مصعد من الأرض إلى الفضاء.. تحديات هندسية وتقنية في مشروع القرن القادم

في قلب العاصمة الفرنسية، وتحديدا على ضفاف نهر السين، انتصب برج أيفل الشهير، ذو الهيكل المعدني المثير بهندسته الفريدة، الذي عمل عليه المهندس “غوستاف أيفل” عام 1889، احتفاء بالذكرى المئوية للثورة الفرنسية، وبلغ طوله 300 متر، وقد بقي أطول جسم يصنعه الإنسان مدة 40 عاما، حتى تشييد مبنى “كرايسلر” في واشنطن.
يتألف البرج أساسا من الحديد، وقد تطلّب بناؤه أكثر من 18 ألف قطعة معدنية، ونحو 2.5 مليون مسمار، وكان مخططا أن يُفكك بعد عشرين عاما من تشييده، لكنه أثبت فائدته في الاتصالات اللاسلكية، فأُنقذ من زوال وشيك، وأضحت قمته مرصدا تمرّ عبره موجات الراديو.1
ومع أن منظره المهيب وهندسته الشبكية المبتكرة، التي أكسبته مزيجا فريدا من القوة والخفة، ومكنته من الصمود أمام الرياح العاتية، لم تكن إلا خصائص إنشائية، فإنها ألهمت مهندس الفضاء الروسي “كونستانتين تسيولكوفسكي”، وهو أحد رواد علم الصواريخ، فتخيل بناء شاهقا يبلغ حدود المدار الأرضي المتزامن (Geosynchronous Orbit)، الذي يدور فيه القمر الصناعي في اتجاه دوران الأرض، بحيث تساوي مدته المدارية مدة اليوم الأرضي، أي نحو 24 ساعة.2
اقترح “تسيولكوفسكي” إنشاء بناء شاهق يعتمد على مبدأ الضغط، أي أنه مصمم لتحمل القوى التي تؤثر عليه من الأعلى إلى الأسفل، على غرار الأعمدة والأبراج التي تستند إلى قاعدة ثابتة، وتتحمل وزنها كله بمقاومة الانضغاط. وقد تخيّل أن يمتد هذا البناء عموديا مستقيما لمسافة تبلغ 36 ألف كيلومتر نحو الأعلى، وهي المسافة التي تفصل سطح الأرض عن المدار الأرضي المتزامن.
ومع تقدّمه في إجراء بعض الحسابات الفيزيائية، تبيّن له أن بناء بهذه الضخامة والارتفاع سيفرض حملا هائلا على الطبقات السفلى، وما من مادة معروفة لها من القوة ما يكفي لتحمل هذا الضغط الهائل. وعلى إثر ذلك، تخلّى سريعا عن هذه الفكرة، ووجّه اهتمامه نحو الحسابات المتعلقة بنقل الأجسام إلى الفضاء بالطاقة الحرارية، كما هو الحال في صواريخ الفضاء، فانضم في هذا المسار إلى عدد من كبار العلماء الذين أسسوا علم الصواريخ، ومنهم الأمريكي “روبرت غودارد”، والألماني “هيرمان أوبرث”.

ظلّت الفكرة طي النسيان أزمنة طوالا، حتى أعيد إحياؤها في ستينيات القرن الماضي، حين طرح باحث تصورا عبقريا تجاوز به معضلة الضغط؛ فاقترح أن يكون البناء على شكل سُلّم معلّق، يبدأ من الفضاء ويمتد نزولا نحو الأرض.
“يوري أرتسوتانوف”.. عبقري السلّم المعلق في السماء
في يوم من شتاء قارس يعصف بمدينة سانت بطرسبرغ بلا هوادة، كان المهندس الروسي البارز “يوري أرتسوتانوف” يقود عربته القديمة متجولا في أحياء المدينة العريقة، ويتابع هطول ندفات الثلج، فراح يتأمل انسيابها الرشيق وهي تحط برفق على سطح العربة، ثم تذوب شيئا فشيئا بسبب حرارة المحرك. كانت حركتها الساحرة تثير في نفسه تأملات عميقة، وفجأة أشاح ببصره إلى الأفق، وكأن ومضة فكرة عظيمة قد انبثقت في ذهنه في تلك اللحظة العابرة.
كان “أرتسوتانوف” شديد الولع بالفضاء واستكشافه، لكن تكاليف الوصول إليه كانت تؤرقه باستمرار، لا سيما مع تقديرات تكلفة إطلاق صاروخ روسي من طراز “سويوز”، التي تعادل اليوم ما بين 45-90 مليون دولار، بحسب معدلات التضخم الحديثة.

وبما أن فكرة تشييد جسر أو مصعد يمتد من الأرض إلى الفضاء لم تكن واقعية من الناحية الهندسية، فقد اقترح “أرتسوتانوف” مقاربة معاكسة تماما؛ وهي أن يكون البناء مشدودا من الأعلى نحو الأسفل، لا أن يعتمد على قوى الضغط من الأسفل إلى الأعلى، ومثّل ذلك تحولا جذريا في التصور الهندسي لمصعد الفضاء.
في دراسة مبتكرة حملت عنوان “إلى الفضاء بقطار كهربائي”، طرح “أرتسوتانوف” تصورا جديدا لإنشاء “مهبط فضائي” يتكوّن من حبل مشدود معلّق في قمر صناعي يدور في المدار الأرضي المتزامن. ووفقا لهذا التصوّر، يمتد الحبل من القمر الصناعي نزولا إلى سطح الأرض، قاطعا المسافة الكاملة البالغة نحو 35 ألف كيلومتر، وفي الاتجاه المعاكس، يمتد الحبل أيضا بنفس الطول نحو الفضاء الخارجي، وهو بمنزلة “الوزن المعادل” (Counterweight).

ويكمن جوهر الفكرة في تحقيق توازن دقيق بين قوتين متعاكستين:
قوة الجاذبية الأرضية التي تشد الحبل نحو الأسفل. قوة الطرد المركزي الناتجة عن دوران القمر الصناعي في المدار، التي تسحب الحبل في الاتجاه المعاكس.
وبفضل هذا التوازن، يبقى النظام بأكمله معلّقا في الفضاء، متزامنا مع حركة دوران الأرض حول محورها، وكأنه جزء ثابت منها، مما يتيح إمكانية بناء مصعد فضائي عملي ومستقر.3
نُشر مقترح “المصعد الفضائي” أول مرة في المجلة الروسية “كومسومولسكايا برافدا”، لكن أجواء الحرب الباردة كانت في ذروتها يومئذ، ورافقتها قيود على التبادل العلمي والفكري بين الشرق والغرب، فحال ذلك دون وصول الفكرة إلى جمهور واسع، وبقيت محصورة في نطاق ضيّق داخل الاتحاد السوفياتي.
لكن بعد عدة عقود، بدأت تلوح في الأفق تصورات بديلة عن الصواريخ وسيلةً لنقل الأجسام إلى الفضاء، وراحت تلهم عددا من المفكرين والمبتكرين حول العالم، منهم عالم الفضاء “جيروم بيرسون”، وكاتب الخيال العلمي الشهير “أرثر كلارك”، فمهّد ذلك الطريق أمام “أرتسوتانوف” ليعود إلى الواجهة، ويحقق شهرة عالمية غير مسبوقة، بصفته أول من وضع حجر الأساس لفكرة المصعد الفضائي الحديث.
أنابيب الكربون النانوية.. حل يتجاوز تحديات الهندسة والفيزياء
تحمل الفكرة في جوهرها جانبا مثيرا ومبتكرا، لكن تنفيذها هندسيا يواجه تحديات جسيمة، لا سيما بسبب غياب مادة قادرة على تحمل قوى الشد الهائلة المطلوبة لمثل هذا البناء. وبفضل إسهامه القيم في هذا المجال، سُميت وحدة قياس جديدة باسمه، ألا وهي وحدة “يوري” لقياس المقاومة النوعية للمادة.
لا تقتصر هذه الوحدة على تحديد الإجهاد داخل المادة فحسب، بل تشمل أيضا نسبة الإجهاد إلى الكثافة، مما يمكّن من تقييم الإجهاد الأقصى الذي يمكن للمادة تحمله مقارنة بكتلتها، وهو عامل حاسم عند مواجهة قوى مثل الجاذبية الأرضية في تطبيقات المصاعد الفضائية.4

نشأت مسألة قصور جدوى تصميم “أرتسوتانوف” في الستينيات أساسا من قيود علم المواد المتاحة آنذاك، فمصعد فضائي عملي يتطلب حبالا لها نسبة استثنائية بين القوة والوزن، تفوق كثيرا ما يمكن أن يوفره الفولاذ أو المواد الأخرى المعروفة. وأظهرت الحسابات أن الحبل سينهار بسبب ثقل وزنه، قبل أن يبلغ الطول المطلوب، حتى لو صُنع من أفضل السبائك المتاحة يومئذ.
وفي التسعينيات، اكتُشفت مواد فائقة القوة وخفيفة الوزن، منها أنابيب الكربون النانوية، فأشعل ذلك الاهتمام مرة أخرى بالمصعد الفضائي، فهذه المواد لها من الناحية النظرية الخصائص المثلى اللازمة لتحقيقه. وبينما لا تزال أمامنا تحديات تقنية كبيرة، باتت رؤية “أرتسوتانوف” تُعد اليوم احتمالا معقولا قابلا للتحقيق، ولو كان بعيد المنال في الوقت الحالي.5
وتمثل أنابيب الكربون النانوية نقلة نوعية في عالم المواد الهندسية، لما لها من قوة استثنائية ووزن خفيف جدا. هذه الخصائص تجعلها المثلى في تجاوز التحديات التي واجهت مشاريع المصعد الفضائي القديمة، لا سيما في جانب مقاومة الشد للحبال التي يجب أن تمتد لمسافات هائلة تبلغ آلاف الكيلومترات.
ثم إن لأنابيب الكربون النانوية خصائص كهربائية وحرارية فريدة، وقد يضيف ذلك وظائف عدة لحبل المصعد الفضائي، منها نقل الطاقة الكهربائية، والتحكم في درجة حرارته، وهي عوامل مهمة لضمان استقرار النظام وسلامته في بيئة الفضاء القاسية. كما أن مرونتها العالية ومقاومتها للتلف تجعلها أيضا أكثر قدرة على تحمل الظروف المتغيرة والتوترات الميكانيكية، التي يتعرض لها المصعد أثناء التشغيل.
هل يكون موقع الدول العربية مفتاحا لإطلاق المصعد؟
تحديد الموقع الجغرافي المناسب لنقطة انطلاق المصعد الفضائي على سطح الأرض من أهم العوامل التي تؤثر مباشرة على كفاءة هذا البناء العملاق واستقراره، ويُشترط أن يكون موقع الانطلاق قريبا من خط الاستواء، فسرعة دوران الأرض عنده تبلغ نحو 1670 كيلومترا في الساعة، مما يساعد في تحقيق الاستفادة القصوى من قوة الطرد المركزي الناتجة عن دوران الكوكب، وتلك قوة ذات دور حاسم في دعم توازن المصعد الفضائي، لا سيما عند ارتباطه بقمر صناعي يدور في المدار الجغرافي المتزامن.
ومن المواقع المرشحة لإطلاق المصعد الفضائي جزر ومناطق في المحيطات الاستوائية، منها جزر الكوك وجزر غالاباغوس، ففيها بيئة مستقرة نسبيا، قليلة الزلازل والبراكين، وهي عوامل ضرورية للحفاظ على سلامة البنية التحتية الضخمة.

ثم إن هذه المواقع تسهل الوصول إلى المحيطات، لاستقبال الأحمال والنقل البحري، مما يسهل التزويد والدعم الفني. ويعد اختيار موقع الانطلاق على الأرض جزءا من التصميم الهندسي المتكامل، فيجب أن يكون خط الحبل الأساسي ممتدا عموديا إلى الأعلى، متعامدا مع سطح الأرض لضمان ثبات المصعد.
يمرُّ خط الاستواء بعدد من الدول موزعة على ثلاث قارات، منها إندونيسيا والإكوادور وكولومبيا والبرازيل وأوغندا وكينيا والصومال، وهي الدولة العربية الوحيدة في هذه المجموعة. أما بقية الدول العربية فشماله، وبعضها تجاوره سواحلها، مثل عمان واليمن وجيبوتي، وقد تكون خيارا جغرافيا منطقيا لضم قاعدة انطلاق للمصعد الفضائي.
وبطبيعة الحال، فإن عوامل عدة سيعتمد عليها الأمر، منها البنية التحتية التقنية، والاستقرار السياسي، والقدرة على توفير الدعم التجهيزي والفني اللازم، والبيئة الجيولوجية المستقرة التي تقلل احتمال الزلازل والبراكين.
لذلك يبقى اتخاذ هذه المواقع قواعد انطلاق للمصعد الفضائي تحديا، يتطلب تضافر جهود تقنية وسياسية على مستوى محلي ودولي.
جدير بالذكر أن جسما شاهقا يمتد مسافات هائلة نحو الفضاء، سيكون مرئيا من مسافات بعيدة على سطح الأرض، فلو انطلق مصعد فضائي من اليمن، فستكون رؤيته متاحة في مناطق كثيرة، تمتد من دول حوض البحر الأبيض المتوسط حتى شمال أوروبا. وكذلك في بعض أجزاء النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، حيث تقع قارة أستراليا، مما يؤكد أثره البصري الهائل على نطاق عالمي.
ومع تزايد الاهتمام بفكرة المصعد الفضائي، تأسس الائتلاف الدولي للمصعد الفضائي، وهو منظمة غير ربحية لتعزيز البحث والتطوير وتبادل المعرفة بين العلماء والمهندسين حول العالم. يركز الائتلاف على تجاوز العقبات الهندسية والموادّية، لا سيما تطوير مواد متقدمة مثل أنابيب الكربون النانوية، التي تشكل أساس بناء المصعد.
يدعم الائتلاف جهود الباحثين بمؤتمراته ودراساته المشتركة، ويوحد جهود الجامعات والمؤسسات وشركات الفضاء، مع تعزيز الوعي بأهمية المصاعد الفضائية في استكشاف الفضاء وتقليل تكاليف النقل، على أمل أن يتحقق ذلك الحلم، فيكون مشروع القرن القادم.6
المصادر:
[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). برج إيفل. الاسترداد من: https://www.toureiffel.paris/en/the-monument/history
[2] محررو الموقع (2002). مصعد الفضاء. الاسترداد من: https://web.archive.org/web/20050608080057/http://www.g4tv.com/techtvvault/features/35657/Space_Elevator_Gets_Lift.html
[3] محررو الموقع (2019). في ذكرى: إصدار خاص من النشرة الإخبارية لاتحاد المصاعد الفضائية الدولي مخصص ليوري أرتسوتانوف. الاسترداد من: https://www.isec.org/space-elevator-newsletter-2019-february
[4] الائتلاف الدولي للمصعد الفضائي (2017). تاريخ مصاعد الفضاء. الاسترداد من: https://static1.squarespace.com/static/5e35af40fb280744e1b16f7b/t/5e90a6e29b595c7273f3742e/1586538232769/SpaceElevatorsHistory2017.pdf
[5] إدواردز، برادلي (2003). دراسة بحثية: المصعد الفضائي: أداة جديدة للدراسات الفضائية. الاسترداد من: https://www.researchgate.net/publication/10580029_The_space_elevator_a_new_tool_for_space_studies
[6] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). الائتلاف الدولي للمصعد الفضائي. الاسترداد من: https://www.isec.org/