد اكتُشفت فؤوس حديدية في الصين، وفي أقصى الغرب اكتشفت خرزات حديدية في أمريكا الشمالية، وتثبت الكتابات والنقوش المصرية القديمة الموجودة في قبر “أوناس” أن القدامى كانوا على دراية بأن الحديد كان يأتي من السماء على ظهر النيازك.

ويعد “أوناس” آخر فراعنة الأسرة الخامسة في مصر، وقد حكم في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد خلال عصر الدولة القديمة، وهو معروف بكونه أول حاكم مصري ينقش نصوص الأهرام داخل هرمه في سقارة.
يقول أحد هذه النصوص إن “أوناس قد استولى على السماء، ونزع منها الحديد”. وقد فسرته د. “فيكتوريا ألمانسا-فيلاتورو”، وهي من علماء المصريات المختصين بالهيروغليفية، بقولها إن السماء كانت عبارة عن حوض حديدي كبير مملوء بالماء والمعادن، وكانت تمطر كليهما، بما في ذلك الحديد على وجه الخصوص، وفقا لاعتقاد الفراعنة.1
ويتضح هنا أن مُشكلي الحديد القدامى، كانوا يدركون حقيقة المصدر الآخر للحديد، وهو النيازك الساقطة على الأرض والمنتشرة على سطح الكوكب، ذلك لأن تقنية صهر الحديد واستخراجه نقيا من بقية المعادن المختلطة لم يكن معروفا يومئذ.

كما أن حقبة ما قبل الحديد كانت تُعرف بالعصر البرونزي، والبرونز عبارة عن سبيكة من النحاس والقصدير، يخلطان معا لتشكيل مركب صلب قابل لتطويعه في عدد من الاستخدامات الجوهرية، لا سيما على مستوى الأدوات الحربية.
لكن اكتشاف الحديد -وهو أقوى وأصلب- دفع للانتقال من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي تدريجيا، ذلك لأن التعامل مع الحديد لم يكن سهلا، فقد تطلب جلادة ومهارة عاليتين، بحكم أن درجة انصهار الحديد عالية (نحو 1538 درجة مئوية)، ولا يمكن تحقيق ذلك في الأفران البدائية القديمة، على عكس درجة انصهار البرونز المنخفضة نسبيا (نحو 900 درجة مئوية).
كانت الطريق الوحيدة لتشكيل أدوات حديدية مفيدة عبر تقنية “التشكيل البارد” (Cold Working)، عن طريق طرقه مرارا وتكرارا، إلى أن يتخذ شكلا مناسبا للاستخدام.
حديد الزهر.. مزيج سحري بين المعدن والكربون
تزامن اكتشاف الحديد مع تطور الأفران المخصصة لإذابة المعادن (Metallurgical Furnaces)، وظهرت أولى محاولات إذابة الحديد بما يسمى فرن “البلومري” أو الفرن البدائي، وكان يعتمد على إشعال النار في مساحات مغلقة، تسمح بتحقيق درجات حرارة عالية، تكفي لجعل الحديد أكثر ليونة وقابلية للطرق والتشكيل، مما ساعد في صنع الأدوات الحديدية.
كانت الأفران البدائية تستخدم لصهر الحديد واستخلاصه من أكاسيده، ليصبح معدنا خالصا نقيا، وكانت النتيجة عبارة عن كتلة مسامية من الحديد الخالص و”الخبث”، وهو مادة غير مرغوب فيها، تنفصل عن المعدن أثناء الصهر أو التكرير.

وفي صهر الحديد، يتكون الخبث من مجموعة من المركبات الكيميائية تشمل الشوائب، مثل أكاسيد المعادن، والمركبات الأخرى التي تلتصق بالمعدن الخام. ويفصل الخبث عن المعدن المنصهر بحكم كثافته الأقل، فيطفو فوق المعدن المنصهر ويزال بسهولة.
وعند درجات الحرارة العالية جدا، يبدأ الحديد في امتصاص الكربون القادم من الحطب المحترق، مما يقلل نقطة انصهار المعدن نفسه، فينتج “الحديد الغفل” (الذي يحتوي على 3.5 إلى 4.5٪ من الكربون)، وهي المادة الخام الأولية غنية بالكربون لا يمكن تشكيلها، بل تتطلب معالجتها مرة أخرى.
عندما أدرك الحدّادون أن نسبة الكربون العالية في الحديد كانت سببا رئيسا في مشكلة الهشاشة، جربوا طرقا جديدة لتقليص نسبة الكربون، فوصلوا إلى أقصى حد باستخدام الطرق التقليدية، فانخفضت نسبة الكربون إلى 2% من وزن القطعة الحديدية، وتحول الحديد حينها إلى ما يسمى “حديد الزهر”.
يصب هذا الحديد المنصهر في قوالب لتشكيل الأشكال المطلوبة، ويستخدم في الأواني المنزلية، لكنه مع ذلك ظل هشا، لا يعول عليه في المشاريع الضخمة.
الحديد المطاوع.. ثورة صناعية تستهلك وقودا كثيرا
وبحلول أواخر القرن الثامن عشر، تعلم الحدّادون كيفية تحويل الحديد الزهر إلى “الحديد المطاوع” منخفض الكربون، باستخدام أفران التسويط (Pudding Furnaces)، التي طورت عام 1784.
كانت هذه الأفران تسخّن الحديد المنصهر، الذي كان يجب تحريكه بأدوات طويلة على شكل مجاديف، مما يسمح للأكسجين الموجود بامتصاص الكربون وإزالته ببطء، فتنخفض نسبة الكربون إلى 0.8%.
ومع انخفاض نسبة الكربون إلى هذا الحد، تزداد نقطة انصهار الحديد ويصبح أكثر تماسكا وليونة، ثم يبدأ الحديد بالتكتل في الفرن، وتستخرج هذه الكتل الحديدية وتدمج معا بالطرق بمطرقة ثقيلة تدعى “تيلت هامر” (Tilt Hammer). وبحلول عام 1860، كان هناك أكثر من 3 آلاف فرن تسويط في بريطانيا وحدها، لكن العملية ظلت تعاني من استهلاك الوقود العالي.2

ومع أن الحديد المطاوع كان أكثر ملائمة من غيره في الأغراض البسيطة، فإنه لم يكن قويا بما يكفي لمقاومة الضغط والأحمال، وظلت البشرية آنذاك في نطاق ضيق من التوسع في البنيان والعمران.
كما أن علماء المادة والمهندسين قد بلغوا مبلغا كبيرا من الوعي والإدراك، حول الخواص الكيميائية، التي تضفيها نسب الكربون المختلفة على سبيكة الحديد حينما يمتزجان معا، إلا أن آليات وطرق التحكم بهذه النسب ظلت عصية، وقدروا أن نسبة الكربون ينبغي أن تتراوح بين 0.8 إلى 2% للحصول على أفضل سبيكة حديد، وهو ما أطلقوا عليه “الفولاذ”.
ولم يكن إنتاج الفولاذ سهلا، بسبب التعقيدات والتكاليف الباهظة لتحقيق مثل هذه النسب المثالية، حتى حلّ منتصف القرن التاسع عشر، حين طرح المهندس البريطاني “هنري بسمر” ابتكارا مذهلا، من شأنه أن يغير وجه الأرض إلى الأبد.
طريقة “بسمر”.. طفرة صناعية تمهد طريق النهضة
ارتكزت الثورة الصناعية على بناء البنية التحتية الواسعة للمدن الحضرية، من السكك الحديدية والجسور وناطحات السحاب والبواخر العملاقة، وكان الفضل كله يعود إلى ظهور الفولاذ بحلّته المستخدمة اليوم.
وكانت نقطة التحول الحقيقية في عام 1856، عندما ظهرت طريقة “بسمر” لإنتاج الفولاذ، وتعد أول طريقة فعالة وغير مكلفة لإنتاج الفولاذ بكميات ضخمة، وتحمل اسم مخترعها الإنجليزي “هنري بسمر”.
تعتمد طريقة “بسمر” على إدخال الأكسجين في الحديد المنصهر، بهدف تقليل نسب الكربون، وسميت هذه التقنية “أكسدة الحديد”، وقد صمم وعاء بيضاوي الشكل من الفولاذ، مبطّن بطبقة من الطوب الطيني يسمى “المحوّل”، يسكب فيه الحديد المنصهر، ثم يمرر تيار من الهواء عبر فتحات مخصصة من الأسفل.
وخلال هذه العملية، يتفاعل الأكسجين مع الكربون، منتجا ثاني أكسيد الكربون وأول أكسيد الكربون، بالإضافة إلى تحرير الحديد من الشوائب الأخرى، مثل أكسيد المنغنيز، وثاني أكسيد السيليكون.

لقد تميزت عملية “بسمر” بسرعتها وتكلفتها المنخفضة، فقد استطاعت إزالة الكربون والسيليكون من الحديد خلال دقائق معدودة، وفي هذه المرحلة يتخلص الحديد من الشوائب، إما عن طريق غازات تخرج من فم الوعاء الضخم، أو قطع صلبة تتكوّن أعلى المائع الموجود، بحكم أن جميع هذه الشوائب أقل كثافة من الحديد، فتزال يدويا. ولأن تفاعلات الأكسدة تطلق الحرارة، فإن الحديد يبقى في حالة سائلة، وهذه ميزة أخرى لا تتطلب مصدر حرارة خارجيا.
كل ما بقي الآن هو إضافة اللمسة السحرية على الحديد السائل، وهو رمي الكربون بالمقدار الصحيح الذي لا ينبغي أن يزيد عن 2% ولا يقل عن 0.8%، بالإضافة إلى إمكانية إضافة أي عنصر آخر يساعد على تحسين مواصفات الفولاذ، مثل إضافة عنصر الكروم المسؤول عن جعل الفولاذ مقاوما للصدأ.
لقد كانت جميع الخطوات مدروسة بعناية فائقة، مع صعوبة التعامل مع تلك المعادن المنصهرة التي تشبه الحمم البركانية المرعبة، وتبلغ درجة حرارتها 1500 درجة مئوية، علاوة على استخدام الأدوات الثقيلة التي يبلغ وزنها عدة أطنان، فكان أغلب التحكم بأجهزة خاصة عن بعد، وأحيانا أخرى بشكل يدوي.
أدى هذا التطور إلى تحول جذري في صناعة الفولاذ، فأصبح ممكنا استخدام خام الحديد من أي مصدر في العالم، فانخفضت تكاليف الإنتاج كثيرا. وبحلول عام 1884، انخفضت أسعار قضبان السكك الحديدية الفولاذية بأكثر من 80%، مقارنة بأسعارها عام 1867، فازدهرت صناعة الفولاذ العالمية، ومهدت الطريق لنهضة صناعية كبرى.3
الفولاذ الدمشقي.. حرفة سرية تصنع أقوى السيوف العربية
لم تتوقف براعة العرب عند فنون القتال والإقدام، بل إنهم أبدعوا في صناعة السيوف العربية، التي تغنى بها كثير من الشعراء عبر العصور، ومن ذلك قول أبي الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة الحمداني، مشيرا إلى نسبه الأصيل من قبائل نزار بن معد، فقال:
تُهابُ سيوفُ الهِندِ وَهيَ حَدائِدٌ
فَكَيفَ إِذا كانَت نِزارِيةً عُرْبا
وكان السيف العربي يتميز بتصميمه الأنيق والمتين، جامعا بين الجمال والفعالية القتالية، ويتكون من نصل منحنٍ قليلا مصنوع من الحديد، مما يجعله مثاليا للضربات القاطعة السريعة، على عكس السيوف الأوروبية التي كانت مستقيمة وثقيلة. ويبلغ طوله عادة بين 70-100 سم، ويزخرف بنقوش عربية وآيات قرآنية، مما يضفي عليه طابعا جماليا وروحيا.

أما المقبض فهو مصنوع من مواد فاخرة منها العاج والفضة، ومصمم ليمنح المقاتل قبضة ثابتة أثناء القتال، ويرافق السيف غمد مصنوع من الجلد أو الخشب أو المعدن، مزيّن بزخارف هندسية، ويستخدم لحماية النصل وحمله بسهولة.4
وخلال القرنين الثالث والرابع الميلادي -أي في بداية العصر الأموي- أخذت القوافل التجارية تقدم إلى دمشق محملة بشتى أنواع البضائع، ومنها الفولاذ الهندواني الذي كان يأتي من الهند، وكانت صناعته محتكرة هناك. ومع مرور الوقت وازدياد مهارة الحرفيين الدمشقيين، ظهر الفولاذ الدمشقي، وشاع استخدامه في صناعة السيوف بديلا عن الحديد.
كانت السيوف الدمشقية تتميز بنقوشها الفريدة المخططة والموشاة بنقوش متعددة الألوان والأشكال، إلى جانب صلابتها العالية، فكانت قادرة على اختراق الدروع، ومقاومة للاهتراء، واشتهرت أيضا بقدرتها الفائقة على الشحذ والسّن، فأصبحت حادة قاطعة حتى قيل إنها تستطيع قطع شعرة ساقطة على النصل.
كما كانت صناعة السيوف الدمشقية تحيطها السرية، وتنقل مهاراتها بين الحرفيين جيلا بعد جيل حتى اندثرت، دون أن توثَّق طريقة تصنيعها الأصلية، وكلّ ما ظلّ منها يعد قطعة أثرية نادرة لا يمكن تكرارها.

ويتميّز الفولاذ الدمشقي عن غيره بمظهره الخارجي الفريد ذي الطابع التموّجي الأنيق، فضلا عن تركيبته الكيميائية التي لا تزال غامضة حتى اللحظة، فقد سعت بعض الأبحاث لدراسة ما بقي من الفولاذ الدمشقي، وكانت المفاجأة اكتشاف أنابيب نانوية كربونية، وتبيّن للباحثين أن الحرفيين كانوا يضيفون أجزاء نباتية مثل الأوراق والأغصان الخشبية، أثناء صهر الفولاذ الهندواني، لتكون مصدرا إضافيا للكربون، بالإضافة إلى استخدام خامات حديدية غنية بعناصر كيميائية محددة. وبعد الصهر، كانت الصبّات تخضع للطرق والتشكيل بمهارة عالية لصناعة السيوف.5
ومع أن صناعة الفولاذ تطورت وظهرت أنواع حديثة تفوق الفولاذ الدمشقي أداء، فإن العمليات الكيميائية الفريدة التي صاحبت تصنيعه جعلته استثنائيا في زمانه، فقد جمع بين اللدونة الفائقة والصلابة العالية، مما منحه مكانة بارزة في تاريخ الأسلحة الحربية.
وقد اضمحلّت صناعة السيوف من الفولاذ الدمشقي تدريجيا، وانقطعت سلسلة نقل المعرفة بين الحدّادين، حتى اندثرت تلك الحرفة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع انقطاع قوافل التجارة وتوقف قدوم الفولاذ الهندواني في تلك الحقبة.
فولاذ أفران القوس الكهربائي.. ازدهار الصناعة
مع انتشار الكهرباء، ظهر فرن القوس الكهربائي، وهو يعتمد على صهر خردة الفولاذ والحديد المختزل مباشرة داخل الفرن، باتخاذ أقواس كهربائية عالية الجهد مصدرا للحرارة.
وعلى عكس الأفران التقليدية التي تعتمد على الفحم وخام الحديد، تستخدم هذه الأفران الكهرباء أساسا، فتصبح أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، وأقل تأثيرا على البيئة.
توفر أفران القوس الكهربائي مزايا كبيرة، منها انخفاض انبعاثات الكربون، وسرعة الإنتاج، ومرونة أكبر في تشكيل مكونات الفولاذ. كما يمكن تشغيلها وإيقافها بسهولة، على عكس الأفران التقليدية التي تحتاج للعمل المستمر. ونتيجة لذلك، تستخدم هذه الأفران على نطاق واسع في إنتاج الفولاذ عالي الجودة.

وقد شهدت صناعة الفولاذ ازدهارا متسارعا، حتى أصبحت من المؤشرات الأساسية على التقدم الاقتصادي، نظرا لدوره الحاسم في البنية التحتية. ففي عام 1980، كان أكثر من نصف مليون عامل يعملون في صناعة الفولاذ بالولايات المتحدة وحدها.
“مصلحة إستراتيجية وطنية” تلوث البيئة
وأدى النمو الاقتصادي السريع في الصين والهند إلى زيادة هائلة في طلب الفولاذ، فارتفع الطلب العالمي بنسبة 6% بين عامي 2000-2005. وفي تقرير صادر عن هيئة المسح الجيولوجي البريطانية عام 2005، كانت الصين أكبر منتج للفولاذ، مستحوذة على نحو ثلث الإنتاج العالمي، تليها اليابان وروسيا والولايات المتحدة. لكن إنتاج الفولاذ الضخم ترافقه أيضا انبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، مما يجعله من أكثر الصناعات تسببا للتلوث البيئي.6
وفي عام 2021، قدِّر أن صناعة الصلب تسببت في نحو 7% من إجمالي انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري عالميا، ويُتوقع الحد من هذه الانبعاثات من خلال التحول عن طرق الإنتاج التقليدية التي تعتمد على الفحم، وزيادة إعادة تدوير الفولاذ، بالإضافة إلى تطبيق تقنيات التقاط الكربون وتخزينه.
ومع كل القوانين والضوابط البيئية، لا تزال بعض المصانع العريقة تحتفظ بأساليب إنتاج قديمة، بلا مراعاة للمعايير الحديثة، مما يسبب كوارث إنسانية وبيئية. يستعرض وثائقي “ضحايا الفولاذ” الذي تعرضه الجزيرة الوثائقية، قصة أحد هذه المصانع في مدينة تارنتو الإيطالية، المعروفة بقلعتها العريقة وعمارتها الباروكية، إلا أن هذه المشاهد الجميلة تخفي وراءها مأساة إنسانية.

تضم المدينة أحد أكبر مصانع الفولاذ في أوروبا، وهو مصنع سيئ السمعة بسبب الانبعاثات الخطيرة التي يطلقها، مما أدى إلى انتشار الجسيمات السامة على نطاق واسع، وقد تسببت هذه الملوثات في ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان، فضلا عن تراجع معدل الذكاء لدى الأطفال، وظهور إعاقات لم تلاحظ في مناطق أخرى من البلاد.
يستعرض الفيلم كفاح السكان زمنا طويلا ضد المصنع، فقد نظمت مظاهرات ورفعت لجان حقوقية دعاوى قضائية ضد ملّاكه، حتى أن المفوضية الأوروبية أقامت دعوى ضد إيطاليا، لعدم امتثالها للوائح الاتحاد الأوروبي بشأن الانبعاثات الصناعية.
لكن النفوذ السياسي والاقتصادي حال دون تنفيذ أي إجراءات صارمة ضد المصنع، فلم تزل الحكومة الإيطالية ترفض إيقافه، فصناعة الفولاذ “مصلحة إستراتيجية وطنية”. حتى أن رئيسة الوزراء الحالية “جورجيا ميلوني”، شددت على أهمية استمرار المصنع، مع ما له من تداعيات بيئية وصحية كارثية.
المصادر:
[1] بانيت، جاي (2023). كيف اكتشفت الثقافات القديمة الحديد لأول مرة؟ لقد سقط من السماء. الاسترداد من: https://www.nationalgeographic.com/premium/article/how-ancient-cultures-discovered-iron-feature
[2] بيل، تيرينس (2020). تاريخ الفولاذ. الاسترداد من: https://www.thoughtco.com/steel-history-2340172
[3] نيشال، نيدي، وكومار، فيغاي (2023). صياغة المستقبل: رحلة اقتصادية وجغرافية لإنتاج الفولاذ العالمي ومساره المستقبلي. الاسترداد من: https://www.intechopen.com/chapters/1147796
[4] هوار، جيمس (2019). حدادو دمشق في العصور الوسطى صنعوا أجمل وأثمن السيوف. الاسترداد من: https://www.thevintagenews.com/2019/04/17/damascus/
[5] ريبولد، م. (2006). أنابيب الكربون النانوية في سيف دمشقي قديم. الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/444286a
[6] أنتوسوفا، م. وآخرون (2013). دراسة مقارنة لشركات الصلب في أوروبا. الاسترداد من: https://hrcak.srce.hr/file/141064