” كل شيء ممكن”.. بقعة ضوء في سجن الهواتف المظلم
أضحت وسائل الاتصال الحديثة -وخاصة الهاتف النقال- من الوسائل الضرورية في حياتنا اليومية، ولم يعد يقتصر استعمالها على الكبار الناضجين، بل تعدى ذلك إلى الأطفال والمراهقين، وذلك بهدف التواصل والبحث عن المعلومة، وأيضا من أجل التسلية وتقضية الوقت.
ومن الواضح أن هذه الوسائل الحديثة في ظلّ الطفرة التكنولوجية المعاصرة، والمنافسة من قبل شركات تصنيعها وشركات الإنترنت؛ أصبحت متاحة للجميع وبثمن مناسب وزهيد في بعض الأحيان، وهو ما سهّل الحصول عليها بسهولة.
ولهذه الوسائل إيجابياتها وسلبياتها التي لا تنحصر في الوسيلة ذاتها، بل في طريقة استعمالها وفي الوقت والمكان، وهي العملية التي أسهمت في ظهور الكثير من السلوكيات الخطيرة والعيش حياة افتراضية بسبب الإدمان عليها، سواء في الشارع العام أو المنزل، ويتعدى ذلك إلى المؤسسة التعليمية.
في سياق هذا الموضوع الذي أثر على الكثيرين في مجالات مختلفة فنية وتربوية وصحية، ارتأى المخرج مجاهد جبير إنجاز فيلم وثائقي قصير جديد، لتسليط الضوء على الظاهرة ومعالجتها وطرحها للنقاش من زوايا متعددة، ومن داخل المؤسسات التعليمية.
الفيلم الوثائقي “كل شيء ممكن” أنتجته شركة “بي إس”، وشارك فيه كل من الدكتور والكاتب بوشعيب المسعودي وجمال الدين البوزيدي ومحمد زريكة وأميمة مدينة كما قام بتصويره فريق فني ضم الفنانين عبد الهادي إربان حمزة نبدة وعبد البادي لطرش.
فضاء المؤسسة التعليمية.. إشكالات أخلاقية
لننطلق من كون هذا الفيلم مادة فنية وفكرية للتواصل مع المتلقي حول ظاهرة اجتماعية متفشية، فهو لا يُقدّم الواقع كما هو، بل يُعيد طرحه وفق رؤية تُحاكي الحدث الكائن، من خلال شخوص يمثلون تصورات واقتراحات بحثا عن الحلول الممكنة.
اعتمد المخرج هنا بالدرجة الأولى على فضاء المؤسسة التعليمية الذي يقع فيه الحدث، وهي مؤسسة توجد في مدينة حطان بضواحي مدينة خريبكة، حيث تفاعلت إدارة المؤسسة مع هذا العمل الفني، لأنه يقدم صورة حقيقية عن واقع من الأهمية أن نقوم بالتوعية حول مضاعفاته وخطورته.
في طرحه للقضية حاول المخرج إبراز التأثير السلبي في استعمال الهاتف ولو بطريقة بسيطة، لكنها واقعية كلّفت المدمن على الهاتف التأخر في الدخول إلى القسم وعدم الانتباه إلى الدروس وتماديه في استعمال الهاتف حتى داخل القسم بينما الأستاذ يشرح الدروس، وهو أمر خطير للغاية.
كما لامس المخرج في الفيلم الكثير من السلبيات التي ينتجها الإدمان على الهاتف بالخصوص، منها الغش وعدم الاعتماد على المهارات الفردية والكفاءات الشخصية في إطار تكافؤ الفرص، فضلا عن العناد والنرفزة والعدوانية، إلى حد أن التلميذ قد يفكر في إيذاء الأستاذ الذي منعه من استعمال الهاتف وسحبه منه، ليعرض قضيته على الإدارة.
عقوق الوالدين.. أبعاد منزلية أخرى
إن حضور ولي أمر الطالب إلى إدارة المؤسسة للنظر في قضية الابن الذي لا يلتزم بالحضور في الوقت وعدم الانتباه، يُعد إشكالا أخلاقيا آخر أراد المخرج طرحه، مبرزا تداعيات هذه الظاهرة على أفراد العائلة التي تؤثر على عملية التحصيل، وأيضا تساهم في إرباك نفسية العائلة.
ويُعدّ مشهد نوم المدمن حتى في ساعات متأخرة من الليل والهاتف يعمل على بطنه؛ إحدى الصور المعبرة والخطيرة التي لا يستطيع معها الطالب التوفيق في دراسته، وذلك من خلال عدم مراجعته للدروس، وإعطاء الجسم الراحة الكافية لاستقبال يوم جديد، والذهاب إلى المؤسسة التعليمية بنشاط وحيوية.
ويبلغ التأثير السلبي لاستعمال الهاتف أقصاه في تحول هذا السلوك غير القويم من المؤسسة التعليمية إلى المنزل، ويتجلى ذلك من خلال السجال والصدام بين المدمن على الهاتف وأمه، وهو ما قد يؤدي إلى سلوكيات أخرى أكثر خطورة، لعل أخطرها عقوق الوالدين.
جودة المعنى على حساب المبنى.. مضمون واقعي صريح
من أجل البحث عن الحلول ووضع الظاهرة في إطارها الصحي والعلمي والأكاديمي والتربوي أيضا، اعتمد المخرج على شهادة طبيب مختص سلّط فيها الضوء على الظاهرة وأبعادها الإجرامية العنيفة، وتأثيراتها الصعبة وطرق الوقاية منها.
الشيء نفسه طرحته شهادة مُفتّش التعليم الذي تناول الظاهرة في سياقها الاجتماعي والتربوي، كما طرح بعض البدائل كتنمية الوعي وممارسة الرياضة وبعض الهوايات، وتوسيع دائرة العلاقات الاجتماعية، والانخراط في بناء علاقات اجتماعية فعّالة.
هذا الفيلم وإن كان قصيرا ومصورا بتقنيات بسيطة، فإنه في العمق ركّز بالأساس على المعنى في مقابل المبنى، هذا المعنى الذي قدّم مضمونا واقعيا صريحا يُهدّد الكثير من الشباب والأسر، وفي ذلك رسالة واضحة ومعالجة خلّاقة لحدث موجود من الواجب التصدّي له بكل الوسائل.
شاعرية الصورة الناطقة
استمد الفيلم قوته الفنية من شاعرية الصورة الناطقة، حيث أن أغلب المشاهد -باستثناء الشهادات- كانت مشاهد صامتة مصحوبة بموسيقى جميلة، لكن صمتها كان تعبيرا خارقا نفذ إلى أعماق المتلقي، وهذا هو مسعى الفيلم الوثائقي.
إن المخرج من الناحية الفنية كان ذكيا في طرحه للإشكالية، حيث ركّز على المشهد الافتتاحي بالخصوص، الذي يبرز المدمن على الهاتف وهو يعبر الطريق باتجاه المؤسسة التعليمية مبحرا في عالم الهاتف دون الانتباه لما حوله.
كان هذا المشهد مُلخصا لما يرغب في طرحه المخرج ويصل إليه، فكان بمثابة المفتاح والأرضية الخصبة التي تناسلت عبرها بقية المشاهد. إنه مشهد بدا قويا، حيث الفراغ الذي يملأ المكان الخارجي، وهو إشارة دالة على الفراغ المظلم الذي يعيشه المدمن الذي أصبح فريسة لتلك الوسيلة الذكية.
استعمال الهواتف في المدارس.. وباء مُنتشر
بالنظر إلى باقي عناصر الفيلم ومختلف التوليفات الفنية وطريقة التصوير التي اعتمدت فضاءات داخلية وخارجية واللقطات القصيرة والطويلة وحالة الممثلين والموسيقى المصاحبة للمشاهد الصامتة وغيرها من العملية الفنية؛ فكل تلك العوامل منحت للمتلقي عالما مصغرا ومكتنزا ومختصرا لظاهرة تنخر المجتمع.
إذن فكل شيء ممكن مع فيلم مجاهد جبير، سواء في ازدياد التأثيرات السلبية ومخاطر الاستعمال المفرط للهاتف النقال ومختلف الوسائل الإلكترونية، في حالة التمادي في استعمالها في وقتها ومكانها غير المناسبين، أو في التعافي من هذه البلية والسلوك السيء، واستعمالها استعمالا عادلا ومفيدا بلا أضرار.
قال مجاهد جبير في تصريح للجزيرة الوثائقية حول فكرة الفيلم: إن فكرة الاشتغال على مخاطر وسائل الاتصال، ومنها الهاتف والسبورة الإلكترونية وغيرها من الأدوات الإلكترونية التي تلقى اهتماما كبيرا من قبل الشباب اليوم؛ تعود إلى محاولة التوعية بخطورة هذا الأمر، خاصة على جانب التحصيل لدى المتمدرسين.
وأوضح أن الحافز الأكبر للاشتغال على هذا الموضوع أيضا، هو أنه إنجاز جرد لحاملي الهواتف الذكية في المؤسسات التعليمية على مستوى منطقة حطان في ضواحي خريبكة، حيث قال: وجدنا أن نحو 96% من الطلاب والتلاميذ يستعملون الهواتف وغيرها داخل حرم المؤسسات، وهذا شيء خطير للغاية.
وعن خطورة استعمال الهواتف داخل تلك المؤسسة، أوضح مجاهد جبير (وهو أستاذ للتعليم) أنها كثيرة ومتعددة، منها أن الإفراط في استعمال الهاتف في وقته ومكانه غير المناسبين، يجعل المدمن يعيش في سجن الهاتف المظلم، حيث عدم التركيز وتشتت الانتباه وهدر الوقت والانحراف بكل أشكاله والغياب عن الدروس وإنتاج سلوكيات غير سليمة من الواجب عدم توفرها في المتعلمين والمتعلمات.
هاجس الخطر الأكبر.. وسائل التوعية الفنية
شدّد المخرج مجاهد جبير على أن أكبر خطر يُهدّد مستعملي الهواتف هو انعكاساتها السلبية على مستوى الصحة، وعلى المردودية التربوية والبيداغوجية، فضلا عن خلق الكثير من التصرفات المشينة في صفوف التلاميذ والانحراف في الأخلاق والعداوة والصراعات المجانية والتشويش على الطلاب النجباء، من خلال التواصل بالرسائل وارتياد مواقع إلكترونية لا تخدم مستقبل الطلبة وغيرها.
وحول دور السينما كفنٍّ في الانخراط للتصدي لمثل هذه الظواهر والتوعية من آفاتها، أبرز مجاهد جبير قيمة الاشتغال على مثل هذه المواضيع سينمائيا، على اعتبار أن الفيلم الوثائقي من خصوصياته معالجة الواقع بطريقة خلّاقة، وأنه أيضا يوصل الفكرة والرسالة بدقة وبشكل حديث.
واعتبر أن فيلمه يحمل رسالة تربوية بالدرجة الأولى تستهدف المتعلمين والمتعلمات، وتقوم بعملية توعية بمخاطر استعمال الهواتف والأدوات الإلكترونية عموما في فضاء الدراسة الذي من المفترض أن يكون فضاء قيم نبيلة واحترام ومسؤولية، حفاظا على الرسالة التربوية السامية.
كما لفت إلى أن الاستعمال المفرط لتلك الأدوات في أوقات غير مناسبة للمتمدرسين في المؤسسة التعليمية بالوسط القروي -إن صحّ هذا التعبير- ساهم في إنتاج هذا الفيلم. وهذا يدلّ على الانتشار المهول لمثل تلك العادات السيئة التي يجب التصدي لها بحزم حفاظا على مستقبل الأجيال، وتقويم تلك التأثيرات من خلال السينما كوسيلة فنية تربوية مهذبة.
وأضاف أن الفيلم الوثائقي في شموليته يحمل الكثير من المبادئ والأفكار الإيجابية التي يحاول هذا الفيلم إيصالها وتلقينها إلى التلاميذ وأولياء أمورهم، فضلا عن محاربته للكثير من التصورات والممارسات الخاطئة التي تؤثر سلبيا على المتمدرسين صحيا ودراسيا.
“قراصنة المتعة”.. حلقة أخرى من يوميات المدارس
سبق للمخرج مجاهد جبير أن اشتغل على فيلم وثائقي يُعالج الظاهرة نفسها، لكن في شقها المتعلق بالقرصنة الإلكترونية (الأرناك)، حيث أكد بالمناسبة أن فيلم “قراصنة المتعة” الذي تطرق إلى موضوع يرتبط بعالم التكنولوجيا؛ حاول من خلاله تسليط الضوء على الظاهرة التي انتشرت مؤخرا في مدينة وادي زم، وأسقطت الكثير من الضحايا الذين تعرضوا للابتزاز.
وشدّد جبير على أن فيلم “قراصنة المتعة” الذي شارك في مهرجانات كثيرة وتُوّج بالجائزة الكبرى في الدورة الثانية لملتقى سينما المجتمع ببئر مزوي، كان له أثر إيجابي على كشف القناع عن ظاهرة جديدة بتقنيات حديثة، مما يوضح أن الفيلم الوثائقي دائما يواكب كل جديد، ويتناول تلك المواضيع من زوايا اجتماعية وقانونية وتربوية واجتماعية.
وحول القاسم المشترك الذي يجمع الفيلمين أكد جبير أن “قراصنة المتعة” و”كل شيء ممكن” تربطهما صلة معالجة ظاهرة إلكترونية، معالجة فنية واجتماعية ونفسية وعليمة وتربوية من خلال شهادات وطرح البدائل بحثا عن الحلول، والمساهمة في الحد من انتشار الظاهرة، والتوعية بخطورتها وأضرارها النفسية والتعليمية والاجتماعية، وتلك من مرامي الفيلم الوثائقي بشكل عام.
أهداف الفيلم الوثائقي.. مُعالجة الظواهر الواقعية
أكد جبير أن “قراصنة المتعة” الذي يعالج ظاهرة “الأرناك” انطلاقا من الواقع المحلي الذي اتخذ بُعدا كونيا، وكذلك فيلم “كل شيء ممكن” الذي يُعالج هو الآخر ظاهرة إلكترونية؛ يسيران في سياق المعالجة الخلّاقة للواقع، وهذا هو مرمى الفيلم الوثائقي، موضحا أن الفيلم الوثائقي كلما كان قريبا من قضايا المجتمع، كلما كان مؤثرا ومحققا لأهدافه النبيلة.
وكشف جبير أنه بعد تصوير الفيلم بإحدى المؤسسات التعليمية بحطان في ضواحي مدينة خريبكة (تبعد عن الرباط نحو 170 كيلومتر جنوبا) تفاعل معه المستهدفون، وقلّ استعمال الهواتف في المؤسسات التعليمية، وهذا هو هدف الفيلم الوثائقي في شموليته، حيث يطرح الإشكالية ويعالجها من زوايا متعددة، كما يحقق النتائج المتوخاة منها على أرض الواقع.
واعتبر جبير أن التركيز على معالجة انتشار تلك الظاهرة في صفوف المتعلمين من الشباب له مسعى تربوي بالخصوص، لما لتلك الفئة من حساسية كبرى، ومن استعداد لتلقي المعلومة والتأثر بها في أوساطهم وهم في مرحلة الاستفادة والتعبئة الفكرية والعلمية المهمة، وما يتسبب في التأثير على التحصيل لتلك الفئة المتضررة من الزاوية السلبية في استعمال تلك الآلات الحديثة.
مصداقية الفيلم الوثائقي.. معالجة خلاقة
حول دور الوثائقي بشكل عام في معالجة قضايا مجتمعية راهنة وطرح مواضيع على طاولة النقاش وفتح الموضوع أمام تدخل المهتمين والفاعلين؛ أبرز جبير مصداقية وقيمة الوثائقي مقارنة مع الأفلام الروائية في تناول المواضيع، نظرا لكون الوثائقي واقعيا يكسب ثقة المشاهدين، ويعالج قضايا واقعية يُحلّلها من خلال شهادات وآراء متخصصين، وليس كما يقع في الدراما والأعمال الخيالية، رغم أنها تنهل هي الأخرى من الواقع.
واعتبر أن “كل شيء ممكن” يخوض في عالم وأحداث غير خيالية بأحداث وقضايا وصراع وأشخاص وعواطف حقيقية، متضمنا الكثير من الرسائل والقضايا الهادفة، ويطرح موضوعا يستدعي تدخلا من الجهات من ذوي الاختصاص.
وأشار إلى أن الوثائقي يُعدّ شكلا سينمائيا قادرا على تسجيل اسمه في الساحة السينمائية محليا ووطنيا ودوليا، وله العديد من المميزات القادرة على اقتحام شعور المتلقي، والدليل أنه أصبح في العقود الأخيرة يلقى اهتماما كبيرا من قبل المنتجين والمخرجين والمشاهدين، كما أصبحت له مهرجانات دولية كبيرة.
وعدّد جبير الكثير من التظاهرات الدولية التي تُعنى بالفيلم الوثائقي في أغادير وزاكورة وطنجة وخريبكة وغيرها، معتبرا ذلك مكسبا إبداعيا كبيرا، وفيه نوع من الإدراك الواسع لأهمية الوثائقي على مستوى الإبداع والحياة، وكذلك في اقتحام الساحة الفنية واستقطاب جمهور عريض مُتشوّق لاكتشاف عوالم هذا اللون السينمائي المميز.