النوم في رمضان.. خطة بين القيام والصيام لتفادي اضطراب الساعة البيولوجية

في قلب مدينة الفسطاط التاريخية، حيث الشوارع الحجرية تتوسط المدينة، وتتفرّع إلى أزقة ضيقة بين المنازل المتراصة بعضها على بعض، كان رجل يسير وحيدا يشقّ ظلمة الليل بمصباح زيتي خافت، وعليه جلباب فضفاض ينساب مع حركة الهواء، وعمامة سميكة على رأسه تقيه لسعات البرد في الساعات الأخيرة من الليل، وحول رقبته تدلّت طبلة صغيرة، يضربها بالعصا التي يحمل بيده الأخرى، مرددا ألحانا عذبة ومؤنسة، وينشد بصوت جهوري “اصحى يا نايم.. اصحى وحد الدايم”، فيجوب بنغمات إيقاعية منسجمة مع هدوء المدينة التي كان يعمها السكينة.

باتت تلك العادة موروثا تاريخيا يمتد لأكثر من ألف عام، يعود إلى زمن الأمراء المسلمين الذين سنوا سنة إيقاظ الناس للتسحر في شهر رمضان المبارك، وعهدوا بها إلى رجال عُرفوا باسم “المسحرين”، ويسمى أحدهم اليوم “المسحراتي”.

وقد تبلورت هذه العادة بصورتها الحالية في مصر، وفقا لما تذكر المصادر التاريخية القديمة. فقد ذكرها الحريري (ت: 516 هـ) بالمقامة البصرية من كتابه “مقامات الحريري”، فقال: “ثمّ إنّكم أكثر أهل مصر مؤذّنين، وأحسنهم في النّسك قوانين، وبكم اقتدي في التّعريف، وعرف التّسحير في الشّهر الشّريف، ولكم إذا قرّت المضاجع، وهجع الهاجع، تذكار يوقظ النّائم، ويؤنس القائم.”1

ثم إنه قد ذاعت هذه العادة وانتشرت في كافة الأقاليم الإسلامية، وكان لكل من قوم عاداتهم وأنماطهم في الإعلان عن وقت السحور، فيقول الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي (1880-1937م) في كتابه “كتاب تاريخ آداب العرب”: فنظم البغداديون نشيدا، يُطلق عليه القوما، كانوا ينشدونه عند السحور في رمضان كما يفعل المسحرون بالقصص والأدعية لعهدنا، وسمي بذلك من قول المغنيين “قومًا نسحر قومًا” وجعلوه على وزن هذه الكلمات الثلاث، ثم فرعوا منه فروعا، دعوها الزهري والخمري وغيرهما، على حسب المعاني التي ينظمون فيها، ومن هذا النوع ما نظمه الصفي الحلي يسحر به بعض الخلفاء:

لا زال سعدك جديد .. دائم وجدك سعيد

في تلك الأجواء الرمضانية التي كانت تحمل طابعا روحانيا هادئا، تملؤها السكينة والانضباط العالي، لم يشهد الصائمون في تلك العصور أيّا من المشاكل الناتجة عن اضطراب النوم، لكن مع نهاية القرن الماضي، والطفرة المفاجئة، وتكاثر المطاعم وأماكن الترفيه، حدث خلل كبير في النمط الغذائي والجهد البدني، فأثّر على النوم تأثيرا كبيرا.

المسحراتي، تقليد إسلامي عمره 1000 عام

وفي دراسة أجرتها جامعة الملك عبد العزيز في جدة، تقول الباحثة سهاد باحجري إن الصائم يحقق فوائد قيمة، ومع ذلك فإن هناك آثارا سلبية حقيقية بسبب اضطراب أنماط النوم الناجم عن العمل بنظام المناوبات، كما يحدث في شهر رمضان. كما يؤدي تغيير نمط الحياة إلى زيادة خطر الإصابة بالأمراض المزمنة، لأن جيناتنا لا تتطور بالسرعة الكافية للتعامل مع هذه التغيرات.

اضطراب الإيقاع البيولوجي في رمضان

مدار الأمر كله على الإيقاع البيولوجي، أو الساعة البيولوجية، وهو نظام داخلي دقيق ينظم دورات النوم واليقظة لدى الكائنات الحية، كما يتحكم في إفراز الهرمونات والعمليات الحيوية استجابة للتغيرات البيئية، مثل التعرض للضوء، ومواعيد الطعام، ومستويات النشاط البدني. ويعمل هذا النظام بتناغم مع الدورة اليومية، لضمان الأداء الأمثل لوظائف الجسم.

وعند اضطراب الإيقاع البيولوجي -كما يحدث عند السفر بين المناطق الزمنية المختلفة أو عند تغير أنماط النوم- يجد الإنسان مشكلات منها الأرق أو النعاس المفرط خلال النهار، وقد يستغرق الجسم عدة أيام لاستعادة توازنه والتكيف مع الجدول الجديد.

حركة الدماغ أثناء النوم من خلال التصوير الطبقي

وفي الأجواء الرمضانية المعاصرة، يضطرب هذا الإيقاع اضطرابات عدة، أبرزها التغيرات المفاجئة في مواعيد الطعام، والإفراط في استهلاك الوجبات، والسهر الطويل مع ممارسة نشاط غير معتاد، مما يؤدي إلى اختلال استقرار الإيقاع البيولوجي. وبطبيعة الحال، ينعكس ذلك سلبا على جودة النوم والصحة العامة خلال الشهر الكريم.

يؤثر نوع الطعام وتوقيته على تنظيم الساعة البيولوجية، فالوجبات الغذائية تسهم في إفراز هرمونات منها الأنسولين والكورتيزول، التي تنظم مستوى الطاقة في الجسم. وعند تغيير مواعيد الطعام بتركه في النهار وأكله في الليل، يجد الجسم صعوبة في إعادة ضبط إيقاعه الطبيعي.

كما تذكر الدراسات أن أكل الوجبات الثقيلة آخر الليل قد يؤدي إلى اضطرابات في النوم، فيستهلك الجسم طاقة إضافية لهضم الطعام بدلا من الدخول في مرحلة النوم العميق. في المقابل، فإن أكل وجبات خفيفة غنية بالبروتينات والألياف قبل النوم قد يساعد في تحسين جودة النوم وتقليل عدد مرات “الاستيقاظ الليلي”.

وفي هذا السياق، نُشرت دراسة في دورية “سبرينغر نيتشر” عام 2019، حلّلت بيانات مستخلصة من 24 دراسة، شملت 646 مشاركا متوسط أعمارهم 23.7 عاما، كان 73% منهم من الذكور، وأُجريت هذه الدراسات في 12 دولة.

الطعام الصحي والوجبات الخفيفة قبل النوم تضمن نوما عميقا

وقد قيّمت الدراسة تأثير صيام رمضان على إجمالي وقت النوم ومستويات زيادة النعاس أثناء النهار، باستخدام مقياس “إبورث للنعاس” (Epworth Sleepiness Scale).

وخلصت النتائج إلى أن متوسط إجمالي وقت النوم انخفض انخفاضا ملحوظا من 7.2 ساعات في الليل قبل رمضان إلى 6.4 ساعات خلال الشهر الفضيل، في حين ارتفع متوسط درجة النعاس النهاري من 6.1 قبل رمضان إلى 7.0 خلاله.

وتعكس هذه النتائج الأثر السلبي الملحوظ، الذي يرافق التغيرات في نمط النوم خلال رمضان، مما يستدعي اتخاذ تدابير للتخفيف من اضطراب الساعة البيولوجية، والحفاظ على جودة النوم والصحة العامة.

إنتاج هرمون النوم أثناء الصيام

تعتمد دورة النوم والاستيقاظ على إفراز هرمون الميلاتونين، وهو العنصر الرئيس في تنظيم الإيقاع البيولوجي للجسم. ويُفرز هذا الهرمون أكثر مع حلول الظلام، مما يهيئ الجسم للنوم، في حين ينخفض مع شروق الشمس، فيعزز حالة اليقظة ويُساعد الجسم على التكيف مع اليوم الجديد.

ويتأثر هذا النظام البيولوجي بعدد من العوامل البيئية والسلوكية، أبرزها التعرض للضوء، ومواعيد الطعام، ومستويات النشاط البدني، فكل منها يسهم في تعديل مستوى الميلاتونين وتهيئة الجسم للانتقال بين مراحل النوم واليقظة.

وفي هذا السياق، تناولت دراسة بارزة نشرت في دورية “جورنال أوف سليب ريسيرتش” عام 2004، مدى تأثير الصيام على أنماط النوم وجودته، واختبر فيها الباحثون 8 متطوعين أصحاء في 3 أزمنة: زمن قبل رمضان، وزمن الأسبوع الأول من رمضان، ثم زمن الأسبوع الثالث من رمضان.

أجهزة صغيرة تساعد في تسجيل النشاط الكهربائي في المخ أثناء النوم

وقد بات ممكنا اليوم اقتناء أجهزة صغيرة تساعد على تسجيل النشاط الكهربائي في المخ أثناء النوم، بلا حاجة للذهاب إلى المختبرات، وهو ما يعد ثورة في المجال الطبي.

وقد استخدم الباحثون تقنيات متقدمة، منها “اختبار النوم المتعدد” (Polysomnography) لتقييم إيقاع النوم، و”اختبار كمون النوم المتعدد” (MSLT) لقياس مستوى زيادة النعاس أثناء النهار، كما قيست مستويات الميلاتونين في البلازما، لدراسة التغيرات في الإيقاع اليومي لهذا الهرمون، نتيجة للصيام وتغير مواعيد النوم والاستيقاظ.

تثبت نتائج الدراسة أن نمط الحياة خلال شهر رمضان يسبب تغييرات ملحوظة في إيقاع النوم، فقد لوحظ انخفاض في مدة النوم الكلي، وزيادة في نسبة مرحلة النوم السريع (REM)، وهي مرحلة النوم التي يرتبط فيها نشاط الدماغ بعدد من العمليات الحيوية، مثل الذاكرة والمعالجة العاطفية. ومع كل هذه التغيرات في إيقاع النوم، لم تُظهر الدراسة تأثيرا كبيرا على زيادة النعاس أثناء النهار.

من جهة أخرى، أظهرت الدراسة أن التغيرات في مستويات الميلاتونين تتوافق مع تعديل الإيقاع اليومي للهرمون، وهو ما يعد استجابة حيوية لتغير مواعيد النوم والاستيقاظ المرتبطة بالصيام. هذه التعديلات في مستوى الميلاتونين قد تسهم في تفسير التغيرات التي تحدث في أنماط النوم في رمضان، ومدى إمكانية تكيّف الجسم مع هذه التغيرات بمرور الوقت.

بالمجمل، توضح هذه الدراسة أهمية التكيف البيولوجي الذي يحدث خلال شهر رمضان، حيث يستطيع الجسم ضبط الإيقاع البيولوجي ليتماشى مع التغييرات الطارئة على مواعيد النوم والأكل، مع ما نرى من تأثيراتها الواضحة على إيقاع النوم.

أثر النوم المتقطع والعميق على صحة الصائم

يعد النوم عملية فيزيولوجية معقدة تنظمها شبكات عصبية وأنماط محددة من النشاط الكهربائي في الدماغ، وهي عملية حيوية ودورية من فقدان الوعي الجزئي، وتتميز بانخفاض النشاط الحركي والاستجابة للمحفزات الخارجية. ويتكوّن النوم من مراحل عدّة، يمكن تصنيفها إلى 4 مراحل:

  • المرحلة الأولى (النوم الخفيف): وهي مرحلة انتقالية بين اليقظة والنوم، وفيها يسترخي الجسم، ويكون الإنسان قادرا على الاستيقاظ بسهولة.
  • المرحلة الثانية (النوم المتوسط): يتباطأ فيها معدل ضربات القلب، وتنخفض درجة حرارة الجسم، ويكون الإنسان أقل حساسية للأصوات أو المؤثرات المحيطة.
  • المرحلة الثالثة (النوم العميق): تعرف بمرحلة النوم العميق أو الموجة البطيئة، وهي حيوية لإصلاح الأنسجة، وتعزيز جهاز المناعة، وتجديد الخلايا.
  • المرحلة الرابعة (حركة العين السريعة): تحدث فيها الأحلام، وهي ضرورية لتعزيز الذاكرة والتعلم والإبداع، ويُتصور أنها تساعد الدماغ على تنظيم المعلومات والذكريات.
في مراحل النوم الأربعة، تكون المرحلة الرابعة (مرحلة حركة العين السريعة) أقرب شيء لحالة اليقظة

وبسبب النمط الحياتي المتبع، لا يصل الصائم إلى الإشباع الكافي في النوم، فيحدث اضطراب “النوم المتقطع”، وهو حالة تحدث عندما يتخلل الاستيقاظ نوم الإنسان، فيمنع الجسم من الوصول إلى مراحل النوم العميق بالشكل الكافي.

ويؤدي ذلك إلى الشعور بالتعب والإرهاق خلال النهار، وضعف التركيز، واضطرابات المزاج. كما يزيد النوم المتقطع إفراز هرمونات الجوع، مثل “الغريلين”، مما قد يجعل الصيام أكثر صعوبة، لأن الإنسان يشعر بالجوع المستمر.

علاوة على ذلك، يمكن أن يزيد النوم المتقطع مستويات الإجهاد في الجسم، ويؤثر على الأداء العقلي والبدني خلال اليوم، وهو أمر مهم خلال شهر رمضان، حين يلقى الصائمون تحديات إضافية تتعلق بالتغذية والنشاط البدني.

النوم العميق.. حاجة ملحة لجسد الصائم وذهنه

يعد النوم العميق أمرا بالغ الأهمية لاستعادة الطاقة، وتعزيز جهاز المناعة، وإصلاح الأنسجة التالفة، ويساعد النوم العميق الكافي الصائم على التكيف مع تحديات الصيام، مثل التغيرات في مواعيد الأكل والنشاطات اليومية.

وفي رمضان، قد يحتاج الإنسان إلى تعزيز نومه العميق، لكي يستطيع التعامل مع ساعات الصيام وتلبية احتياجاته الجسدية والعقلية، ويمكن أن يساعد النوم العميق أيضا في تحسين التركيز، وتقليل التوتر، وتقليل الإحساس بالنعاس أثناء النهار.

نمط نوم لأحد المرضى، ومناطق اللون الأخضر الغامق (المرحلة الثالثة) هي لفترة النوم العميق

ومن المهم أن يسعى الصائم في رمضان إلى الحفاظ على دورة نوم منتظمة، لتقليل فرص حدوث النوم المتقطع، وهذا يتضمن تنظيم مواعيد النوم بشكل مناسب، كما يجب تجنب الطعام الثقيل، لا سيما قبل النوم، وتوفير بيئة مناسبة للنوم العميق، مثل تقليل التعرض للإضاءة الصناعية في الليل.

ويعد النوم العميق جزءا أساسيا في الحفاظ على صحة الصائم البدنية والعقلية في رمضان، كما يعزز أداءه العام في الحياة اليومية والعبادة.

وخير ما يقوم به الصائم خلال الشهر الفضيل، هو ما كان عليه الناس قبل حدوث طفرة المطاعم ودعايات المنتجات الغذائية المرتبطة بحلول الشهر الكريم، فيكفيه أكل وجبة خفيفة على الإفطار فيها قدر كافٍ من الكربوهيدرات، مثل الوجبات التي تحتوي على السكريات والنشويات، التي تعد سريعة الهضم، وتتحول بسهولة إلى طاقة.

النوم العميق غير المتقطع في رمضان هو أساس الحفاظ على كفاءة عالية طيلة اليوم

بعد ذلك يتفرغ الصائم للعبادة حتى الانتهاء من التراويح، وحينها يمكن أن يتبعها بوجبة خفيفة تحتوي على أهم العناصر الغذائية، مثل البروتين والفيتامينات والمعادن والدهون الطبيعية، لكن بكميات محدودة، لكي يتسنى له النوم بهدوء والدخول إلى النوم العميق بسهولة.

وعند الاستيقاظ للسحور يأكل وجبة مليئة بالألياف مع قليل من ملح الطعام (كلوريد الصوديوم)، لأن الصوديوم من أكثر الأيونات أهمية في وظيفة الإلكتروليتات داخل الجسم، وهذه الأيونات تعمل على تنظيم التوازن المائي والضغط الأسموزي داخل الخلايا، الأمر الذي يقلل خسارة سوائل الجسم بسهولة.

 

المصادر:

[1] أبو العباس الشريشي. كتاب شرح مقامات الحريري. دار الكتب العلمية، بيروت. الطبعة الثانية. ج3 ص459

[2] مصطفى صادق الرافعي. كتاب تاريخ آداب العرب. دار الكتاب العربي، دمشق. ج3 ص117

[3] محررو الموقع (2017). اضطرابات النوم تلغي فوائد شهر رمضان. الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/d42473-018-00397-2

[4] الفارس، معزالإسلام، وآخرون (2019). ورقة بحثية: تأثير الصيام على النوم في رمضان: مراجعة منهجية وتحليل تلوي. الاسترداد من: https://link.springer.com/article/10.1007/s11325-019-01986-1

[5] باهمام، أحمد، وآخرون (2013). ورقة بحثية: تأثير صيام رمضان على أنماط النوم والنعاس أثناء النهار: تقييم موضوعي. الاسترداد من: https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC3724373/#:~:text=During%20Ramadan%2C%20bedtime%20and%20wake,but%20not%20for%20non%2DMuslims.

[6] سعد، نهى (2023). كيف تتجنب عواقب النوم المتقطع في رمضان؟. الاسترداد من: https://www.aljazeera.net/lifestyle/2023/4/5/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D8%AA%D8%AC%D9%86%D8%A8-%D8%B9%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%82%D8%B7%D8%B9-%D9%81%D9%8A?utm_source=chatgpt.com


إعلان