لغز الأطباق الطائرة.. هل زار الفضائيون الولايات المتحدة من قبل؟

في قاعة تعج بأصوات الكاميرات، وقف رجال ببدلاتهم الأنيقة تحت الأضواء الساطعة، رافعين أيمانهم عاليا للإدلاء بشهادتهم أمام الكونغرس الأمريكي، والإقرار على أن ما سيقال يمثل الحقيقة، ولا شيء آخر سوى الحقيقة.

وجلس أمامهم محكّمون وجوههم جامدة ممتعضة، يختلسون بنظراتهم تارة إلى الأوراق والتقارير التي بين أيديهم، وتارة أخرى إلى وجوه الشهود، بانتظار كلمات قد تغير مستقبل كوكب الأرض بأسره.

لم تمض إلا لحظات حتى بدأت جلسة الاستماع، وهي الثالثة من نوعها، وتتناول أحد أهم المواضيع الشائكة في الأمن القومي الأمريكي، وقد خصصت لمناقشة لغز ظهور الأجسام الطائرة المجهولة في حالات عدة وثق بعضها بالصور والفيديوهات، واستند البعض الآخر إلى شهادات منقولة.

كانت تلك الجلسة هي الأهم في إطار النقاش المفتوح حول حقيقة الكائنات الفضائية، وقد جمعت شخصيات بارزة من مستويات حكومية عالية، وأدلى مسؤولون سابقون بشهاداتهم أول مرة، بعدما شغلوا مناصب رفيعة في الحكومة، منهم “تيم غالوديت” الذي كان ضابطا في البحرية الأمريكية، و”مايكل غولد” المسؤول في وكالة ناسا.

من جلسة الاستماع الثالثة في الكونغرس التي عقدت في نهاية عام 2024 (بي بي سي)

وخلال وقت الجلسة الذي امتد أكثر من ساعتين، زعم الشهود أن جهات حكومية تعمل خارج نطاق القانون، لديها برامج سرية لإخفاء أدلة على وجود أجسام طائرة مجهولة الهوية، وطالبوا بمزيد من الشفافية حول البيانات المرتبطة بهذه الظاهرة. وقالوا إن معلومات حساسة قد حُجبت، لا عن العامة فحسب، بل حتى عن الكونغرس.

وفي حين بدأت الحكومة تسلط الضوء بشكل غير مسبوق على ظاهرة الأجسام الطائرة مجهولة الهوية، كشف “مركز بيو للأبحاث” استطلاعا مثيرا للاهتمام، بيّن أن نحو ثلثي الأمريكيين (65%) يؤمنون بوجود المخلوقات الفضائية، ووجود حياة ذكية على كواكب أخرى. كما أن 51% يرون أن التقارير التي قدمها أفراد الجيش والشرطة الأمريكية تمثل دليلا قاطعا على وجود الفضائيين، وأنهم قد زاروا كوكبنا من قبل.1

ولا تعد هذه المرة الأولى التي تعيش فيها الجماهير حالة من التصديق والإيمان بادعاءات ونظريات خارقة للعادة، لكن الغالبية يؤمنون بذلك، وربما تكون تلك هي المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، مع أن الزخم الإعلامي والأعمال السينمائية قد قل تأثيرهما على توجيه الوعي العام كما كان في القرن الماضي، وأن الإيمان بوجود الفضائيين بات يعتمد على عوامل أخرى، أبرزها الشهادات التي يدلي بها مسؤولون رفيعو المستوى.

لكن ما مدى حقيقة كل ما يقال، وكل ما يجري في تلك البقعة المنعزلة عن العوالم الأخرى، ويفصل بيننا وبينهم محيطان، الأطلسي والهادئ.

شهادة الطيارين الحربيين

كانت سبقت هذه الجلسة جلسة استماع أخرى عقدت منتصف عام 2023، حين أجرى الكونغرس جلسة استماع لـ”ديفيد غروش”، وكان ضابطا في القوات الجوية الأمريكية، واثنين آخرين عملا في طيران القوات البحرية. وقد أدلى الثلاثة بشهادتهم التي أثارت شكوكا كثيرة ومزاعم حول حقيقتها حينذاك.

فقد قال “غروش” إن الحكومة الفيدرالية الأمريكية لديها برامج سرية للغاية، بالتعاون مع شركات خاصة في قطاع الفضاء، وتُعنى تلك البرامج باستخدام الهندسة العكسية على مركبة فضائية غير بشرية، وعلى روادها الفضائيين غير البشريين كذلك، وقال إن العاملين في هذه البرامج السرية قد يُقتلون إذا باحوا بأي سر.

طبق طائر مزعوم صور في سماء ولاية نيو جيرسي، في عام 1952

ادعى “غروش” أنه اطلع على تقارير تتحدث عن هذه المركبة الفضائية، التي عثرت عليها الحكومة الإيطالية بعهد “بنيتو موسوليني” عام 1933، إثر وقوعها في إيطاليا، وقد استطاعت الولايات المتحدة لاحقا الاستحواذ عليها، بمساعدة الفاتيكان ودول تحالف “العيون الخمسة”.

لم تنتهِ الشهادات في هذه الجلسة عند هذا الحد، فقد شارك الطيار المقاتل في البحرية “رايان غريفز” بشهادته حول مواجهته المزعومة مع أجسام طائرة مجهولة، فقال إنه صادف جسما طائرا قبالة ساحل “فيرجينيا بيتش” عام 2014.

وقال إنه أثناء تحليقه بطائرة إف-18، صادف طائرة بدت كأنها “مكعب رمادي أو أسود داكن داخل كرة شفافة”، وقدر قطرها بين متر ونصف إلى 4.5 أمتار، ولا تشبه أي طائرة رآها من قبل.

ووفقا لزعمه، فإن الجسم الطائر ظل ثابتا في مكانه، مع أن الرياح كانت عاتية حينئذ. ثم قال إنه قدم بلاغا للمختصين، لكنه لم يلق ردا رسميا حتى اللحظة.

ويذكر أن “غريفز” قد أسس مجموعة “أمريكيون من أجل الفضاء الآمن” خلال السنوات الماضية، وهي مجموعة تدعم الطيارين الذين أبلغوا عن حوادث طائرات بلا طيار، وذكر أن الأجسام التي يقال إن الطيارين العسكريين والتجاريين قد رأوها تجري مناورات لا يمكن تفسيرها، ذلك لأن تقنياتنا محدودة، ولا تتوافق مع المعطيات التي نصادفها.2

لكن هذه الادعاءات تعيد إلى الأذهان أنها ليست أول مرة تُرى فيها أجسام طائرة مجهولة في سماء الولايات المتحدة، بل حتى على مستوى العالم كذلك، كما رفعت تقارير كثيرة، فكيف يمكن تفسير هذه المشاهدات المتكررة التي وردت في تقارير رسمية وشهادات لطيارين وعسكريين محترفين؟ وهل تكشف هذه الأحداث ظاهرة غير مألوفة تتجاوز حدود المعرفة البشرية، أم أنها مجرد التباس في الرصد وخداع بصري مدعوم بتأويلات فردية وتفسيرات غير مثبتة علميا؟

وقود الحرب الباردة بين القوتين العظميين

وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بسقوط الرايخ الثالث وسيطرة الحلفاء على العاصمة الألمانية برلين عام 1945، لقد كانت لحظة حاسمة أوقفت معارك دموية قتلت أكثر من 15 مليون جندي، و38 مليونا آخر من المدنيين، ناهيك عن الدمار الذي أصاب مناطق عدة في شرق أوروبا ووسطها، وصولا إلى العاصمة لندن.3

هل ثمة ارتباط بين الأجسام الغريبة والحرب الباردة؟

استنزفت الحرب جميع الدول المشاركة فيها، باستثناء دولتين ظلتا صامدتين، فاتسعت بينهما رقعة الصراع، واشتعل نزاع طويل الأمد، لكنه كان من نوع مختلف؛ إنها الحرب الباردة، التي اندلعت بعد الحرب العالمية بين قوتين عظميين؛ هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.

استمرت هذه المواجهة نحو 44 عاما، ولم تكن حربا تقليدية دامية، بل اتخذت ساحات أخرى، تمثلت في التنافس التقني والبحثي، وكذلك في مجالات الاستخبارات والتجسس.

ومع أن العلاقة بين الدولتين كانت تشهد بعض التوترات، فإن بعض القرارات الحاسمة عجلت بإشعال فتيل الحرب الباردة، منها قرار الرئيس “ترومان” الحد من انتشار الشيوعية عالميا، ومساعي الولايات المتحدة لتعزيز الاقتصاد الأوروبي، من أجل منع النفوذ السوفياتي، وكذلك تشكيل حلف شمال الأطلسي “الناتو” عام 1949.

أحد المعابر المؤدية إلى “المنطقة 51” التي يحوم حولها كثير من القصص ونظريات المؤامرة

كانت هذه العوامل جميعا كفيلة بتحويل الصراع بين القوتين العظميين إلى مواجهة غير مباشرة امتدت عقودا، فتقاسمت ساحات النفوذ والهيمنة في شتى أرجاء العالم.

اقترنت الحرب الباردة بالعمل الاستخباراتي المكثف، وسرقة المعلومات والبيانات والحروب الداخلية، فتأسست وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي أيه” في عام 1947، بموجب قانون الأمن القومي الذي وقعه الرئيس الأمريكي “هاري ترومان”، وبالمثل تأسس جهاز الاستخبارات السوفياتي “كي جي بي” رسميا في 1954، ليكون جهاز الأمن والاستخبارات الرئيس في الاتحاد السوفياتي.

حوادث غريبة أججتها الصحافة والغموض

تزامن مع بداية الحرب الباردة ظهور أنماط غريبة ومثيرة لأجسام طائرة، وتردد في الإعلام المحلي الأمريكي كثير من القصص الغريبة عن مشاهدة أجسام غير منتظمة الشكل تحلق في سماء البلاد، وحدثت في عام 1947 طفرة غريبة في عدد البلاغات، فقد تجاوزت 2000 بلاغ، بين البلاغات المدنية والعسكرية.4

أجسام غريبة تتخذ تشكيلا هندسيا ظهرت في حدثت “كينيث أرنولد”

ويذكر بأن أبرز حادثة وقعت في بداية تلك الحقبة أشغلت الرأي العام بشدة، وهي حادثة “كينيث أرنولد” في يونيو/ حزيران 1947، حين انطلق الطيار “أرنولد” بطائرته الخاصة من طراز “كول أير إيه-2” (CallAir A-2) في سماء ولاية أوريغون، بحثا عن طائرة مشاة بحرية قد سقطت قرب جبل رينييه.

وفي نحو الساعة الثالثة عصرا، رأى “أرنولد” شيئا لم يكن يتوقعه مطلقا، فقد لاحظ 9 أجسام لامعة على شكل أقراص، تتحرك معا بترتيب مثير، وتحلق بسرعة عالية تراوحت بين 1900-2700 كيلومتر في الساعة، وكان ذلك أسرع بكثير من أي طائرة معروفة في ذلك الوقت.

لم يكن “أرنولد” على دراية بحقيقة تلك الأجسام، فقدّم شهادته حول ما رأى، وسرعان ما التقطت وسائل الإعلام القصة، ثم بدأت بحياكة الروايات وتضخيم الحدث بإضافات خيالية، منها استخدام مصطلح “الأطباق الطائرة” أول مرة.

طيارون حريون يرصدون أجساما مشبوهة

لم تلبث الصحف ووكالات الأنباء أن تناقلت القصة، وتصدرت عناوين الأخبار في أنحاء البلاد كافة، بل امتد صداها إلى الإعلام العالمي، الذي أبدى اهتماما غير مسبوق بالحادثة. وأسهم الغموض المحيط بالواقعة في تأجيج الإثارة والتكهنات، حتى أصبحت واحدة من أكثر القضايا جدلا في ذلك الوقت.5

لقد أثارت هذه الحادثة موجة من التقارير حول الأجسام الطائرة المجهولة، وأدى إلى إجراء الحكومة الأمريكية أول تحقيق رسمي في الظواهر الجوية المجهولة، فانطلق برنامج “ساين” (Sign)، ثم تبعه برنامج “غرودج” (Grudge)، ولم يستمرا طويلا بسبب الطريقة التعسفية التي اعتمدها المسؤولون في تناول القصص والشهادات، فقد كانت الحكومة يومئذ ترى أن هذه ليست إلا حربا نفسية، يعتمدها الروس لزعزعة الأمن العام والاستقرار في البلاد، في حين كان يتنامى شعور آخر لدى الشعب الأمريكي بأن هذه الأحداث لها علاقة وطيدة مع وجود الفضائيين.

“الكتاب الأزرق”.. برنامج سري يتلافى الصدمة النووية

أدركت الحكومة الأمريكية لاحقا أن تعاملها العشوائي مع التقارير الواردة حول الأجسام الطائرة لم يكن في محله، لا سيما مع تسارع وتيرة التطورات العسكرية في موسكو.

فقد كان الاتحاد السوفياتي يومئذ يخوض سباقا محموما للسيطرة على الأجواء، بإنشاء أسطول حديث من المقاتلات، فظهرت طائرات “ميغ-15″ و”ميغ-17” و”ميغ-19″، وقاذفة القنابل “توبوليف تو-4″، وهي نسخة معدلة من طائرة النقل العسكري الأمريكية “بوينغ سي-97 سترتوفريتر”.

إحدى صور مشروع “الكتاب الأزرق”

وفي خضم هذا السباق العسكري المحتدم، اكتشفت الاستخبارات الأمريكية اختراقا خطيرا تمثل في الجاسوس الألماني “كلاوس فوكس”، الذي سرب معلومات سرية إلى الروس حول تطوير القنبلة النووية، بعدما عمل 7 سنوات داخل البرامج النووية البريطانية والأمريكية والكندية.

شكل هذا الكشف ضربة قاصمة للأمن القومي الأمريكي، مما دفع الحكومة إلى تبني برنامج بحثي مكثف لمراقبة المجال الجوي، ورصد أي أجسام تحلق على ارتفاعات شاهقة، خشية أن تكون حاملات رؤوس نووية، تحلق بالقرب من أراضيها من غير أن تكشف.6

وفي مارس/ آذار 1952، بعيدا عن الأعين المتطفلة، وخلف الجدران السميكة لقاعدة “رايت باترسون” الجوية، انطلق أحد أكثر المشاريع السرية غموضا في تاريخ الولايات المتحدة؛ ألا وهو مشروع “الكتاب الأزرق” (Blue Book Project).

لم يكن هذا المشروع امتدادا للتحقيقات السابقة، ولم يكن برنامجا عسكريا عاديا، بل كان يسير على خط مختلف، واضعا نصب عينيه مهمتين رئيستين؛ الأولى هي التحقق من طبيعة الأجسام الطائرة المجهولة وأصلها، والثانية هي السيطرة على الهلع الشعبي المتزايد، بسبب الشائعات التي كانت تربط هذه الظواهر بوجود كائنات فضائية.

لغز مخيف في عصر الظاهرة الذهبي

مع تصاعد التقارير حول مشاهدات الأجسام الغامضة، أصبحت الخمسينيات والستينيات عصرا ذهبيا لهذه الظاهرة، فازدحمت عناوين الصحف وقنوات الأخبار بروايات عن أضواء غريبة تحلق في السماء، وسفن فضائية مزعومة تخترق الأجواء، مما جعل مشروع “الكتاب الأزرق” في قلب هذا الجدل المتنامي.

وقد استغلت هذه الفجوة المعرفية عدة فئات، بدءا بالمزارعين ومراقبي الحركة الجوية، مرورا بضباط الشرطة وحتى الطيارين العسكريين، وقد قدموا تقارير مليئة بالقصص المثيرة حول مشاهدات غامضة، كأقراص متوهجة تحلق في السماء، أو مجسمات فضائية ضخمة على هيئة أعواد الكبريت، أو أشكال هندسية غير مألوفة.

وكان يسيرا على الحكومة تقديم تفسيرات مبسطة للعامة، تدعي أن هذه الأجسام ليست إلا بالونات طقس، أو انعكاسات لظواهر جوية معينة، أو حتى طائرات تجريبية قيد التطوير. لكن بعض التقارير لم تكن قابلة للتفسير بشكل من الأشكال، وهو ما استدعى تحقيقات مكثفة، إما لتدقيقها وتحليلها، أو لدفنها في مقبرة النسيان.

وقد وقع أحد أكثر الحوادث ترويعا بعد عام واحد من تأسيس المشروع، فقد قال طياران تابعان للقوات الجوية الأمريكية إنهما حاولا اعتراض جسم فضي، يتحرك بطريقة مريبة في السماء.

وعند اقترابهما منه، تعطلت أنظمة طائرتهما فجأة، واضطربت البوصلة بشدة، ثم انطلق الجسم بسرعة هائلة واختفى بين الغيوم، تاركا وراءه لغزا لم يحل، وصنف لاحقا ضمن التقارير التي وصفت بأنها “لا يمكن تفسيرها”.

فلكي متشكك غيّر رأيه

مع بداية برنامج “الكتاب الأزرق”، اعتمد المسؤولون على نهج منهجي في التحقيق بالحوادث، حتى أنهم استعانوا بأحد أبرز الفلكيين يومئذ، ألا وهو الدكتور “ج. ألين هاينك”، وقد دخل المشروع متشككا في صحة ادعاءات الأجسام الطائرة المجهولة، لكن مع تعمقه في البحث، بدأ يدرك أن المسألة أكثر تعقيدا مما كان يظن.

وفي سياق موازٍ، أجرت وكالة المخابرات المركزية تحقيقا منفصلا حول عمل البرنامج، قادته لجنة “روبرتسون” سيئة السمعة، وقد خلصت إلى أن الأجسام الطائرة المجهولة لا تشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي. وأن الخطر الحقيقي يكمن في الضجة الإعلامية التي تثيرها هذه الادعاءات، فقد تؤثر على الاستقرار الداخلي. ونتيجة لذلك، تبنت سياسة مضادة تمثلت في إثارة الجدل والسخرية من التقارير التي تتناول الظواهر الخارقة، بهدف تقليل عدد البلاغات، وإنهاء حالة الهوس الجماعي بهذه المشاهدات.7

وفي السنوات اللاحقة، تلاشى برنامج الكتاب الأزرق تدريجيا حتى بات مجرد ظل لما كان عليه في بداياته، ففقد تأثيره الحقيقي، وأُغلقت عدة قضايا من دون تحقيق شامل، واندثرت الأساليب البحثية التي كانت تعتمد على التدقيق والتحري المنهجي. ومع إحكام الحكومة قبضتها على المشروع، زادت السرية حوله أكثر من أي وقت مضى.

لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد زعم أن وكالة المخابرات المركزية اتخذت البرنامج غطاء لأبحاث سرية أخرى، منها مشروع “إم كي ألترا” (MKUltra)، والعمليات النفسية غير القانونية التي استهدفت البشر.

تقرير “كوندون” هو تحقيق أكاديمي موسع حول الأجسام الطائرة المجهولة

وفي عام 1968، صدر “تقرير كوندون” (Condon Report) من جامعة كولورادو، وكان تحقيقا أكاديميا موسعا حول الأجسام الطائرة المجهولة، وخلص إلى غياب دليل علمي يبرر استمرار التحقيق في تلك الظواهر. كان هذا التقرير بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فأنهى برنامج الكتاب الأزرق رسميا في العام التالي، وطوى بذلك ملفه بعد 17 عاما من العمليات والتحقيقات.8

أبدى د. “هاينك” آراءه في كتابه “تجربة الأجسام الطائرة المجهولة: تحقيق علمي” (1972)، وقد قال فيه إن حوادث بعينها لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها، ولا تقبل أي تفسير عادي.

وقد طرح “هاينك” في هذا الكتاب رؤيته، التي تركز على ضرورة التعامل مع هذه الظواهر بجدية أكبر، بعيدا عن الافتراضات المعتادة، مؤكدا أن بعض الحوادث تتجاوز حدود الفهم العلمي المتاح يومئذ، مما يستدعي إعادة النظر في هذه الظواهر من منظور أوسع وأعمق.

المنطقة 51.. أكثر الأماكن سرية غموضا

قريبا من بحيرة غروم في الصحراء القاحلة بجنوبي ولاية نيفادا، وعلى بعد نحو 200 كيلومتر من مدينة لاس فيغاس، تقع “المنطقة 51″، وهي من أكثر الأماكن سرية وغموضا على وجه الأرض، وقد ظلت مخفية عن الأنظار أكثر من 58 عاما. وتعد هذه المنشأة التابعة للقوات الجوية الأمريكية منبعا لكثير من القصص الغامضة حول الأجسام الطائرة المجهولة ونظريات المؤامرة.

“المنطقة 51” من أكثر الأماكن سرية وغموضا على وجه الأرض

وتزعم هذه النظريات أن القاعدة تستخدم لاختبار التقنيات التي تنالها الحكومة من حوادث مركبات فضائية، مثل حادثة “روزويل” الشهيرة عام 1947، التي تعد من أكثر الحوادث إثارة للجدل في تاريخ الأجسام الطائرة المجهولة. وتتألف المنشأة من عدد من المباني متوسطة الارتفاع، ويلاحظ عند الطرف البعيد وجود مدرج طويل للطائرات.

كما أن محيط المنطقة غير مسيج، بل تحده أعمدة برتقالية ولافتات تحذيرية، تدل على أنها منطقة عسكرية يمنع الاقتراب منها، مع تأكيد الحق في استخدام “القوة المميتة” إذا دعت الحاجة. ووفقا لشهادات بعض الأشخاص، فإن المنطقة مليئة بالمستشعرات البصرية والسمعية التي ترصد أي حركة مشبوهة.

تكهنات وإشاعات في “مزرعة الجنة”

يرى كثير من المؤمنين بنظريات المؤامرة أن مباني “المنطقة 51” تحتها قاعدة سرية، يقال إنها تضم مختبرات ومستودعات لا يمكن الوصول إليها ولا تصويرها بأي عدسة. كما لا تستبعد هذه الروايات وجود مخلوقات فضائية معتقلة، تجري عليهم أنواع من الاختبارات والتحاليل.

وهي تسمى “المنطقة 51” نسبة إلى الرقم الذي خصصته الحكومة الأمريكية لها على الخرائط العسكرية، وكان يطلق عليها من قبل “مزرعة الجنة”، وتلك محاولة من شركة “لوكهيد مارتن” لاستقطاب الموظفين إلى القاعدة النائية، التي لا يوجد حولها أي شيء يذكر.

ومع أن صور الأقمار الصناعية مقيدة في هذا الموقع الجغرافي، فقد أصبحت المنطقة مرئية على خرائط غوغل منذ عام 2018.

وكان أول إعلان رسمي عنها جاء من وكالة المخابرات المركزية في 25 يونيو/ حزيران 2013، بعد تقديم طلب بموجب قانون حرية المعلومات لعام 2005، وحينها فقط رفعت السرية عن وثائق توضح تاريخ المنشأة والأغراض التي استخدمت لأجلها.9

وفقا للمصادر الرسمية، كانت “المنطقة 51” قاعدة ومجمعا مخصصا للاختبار والتدريب، وأُجريت فيها اختبارات على طائرات خاصة، منها طائرة التجسس “يو-2″، وطائرة “إس آر-71 بلاكبيرد”، وذلك خلال زمن الحرب الباردة.

ومع أن الإفصاح عن وجود المنشأة جاء متأخرا، فإن السرية التي أحاطت بها على مدار العقود الخمسة السابقة، قد أثارت تكهنات كثيرة حول الأنشطة التي تجري فيها، ولا تزال الإشاعات مستمرة حتى اليوم.

ويعد الكاتب والمحقق “بنيامين رادفورد” من أبرز المحققين والباحثين في هذه المنطقة، فقد ألّف 20 كتابا تناول فيها قضايا مثيرة للجدل، مشككا بما تروج له الأوساط الحكومية، وقد كتب عدة مقالات حول نظريات المؤامرة المحيطة بها.

وفي حديثه مع موقع “سبيس”، صرح قائلا: قاعدة 51 نفسها -حيث توجد المباني- تعد صغيرة إلى حد ما، لكن المنطقة المحظورة حولها تمتد لأكثر من 364 كيلومتر مربع، وهذه الرقابة الشديدة تهدف لمنع أعين المتطفلين من الوصول إلى المنشأة الأساسية.10

مقاطع طائرات البحرية المسربة

في نهاية عام 2017، وبعد انحسار زوبعة الجدل حول المخلوقات الفضائية، سربت فجأة 3 مقاطع فيديو عبر وسائل إعلام أمريكية، سُميت إعلاميا “فلير1″ (Flir1) و”غيمبال” (Gimbal) و”غوفاست” (GoFast) وقد صورتها مقاتلات تابعة للبحرية الأمريكية على متن حاملتي الطائرات “يو إس إس نيميتز” و”يو إس إس ثيودور روزفلت”.

كانت المقاطع حديثة نسبيا، وتضمنت بيانات عرض من قمرة القيادة، ولقطات بالأشعة تحت الحمراء، وتسجيلات صوتية من اتصالات الطيارين، وقد بدت عليهم الدهشة الشديدة عند مشاهدتهم للأجسام غير المألوفة.

ووفقا لصحيفة “نيويورك تايمز”، التي كشفت أول مقطعين من التسريبات، فإن المقطع الأول قد صوره اثنان من طياري المقاتلات البحرية عام 2004، ويظهر جسما يتحرك بسرعة في اتجاه ثابت على بعد نحو 160 كيلومترا فوق المحيط الهادئ، وهو أمر لا يمكن تفسيره بناء على القدرات التقنية المعروفة للطائرات الحربية أو الظواهر الجوية.

أما المقطعان الآخران، فقد صُوّرا عام 2015، ويظهر أحدهما جسما يدور حول محوره دورانا غريبا، مع حفاظه على سرعته العالية، مما يثير تساؤلات حول التقنية المستخدمة في طيرانه، ويظهر الآخر جسما يحلق على ارتفاع منخفض جدا بسرعة فائقة، بطريقة غير قابلة للتفسير.

اعتراف وزارة الدفاع الأمريكية

تلقى نشر هذه الفيديوهات ردود فعل متباينة من الأوساط العسكرية والحكومية، فقد اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية في البداية بصحة الفيديوهات، وأنها صورها طياران تابعان للبحرية الأمريكية أثناء تدريب معتاد.

لكن التفسير الرسمي لم يقل إن هذه الأجسام مخلوقات فضائية أو ظواهر غير قابلة للتفسير، بل ركزت البيانات الرسمية على أن الأجسام قد تكون “ظواهر جوية غير معروفة”، أو تقنيات عسكرية متقدمة من دول أخرى، مثل روسيا أو الصين.

وعلى الجانب الآخر، قال خبراء وعسكريين من وكالة المخابرات المركزية وبعض أعضاء الكونغرس، إن الفيديوهات تظهر تقنيات قد تكون خارجة عن الفهم البشري الحالي، فأصبح النقاش يدور حول إمكانية وجود حضارات خارج الأرض، أو تقنية متقدمة مخفية عن العامة، أو ربما باتت حضارة فضائية متقدمة تعيش بيننا، وتتنقل في سماء الأرض من دون أن ندرك ذلك.11

وفي السنوات التي تلت كشف الفيديوهات، تزايد النقاش حول ضرورة التحقيق في هذه الظواهر، وفي نفس العام الذي سربت فيه المقاطع، أعلن البنتاغون تأسيس “برنامج الظواهر الجوية غير المحددة” (UAPTF)، لإجراء تحقيقات أكثر شمولا حول الأجسام الطائرة المجهولة.

عاد النقاش إلى نقطة الصفر، حيث بدأ قبل أكثر من 78 عاما إبان الحرب العالمية الثانية، وتضمن البرنامج فحص عدد من الحوادث التي شهدها الطيارون العسكريون، وتحليل الفيديوهات والتقارير المتعلقة بالأجسام الطائرة المجهولة.

وفي عام 2020، وافقت وزارة الدفاع الأمريكية على إلغاء تصنيف الفيديوهات الثلاثة بأنها سرية، وأصبحت متاحة للجمهور، وتلك علامة فارقة في تاريخ التعامل الحكومي مع الأجسام الطائرة المجهولة، فقد كان يُتصور زمنا طويلا أن مثل هذه المواضيع كانت تصنف ضمن الأسرار العسكرية.

وتبعا لذلك، ظهرت مطالب شعبية تطالب الحكومة بمزيد من الشفافية في هذه المقاطع، ومنها إقامة جلسات استماع بحضور إعلامي مفتوح، وهي تعقد الآن في الكونغرس.

ولا أحد يعرف إلى أين ستؤول الأمور، سواء كنا نقترب أكثر من الحقيقة، أو كانت مجرد محاولات لإخفاء شيء ما لصالح جهة معينة.

 

المصادر:

[1] كينيدي، كورتني، ولاو، أرنولد (2021). الاسترداد من: https://www.pewresearch.org/short-reads/2021/06/30/most-americans-believe-in-intelligent-life-beyond-earth-few-see-ufos-as-a-major-national-security-threat/

[2] رومو، فانيسا، وتشابيل، بيل (2023). مسؤول استخباراتي سابق: الولايات المتحدة استعادت “مواد بيولوجية” غير بشرية من مواقع تحطم أجسام طائرة مجهولة. الاسترداد من: https://www.npr.org/2023/07/27/1190390376/ufo-hearing-non-human-biologics-uaps

[3] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). الحرب العالمية الثانية. الاسترداد من: https://dcas.dmdc.osd.mil/dcas/app/conflictCasualties/ww2

[4] كورل، جون (2011). القوات الجوية الأمريكية والأطباق الطائرة المجهولة. الاسترداد من: https://www.airandspaceforces.com/article/0611ufo/

[5] لي، روسيل (2022). 1947: عام الصحون الطائرة. الاسترداد من: https://airandspace.si.edu/stories/editorial/1947-year-flying-saucer

[6] محررو الموقع (2014). البرنامج النووي السوفيتي. الاسترداد من: https://ahf.nuclearmuseum.org/ahf/history/soviet-atomic-program-1946/#:~:text=It%20would%20only%20be%20a,Semipalatinsk%20on%20August%2029%2C%201949.

[7] شوستاك، سيث (2025). لجنة روبرتسون وتقرير كوندون. الاسترداد من: https://www.britannica.com/topic/unidentified-flying-object#ref247540

[8] هاينز، غيرالد (1997). كيف تنظر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى ظاهرة الأجسام الطائرة المجهولة. الاسترداد من: https://www.cia.gov/resources/csi/static/cia-role-study-UFOs.pdf

[9] ليبي، ريتشارد (2013). الحكومة تعترف رسميا بوجود المنطقة 51، لكنها لا تعترف بالأجسام الطائرة المجهولة. الاسترداد من: https://www.washingtonpost.com/lifestyle/style/government-officially-acknowledges-existence-of-area-51-but-not-the-ufos/2013/08/16/ca4feaec-06be-11e3-a07f-49ddc7417125_story.html

[10] ليا، روبرت (2024). المنطقة 51: ما هي وماذا يحدث هناك؟. الاسترداد من: https://www.space.com/area-51-what-is-it

[11] يوهاس، آلان (2021). البنتاغون ينشر فيديوهات لأجسام طائرة مجهولة. الاسترداد من: https://www.nytimes.com/2020/04/28/us/pentagon-ufo-videos.html


إعلان