حلم الخلود الرقمي.. أسئلة أخلاقية حول مستقبل أصبح أقرب مما تتخيل

في قاعة بيضاء واسعة ذات طابع سيبراني حديث، تتقاطع بها الأسلاك، وتصطف المعالجات بعضها فوق بعض، كأنها شرايين عقل هائل ينبض بالبيانات، وقف د. “جوزيف تاغر” مذهولا أمام شاشة معلقة، انبعث منها وجه مألوف.. وجه ظنّ أنه لن يراه ثانية.
ظهر على الشاشة د. “ويل كاستر”، فابتسم ابتسامته الخفيفة المعتادة مرحبا بضيفه الجديد، إنها أول مرّة يجتمعان بها على هذا النحو، أحدهما على هيئته الطبيعية الآدمية، والآخر بهيئته الرقمية.

تنفس “تاغر” ببطء وهو يتأمل الشاشة، ثم كسر حاجز الصمت بسؤال دافعه الفضول: أخبرني يا “كاستر”، أتستطيع أن تبرهن لي أنك كائن واعٍ؟
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4السبات بين الكواكب.. هل تختزل رحلة المريخ في ليلة واحدة؟
- list 2 of 4تباطؤ الزمن.. كيف يصبح الأب أصغر من ابنه؟
- list 3 of 4زر الفناء الشامل .. مشاريع سرية محرمة من حقبة الحرب الباردة
- list 4 of 4تعديل الجينات.. محاولات مريبة لإنتاج بشر خارقين
فردّ “كاستر” بلا تردد بابتسامة باردة، وكأن الإجابة كانت جاهزة، فقال: إنه سؤال صعب يا “تاغر”، أتستطيع أنت إثبات ذلك عن نفسك؟
لقد بدأ كل شيء قبل ذلك بعدة سنوات، حين كان “كاستر” من أبرز العلماء الساعين إلى تجاوز الحواجز الفاصلة بين الإدراك الطبيعي والوعي الاصطناعي، وكانت معه زوجته العالمة “إيفلين”، شريكته في الحياة والمشروع، يؤمنان معا بإمكانية ولادة عقل صناعي قادر على التفكير الحرّ والشعور بالذات.
فاجعة كادت تئد المشروع في مهده
حين أطلق الزوجان مشروعهما لم يكن محاولة علمية بسيطة، بل أشبه برحلة فلسفية إلى حدود الوعي نفسه. لكن أحلامهما اصطدمت بأفراد متطرفين، يسمون أنفسهم حزب “الاستقلال الثوري عن التقنية”، وقد شنّوا هجمات عنيفة على مختبرات الذكاء الاصطناعي التي يرعاها هذا المشروع. وفي إحدى تلك الهجمات، أصيب “كاستر” برصاصة مشوبة بالبولونيوم، وهو عنصر كيميائي مشع وسام، فتدهورت حالته سريعا، ولم تبق له إلا أيام معدودة.
بعد تلك الفاجعة، قررت زوجته “إيفلين” أن تضع رهانها الأخير على زوجها المصاب ومشروعهما، فقررت نقل وعي زوجها إلى الحاسوب الكمي الذي عملوا عليه لسنوات. لم يكن القرار سهلا، لا سيما وقد اعترض صديقهما “ماكس ووترز”، الذي رأى في ذلك محاكاة رقمية لا أكثر، ولن يكون له أثر واعٍ. ولكن، حدث ما لم يكن متوقعا، فنجحت التجربة نجاحا مبهرا.

ففي اللحظة التي خمد فيها جسد زوجها وارتقت روحه، نهض شيء آخر، كيان رقمي يتحدث بصوته، بل يطلب الاتصال بالإنترنت، لكي ينمو ويتجاوز حدود المعقول. ومنها تنطلق أحداث فيلم الخيال العلمي المشوّق “التسامي” (Transcendence)، من بطولة “جوني ديب” و”مورغان فريمان”.
ربما يكون هذا العمل السينمائي من أبرز الأعمال التي تناولت مفهوم “الخلود الرقمي”، وهو التصوّر النظري لإمكانية تخزين عقل الإنسان أو شخصيته -ولو جزئيا- ضمن ركيزة رقمية، سواء كانت حاسوبا أو روبوتا أو بيئة افتراضية. ويقارب هذا المفهوم فكرة استنساخ الوعي البشري، وجعله كيانا رقميا قادرا على التفاعل والبقاء خارج حدود الجسد.
يفتح هذا التحوّل آفاقا غير مسبوقة أمام البشرية، لكنه يثير تساؤلات فلسفية عميقة تتعلق بالهوية والوعي، وبالحدود الفاصلة بين الحياة والموت، مما يجعل دراسة هذا المفهوم ضرورة علمية وفكرية في ظل تسارع التطورات التقنية. وفي هذا السياق، برزت دراسات عدة، تناولت القضية من زوايا علمية وتقنية وأخلاقية متداخلة.
“الخلود الرقمي”.. ماذا يبقى من المرء حين يصبح بيانات؟
يدرس أبناء حركة “ما بعد الإنسانية” (Transhumanism) إمكانية تخليد أنفسهم رقميا، بمفهوم يسمى “الخلود الرقمي”، وتلك أحدث صيحاتهم الجنونية. وهم حركة فكرية ذات فلسفة تدعو إلى استخدام العلوم والتقنيات المتطورة عموما، لتعزيز القدرة العقلية والفيزيائية وقدرة البشر على التحمل، وإلغاء كل ما هو غير مرغوب، مثل الغباء والمعاناة والمرض والجوع والشيخوخة.
يكون الخلود الرقمي باستنساخ العقل أو تحميله (Mind Uploading) إلى فضاء إلكتروني، بكل ما فيه من ذكريات وشخصيات وتجارب، لتعمل عليه حواسيب فائقة تسمى الحواسيب الكمومية، قادرة على محاكاة عمل العقل البشري. فيولد بذلك نسخة رقمية من الفرد.

وهذه العملية ممكنة نظريا، فعقل الإنسان يعمل بشبكة معقدة من الروابط بين نحو 86 مليار خلية عصبية في الدماغ البشري البالغ، بحسب دراسة أجرتها “جامعة فاندربيلت” الأمريكية، وتتوزع هذه الخلايا بين القشرة المخية والمخيخ.1
وبفضل تطور الهندسة العصبية في العقد الماضي، استطاع الباحثون جعل تلك النبضات العصبية الموجودة في الدماغ رموزا رقمية، الواحد والصفر. وتعد شركة “نيورالينك” التي أسسها رجل الأعمال “إيلون ماسك” من أهم العلامات الواعدة في هذا المجال، لا سيما بعد إعلان نجاح أول عملية زراعة شريحة إلكترونية في دماغ مريض مشلول عام 2024، مكّنته من التحكم بالأشياء حوله، بمجرّد التفكير فيها.2
وبافتراض نجاح نقل محتوى عقل الإنسان كله إلى جهاز إلكتروني، يبرز سؤال جوهري، هو محور البحث الفلسفي والعلمي والتقني في هذا المجال: هل يمكن أن ينتقل وعي الفرد من جسده إلى نسخة رقمية؟

نظرا لتباين الآراء حول تعريف الوعي ذاته، ينقسم الباحثون والعلماء حول هذه المسألة؛ فالفلسفة التي تقف وراء هذا التوجه، المعروفة بـ”المادية الفيزيائية” (Physicalism)، تفترض أن ما يشكل هوية الإنسان هو نمط التوصيلات العصبية وتنظيم المعلومات، لا المادة العضوية بحد ذاتها. فإذا صحّ هذا الافتراض، فإن “النسخة السحابية” ستكون امتدادا مباشرا للوعي الأصلي، لا محاكاة سطحية له.3
وأما نظرية “الطبيعية البيولوجية” للفيلسوف “جون سيرل”، فتؤكد أن الوعي ظاهرة ناشئة عن خصائص بيولوجية، لا يمكن ترجمتها إلى رموز ثنائية، مهما بلغ تعقيدها.4
مفارقة سفينة “ثيسيوس” وصراع الهوية الحقيقية
لو تجاهلنا مشكلة الشعور والوعي، يظهر لنا سؤال آخر يتعلّق بهوية الفرد؛ فهل النسخة الرقمية التي تحمل ذكريات الإنسان وعقله هي نفس الشخص؟
يرى فلاسفة -منهم “ديفيد تشالمرز”- أن الهوية الشخصية مشروطة باستمرارية نفس النظام النفسي (Psychological Continuity)، سواء كان بيولوجيا أو رقميا، وهذا يعني أن “النسخة الرقمية” قد تختلف حتى لو نسخت كلها.5
ومن جهة أخرى، يناقش بعض الفلاسفة مفهوم “الهوية المتفرعة” (Branching Identity)، فرفع النسخة يولّد نسخة جديدة مستقلة عن الأصل، مع استمرار النسخة الأصلية، أو انقسامها إلى هويتين مختلفتين.6

يرى باحثون أن المسألة الأهم لا تتعلق بإمكانية نسخ العقل بحد ذاتها، بل ببقاء “الذات” الأصلية بعد النسخ. ويستند هذا الرأي إلى فكرة أن انقطاع الوعي -كما في النوم والغيبوبة- لا يُفقد الهوية أو الذات، لذلك فإن النسخة الرقمية المنقولة قد تعد امتدادا كافيا لاستمرار تلك الهوية، حتى وإن تغيّرت البنية الفيزيائية.
أما المناهضون لهذا الرأي، فيرون أن الجسد جزء لا يتجزأ من تجربة الوعي والهوية، فالعواطف والتجارب الحية مرتبطة بسياق الفرد جسدا وبيئة، وهذا ما يجعل “النسخة السحابية” تفتقر إلى الأبعاد الجوهرية، التي تميز الحياة البشرية الحقيقية، مثل الإحساس الجسدي، والانفعالات المرتبطة بالتجربة الحسية، والتفاعل المباشر مع الواقع الفيزيائي.
ترتبط هذه القضايا بمفارقة فلسفية شهيرة تسمى “سفينة ثيسيوس”، التي تتناول طبيعة الهوية واستمراريتها مع مرور الزمن وعمليات التغيير. تفترض المفارقة وجود سفينة بدأت رحلتها في عرض البحر، ومع الوقت تآكلت أجزاؤها، واستبدلت بقطع جديدة، حتى استبدل جميع أجزائها، والسؤال المطروح هنا: أما تزال السفينة الحالية نفس السفينة التي أبحرت في البداية؟7
نقطة الانفجار التقني.. متى يصبح الخلود الرقمي ممكنا؟
إذا ما بحثنا في الإطار الزمني الذي قد يشهد تحقق هذا التحول، فإن الإجابات تتفاوت بين التفاؤل القريب والتشكيك البعيد، تبعا لتطورات الذكاء الاصطناعي، وواجهات “الدماغ والآلة”، ونمو القدرة الحاسوبية.
وفي هذا السياق، يبرز اسم العالم والمخترع الأمريكي “راي كورتزويل” في طليعة المفكرين الذين وضعوا تصورات جذرية لمستقبل البشرية، فقد اشتهر بدقة توقعاته حول تقدم الحوسبة، وأثار جدلا برؤيته لما يسمى “نقطة التفرد التقني” (Technological Singularity)، وهي اللحظة التي يتوقع فيها أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري، وتبدأ الآلات في تطوير نفسها دون تدخل الإنسان، وتسمى أيضا الانفجار التقني.

ويرى “كورتزويل” أننا نقترب سريعا من هذه اللحظة الفاصلة، وربما نبلغها بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، في عام 2045 على وجه الدقة.8
ويعزو ذلك إلى تسارع النمو في قدرات المعالجة الحاسوبية، التي باتت تتضاعف بمعدلات تفوق ما تصوَّره “قانون مور” (Moore’s Law). وهو ملاحظة تنبؤية وضعها “غوردون مور”، أحد مؤسسي شركة “إنتل” (Intel)، عام 1965، تفيد بأنّ عدد الترانزستورات في الشريحة الإلكترونية (المعالِج) يتضاعف تقريبا كل سنتين، وتنخفض تكلفة الحوسبة إلى النصف تقريبا في المدة نفسها.9
الترانزستور عنصر إلكتروني دقيق يعمل مفتاحا أو مضخما للتيار الكهربائي، ويعدّ حجر الأساس في صناعة الدوائر المتكاملة والمعالجات الحديثة. ويتكوّن عادة من مواد شبه موصلة مثل السيليكون، ويعمل على تنظيم تدفق الإلكترونات، لتنفيذ العمليات الحسابية والتخزينية في الأجهزة الإلكترونية. وبفضل صغر حجمه وسرعته، أصبح أساس الحوسبة الرقمية والتطور التقني الهائل.

ويمكن ملاحظة أن تطور عالم الترانزستورات شهد نموا هائلا لا يمكن حصره، فعند نشأته أواخر الأربعينيات، كان في الشريحة بضع مئات فقط من الترانزستورات بحجم طرف إصبع، أما اليوم فقد حققت شركة “ميكرون” رقما قياسيا بوحدة “في- ناند” (V-NAND) المكدسة، التي تضم 232 طبقة و16 شريحة، تحتوي على نحو 3.5 تريليون ترانزستور، فهي الأعلى من حيث عدد الترانزستورات الإجمالي في رقاقات الذاكرة على الإطلاق.10
لكن ما يثير الانتباه في أطروحات “كورتزويل” ليس تفوق الآلات فقط، بل ما ينجم عنه من تغير جذري في ماهية الإنسان نفسه.
يرى “كورتزويل” في كتابه الشهير “نقطة التفرد قريبة” المنشور عام 2005، أن الدمج بين الإنسان والآلة في عالم ما بعد التفرد سيصبح حتميا، وأن وعي الإنسان يمكن أن ينقل إلى بيئة رقمية، فيصبح “الخلود الرقمي” أمرا واقعيا لا خياليا، ويكون ممكنا فصل العقل البشري عن الجسد، واستضافته على وسائط صناعية، سواء كان ذلك في الفضاء السحابي، أو حتى داخل أجسام روبوتية.
المصادر:
[1] هيركولانو-هوزيل، سوزانا (2009). ورقة بحثية: الدماغ البشري بالأرقام: دماغ رئيسي مكبَّر خطيا. الاسترداد من: researchgate.net/publication/38091649_The_Human_Brain_in_Numbers_A_Linearly_Scaled-up_Primate_Brain?utm_source=chatgpt.com
[2] محررو الموقع (2024). أول مريض بشري في نيورالينك قادر على التحكم في الفأر من خلال التفكير، بحسب ما يقول ماسك. الاسترداد من: https://www.reuters.com/business/healthcare-pharmaceuticals/neuralinks-first-human-patient-able-control-mouse-through-thinking-musk-says-2024-02-20/?utm_source=chatgpt.com
[3] تشوا، جون (2017). ورقة بحثية: صياغة الوعي: تحليل مقارن بين نظريتي سيرل ودينيت للوعي. الاسترداد من: https://philarchive.org/archive/CHUFCA
[4] جانو، فويجتك (2021). أطروحة دكتوراه: تصور سيرل للطبيعية البيولوجية. الاسترداد من: https://portal.upce.cz/StagPortletsJSR168/PagesDispatcherServlet?pp_destElement=%23ssSouboryStudentuDivId_5568&pp_locale=en&pp_reqType=render&pp_portlet=souboryStudentuPagesPortlet&pp_page=souboryStudentuDownloadPage&pp_nameSpace=G11855&soubidno=87987
[5] تشالمرز، ديفيد (2010). ورقة بحثية: تحميل العقل: تحليل فلسفي. الاسترداد من: https://consc.net/papers/uploading.pdf
[6] سيرولو، مايكل (2015). ورقة بحثية: التحميل وتفرع الهوية. الاسترداد من: https://www.researchgate.net/publication/269041968_Uploading_and_Branching_Identity
[7] الشريف، يمان (2024). أبرز المفارقات عبر التاريخ.. حجج منطقية تناقض نفسها بنفسها. الاسترداد من: https://ajmn.tv/xszqj0
[8] كوربين، زوي (2024). عالم الذكاء الاصطناعي راي كورزويل: “سنعمل على توسيع نطاق الذكاء بمقدار مليون ضعف بحلول عام 2045”. الاسترداد من: https://www.theguardian.com/technology/article/2024/jun/29/ray-kurzweil-google-ai-the-singularity-is-nearer
[9] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). قانون مور. الاسترداد من: https://www.britannica.com/technology/Moores-law
[10] كولي، فينوس (2024). التحديث النهائي لعدد الترانزستورات لعام 2024. الاسترداد من: https://www.power-and-beyond.com/final-transistor-count-update-of-2024-a-03177edd6bb38cd52259db5457e51025/
