“أسرار الحوت الجاسوس”.. استغلال ذكاء الثدييات البحرية لأغراض حربية

تتخذ المخرجة البريطانية “جنيفر شو” قصة العثور على حوت أبيض تائه في أقاصي سواحل النرويج الشمالية عام 2019 مدخلا للكشف عن استخدام الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الثدييات البحرية لأغراض التجسس، ومحاولة كل منهما توسيع دائرة نفوذه في البحار والمحيطات.

وذلك من خلال تتبع تطورات قصة الحوت الأبيض، والشكوك التي حامت حول ظهوره اللافت، وقد نسبها محللون أمنيون وصحفيون استقصائيون إلى احتمال استخدامه جاسوسا، دُرب في روسيا لجمع معلومات عن الأساطيل البحرية الغربية.

هذا ما يدفع صانع الوثائقي الاستقصائي “أسرار الحوت الجاسوس” (Secrets of the Spy Whale) إلى مراجعة أزمنة طويلة من استغلال القوى العظمى للثدييات البحرية -مثل الدلافين والحيتان- لأغراض التجسس والمراقبة.

حوت أبيض يطلب النجدة في سواحل النرويج

تبدأ قصة الحوت الجاسوس من أقصى سواحل شمال النرويج، من جزيرة “أنجويا” تحديدا، عندما لاحظ أحد الصيادين ظهور ظلال بيضاء داخل الماء تقترب تدريجيا من مركبه.

وبعد لحظات، تبين له أن تلك الكتلة البيضاء ما هي إلا حوت أبيض، وقد لاحظ الصياد ومن معه أن الحوت يقوم بحركات غريبة، وكأنه يطلب المساعدة للتخلص من طوق جلدي قاسٍ يلتف حول رقبته.

ظهور متكرر لكتلة بيضاء بالقرب من مركب الصيد

استدعى الصياد فرقة مختصة بإنقاذ الحيوانات البحرية، لكنها فشلت في مهمتها، واقترحت قتله، بيد أن الصياد تطوع للنزول بنفسه، حتى أزال الطوق وحرر الحوت.

لم تنتهِ القصة عند هذا الحد، فقد لاحظ سكان الجزيرة أن الحوت عاد مرة أخرى، وظل يحوم قريبا من مياههم، وكان لا يخاف البشر، وفضوله تجاه ما يدور حوله كبير، مما دفع إحدى الشركات السياحية إلى الاحتفاظ به في حوض للاستفادة من وجوده خلال الموسم السياحي، وأثناء وجوده هناك، لاحظت مديرة الشركة طائرة مسيرة كانت تحوم في السماء، وتراقب الحوت وقتا ثم تختفي.

شكوك حول الغريزة والطوق الغريب

أثار ظهور الحوت الأبيض النادر وانتشار أخباره في الإعلام النرويجي فضول أحد الصحفيين الاستقصائيين، فبدأ يحقق في أسباب وجوده وبقائه قريبا من الساحل، وكان أكثر ما لفت انتباهه قدرة الحوت على التقاط الأشياء التي ترمى في البحر وإخراجها، وكأنه مدرب على ذلك.

التوظيف غير البريء، تشويه لغريزة الثدييات البحرية

بحث الصحفي عن الطوق وصوره، ثم أرسل الصورة إلى خبراء لتحديد مصدره، وقد وجدوا عبارة “معدات بطرسبورغ” مكتوبة على قطعة بلاستيكية في الطوق، مما عزز الشكوك حول علاقة الحوت بالمخابرات الروسية، فقرر صانع الوثائقي التعمق في هذه العلاقة الغامضة بين الحيتان وبين الجهات العسكرية والاستخباراتية.

تجارب أمريكية على الدلافين خلال الحرب الباردة

بمراجعة ملفات ومقابلات مع أناس شاركوا في تدريب الدلافين في أمريكا والاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، تبين أن الثدييات البحرية الذكية كانت قد استُغلت لأغراض التجسس والمراقبة.

معدات “بطرسبورغ” تقود للكشف عن أسرار التجسس البحري

قرر المخرج مقابلة “بوب بايلي”، وهو أحد المدربين المشاركين في البرامج العسكرية الأمريكية منذ ستينيات القرن الماضي، ويتذكر المدرب أن الأسطول البحري الأمريكي استدعاه بعد تخرجه عام 1960، لتدريب الدلافين ضمن مشروع سري، بهدف مواجهة تهديدات سوفياتية محتملة، لا سيما من الغواصات النووية.

استخدام الدلافين في الحرب على فيتنام

يكشف المدرب الأمريكي تجارب سرية، أجريت لمعرفة قدرات الدلافين في كشف الألغام وتحديد مواقع الأجسام في الأعماق، بفضل حاستها السمعية الفائقة، ومجسات السونار لديها.

ويقول إن الجيش الأمريكي استخدمها في حربه على فيتنام، لتجنب الألغام البحرية التي كان يزرعها الفيتناميون، وقد كان التدريب شاقا، ويتطلب وقتا وصبرا، لكنه حقق نتائج مرضية.

للحوت الجاسوس القدرة على إلصاق كاميرات وأجهزة تنصت على جدران السفن الحربية

أما القائد البحري السوفياتي السابق “أندريه ريزينكو”، فيقول إن الاتحاد السوفياتي أنشأ مراكز أبحاث بحرية متقدمة في البحر الأسود، وإنه استخدم الدلافين في مهام عدة، منها تثبيت كاميرات وأجهزة مراقبة على سفن العدو، والعثور على المعدات وبقايا الطوربيدات.

وقد كرست أمريكا وروسيا ميزانيات ضخمة، لتطوير برامج التجسس باستخدام الثدييات البحرية، لما تتميز به من ذكاء وقدرات استثنائية.

عودة برنامج الدلافين المتجسسة

تكشف تسجيلات قديمة قدرة الدلافين على تحديد مواقعها بدقة، وحمل بعض الأجسام إلى السطح، مما أثار فضول المحققين النرويجيين حول مصدر مهارات الحوت الأبيض. وخلص بعض الخبراء والصحفيين الروس في لندن إلى أن الطوق يعود إلى شركة روسية، تحاول التمويه بشأن موقعها الحقيقي.

بوتين يعيد التجارب المخبرية ثانية

وبعد تحرٍّ دقيق، تبين ارتباط الطوق بالاستخبارات الروسية، مما دفع الوثائقي إلى البحث في التاريخ الروسي، وقد أكدت مراجعات مؤرخين أن البرامج السوفياتية توقفت بعد انهيار النظام.

لكن تلك التجارب استُؤنفت بعد تولي “فلاديمير بوتين” الحكم، لا سيما مع اهتمامه منذ عام 2012 بتحديث الأسطول البحري، وتدريب الدلافين على مهام تجسسية. ومن هنا تنشط روسيا في القطب الشمالي، وتجري أبحاثا في قواعد بحرية قريبة من النرويج، استعدادا لحروب جديدة، قد تلعب فيها الدلافين دور “الجنود”.

أدوات فتاكة في حروب لا تفقه عنها شيئا

يرجح العلماء أن الحوت الأبيض كان ضمن البرامج الروسية، لكنه هرب، وتقول إحدى الخبيرات إن الثدييات البحرية تألف الإنسان، لكن مع ذلك لها غريزة تجعلها قادرة على اتخاذ قرارات مثل الهروب من بيئة اصطناعية.

الحوت الجاسوس.. كائن لطيف

وهذا ما يفسر وصول الحوت إلى سواحل النرويج، وقد سُمي “هفالديمير” (Hvaldimir)، وهو دمج بين كلمة “حوت” باللغة النرويجية، ومقطع من اسم “فلاديمير بوتين”.

لكن حياته هناك لم تكن يسيرة، فبسبب نشأته في بيئة اصطناعية، لم يكن قادرا على الصيد أو العيش وحده، فظل يعود إلى الحوض السياحي عند كل محاولة لإطلاقه، وبعد تدريبات ومساعدة استطاع التكيف مع البحر.

الحوت الجاسوس يستطيع الكشف عن سفن العدو من بعد

وقد تعلم تدريجيا الصيد والبقاء في البحر، لكن وفاته لاحقا أثارت أسئلة أخلاقية عن دور الإنسان في تسخير مخلوقات بريئة لأغراض تدميرية، فاستغلال ذكاء الكائنات البحرية في الحروب يبعدها عن بيئتها، ويجعلها أدوات عدوانية، لا تفقه شيئا عن النزاعات التي تُستخدم فيها.

وهو ما يطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وإلى أي مدى يمكن تبرير تدميرها باسم التقدم أو الأمن.


إعلان