أبطال السماء.. تضحيات الكائنات الحية التي مهدت لغزو الفضاء
“فكر بالقرود التي أرسلت إلى الفضاء، إننا من دون آلامهم وتضحياتهم لن نصل إلى أي شيء”.
كانت تلك العبارة كلمات مجرّدة من الرواية الساخرة “نادي القتال” (Fight Club) للكاتب الأمريكي “تشاك بلانيوك” التي كانت يوما من الأيام واقعا تعيشه الحيوانات في مشاريع الفضاء البشرية في فجرها الإنسان[1].
ولعلّ توق الإنسان لاكتشاف المجهول بالإضافة إلى جهله في بيئة مبهمة هو ما قاده إلى أن يصب جلّ ثقته في الكائنات الحية التي تشاركنا في الوظائف الفيسيولوجية وتشاركنا في النظام الحيوي، لدراسة أي تداعيات قد تقع من تلك البيئة المجهولة.
فما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى بدأت البلدان بتسخير جلّ طاقاتها ومواردها في البرامج الفضائية لكشف النقاب عن المستور، وكذلك لريادة العالم في هذا المجال حديث الولادة.
وكان الاتحاد السوفياتي بقيادة الزعيم الراحل “جوزيف ستالين” قد بدأ أول مخطط لغزو الفضاء في خمسينيات القرن الماضي، لتنضم الولايات المتحدة الأمريكية لاحقا ببرنامج “مشروع ميركوري” (Project Mercury) في بداية الستينيات.
لقد عُرفت هذه الحقبة بالحرب الباردة بين هاتين القوتين العظميين، وبسبب ارتفاع وتيرة المنافسة، غض الطرف عن كثير من البروتوكولات والأخلاقيات العلمية المعروفة اليوم، فالعالم حينئذ كان يقف على صفيح ساخن يوشك أن يفور في أي لحظة.
مادة الأثير.. نواة علم الفضاء في عند فلاسفة اليونان
لقد بدأ العلم بالتطور على نحو دراماتيكي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان نتاج ذلك التطور السريع تغير كثير من المفاهيم التي تتعلق بشتى أفرع العلوم الطبيعية ولا سيما علم الفضاء.
فعلى سبيل المثال، كان لمادة الأثير التي اختلق وجودها الفيلسوف اليوناني أفلاطون ركيزة أساسية في الأوساط العلمية، قبل أن تُحَطم هذه الفرضية على يدي العالمين “ألبرت ميكلسون” و”إدوارد مورلي” في تجربتهما الشهيرة سنة 1886 للتأكد من وجود الأثير في الكون[2].
وكذلك الحال بالنسبة لجوانب أخرى، فالعلماء في ذلك الحين كان لديهم تصور جيّد عن ما قد يصادفونه في الفضاء، سواء كان تأثيره على الأجسام الحية أو على المراكب والآلات. وقد اختصرت مخاوفهم على عدة نقاط، منها انعدام الجاذبية والفراغ أو شبه الفراغ وأخطار الجسيمات ذات الطاقة العالية الفتاكة القادمة من الشمس أو من أعماق الفضاء.
انعدام الجاذبية.. تيه أجهزة الإنسان بعيدا عن الموطن
انعدام الجاذبية أو انخفاض تأثير الجاذبية، ويسبب ذلك على المدى القريب بعض الاضطرابات في الجهاز العصبي، إذ إنّ التحرر المفاجئ من قوى الجاذبية المؤثرة على الجسم يصيب “الجهاز الدهليزي” (Vestibular System) بالارتباك في تحديد الاتجاهات، فلا يكون للأعلى أو للأسفل أي معنى بالنسبة لرائد الفضاء.
كما أنّ جهاز “استقبال الحس العميق” (Proprioceptive System) يفقد وظيفته جزئيا، ويعد هذا الجهاز المسؤول عن إدراك موضع القدمين واليدين وبقية الأعضاء بالنسبة لبعضها. ويقول أحد رواد برنامج “أبولو” في مقابلة لناسا أنه لوهلة فقد إدراكه بذراعيه وقدميه، وكأنه بات بلا أطراف.
أما على المدى البعيد فيعد التعرض لانعدام الجاذبية مدة عدة أشهر أمرا خطيرا للغاية، إذ إن العظام تتخلص من الكالسيوم عبر الفضلات، مما يؤدي إلى ضعف هذه العظام وهشاشتها، وبالتالي يصبح رواد الفضاء عرضة للكسور في حالة الارتطام أو الانزلاق[3].
شبه الفراغ المشحون بالطاقة.. حياة على المحك
الفراغ أو شبه الفراغ هو غياب المادة في محيط الأجسام. والفضاء يعد مكانا ملائما لحالة انعدام المادة أو بمعنى آخر انعدام الهواء. وتعرض الكائن الحي لهذا الظرف يضع حياته على المحك، ذلك لأن الأوكسجين سيتوقف مباشرة من إمداد الدماغ بواسطة الدم، مما يبقيه واعيا لثواني معدودة قبل تعرضه للاختناق.
كما أنّ تعرض الأجسام الحية للفراغ مباشرة يؤدي إلى تضخم الأجهزة الحيوية داخل الجسم مثل الرئتين، بسبب الفرق الهائل في الضغط بين داخل الجسموخارجه، لكنه لن يصل إلى حد الانفجار لأن جسم الإنسان به بعض المرونة الكافية[4].
وأخيرا تلعب الجسيمات المشحونة القادمة من الشمس أو تلك القادمة من أعماق الكون (Cosmic Rays) دورا محوريا في تهديد بيئة الفضاء للعيش، إذ إن هذه الأشعة تحمل في طياتها جسيمات ذات طاقة عالية تفتك بالجسم الحي عبر إتلاف الحمض النووي لتنتج من ذلك خلايا مسرطنة[5].
كائنات الفضاء.. رحلات تمهيدية لقدوم سيد الكوكب
بعد استعراض أهم العوامل المؤثرة في طبيعة البيئة الفضائية القاسية بعيدا عن الأرض، حان وقت المرور على أهم التضحيات التي مرت بتلك التحديات في سبيل إرساء سفن الإنسان على شواطئ الفضاء الشاسع.
فالإنجاز البشري بالوصول إلى الفضاء بريادة رائد الفضاء السوفياتي “يوري غاغارين” عام 1961 ما كان ليتحقق دون تضحيات أصحاب القائمة أدناه.
ذباب الفاكهة.. أول سفراء الأرض إلى السماء
للمفاجأة كان ذباب الفاكهة أول الكائنات الحية تحليقا إلى الفضاء، ففي عام 1947 أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية مجموعة من الذباب كانت محفوظة في كبسولة على متن صاروخ “ف-2” نازي الصُنع إبان الحرب العالمية الثانية.
وصل الصاروخ إلى ارتفاع 109 كم، حيث تبدأ بداية الفضاء عند هذا الحد. لقد وقع اختيار الذباب لدراسة مدى تأثير الإشعاع الكوني عليه، لأنه تشبه الإنسان وراثيا، إذ تبلغ نسبة التشابه 61% في الشيفرة الجينية[6].
وعندما عادت الكبسولة إلى الأرض كان الذباب على قيد الحياة، ولم يجد العلماء أي تأثير يُذكر للإشعاع.
القرد “ألبرت”.. وفاة الناجي الوحيد بعد وصوله
لقد أرسل 32 قردا من فصائل متعددة كما هو معلن، وكانت البداية بين عامي 1948-1951 حينما أجرت وكالة ناسا الفضائية عدة رحلات لستة قرود من فصائل القرود الرايزيسية، وأطلقت عليهم جميعا اسم “ألبرت” يتبعه ترقيم روماني.
نجا واحد فقط من القردة عند عودته الأرض، لكنه ما لبث أن فارق الحياة بعد إخراجه من الكبسولة بسبب ارتفاع درجة الحرارة.
وكانت وكالة الفضاء الإيرانية هي آخر من يستعين بالقرود بدلا من رواد الفضاء البشر لأهداف علمية، وذلك في عام 2020 بعد إرسالها قردا وإرجاعه إلى الأرض حيا بنجاح[7].
فئران التجارب.. قوارض الأرض تسبح في طلب رزقها
لدى القوارض تاريخ طويل في التجارب العلمية، ولا عجب أن تكون الفئران مضربا للمثل في قولنا “فأر تجارب” لما يشاع من استخدامهم لهذا الغرض، والفضاء ليس مستثنى من القاعدة.
تحظى الفئران بثقة العلماء لما تتمتع به من خصائص فيزيائية، فهي صغيرة ويمكن السيطرة عليها بسهولة أكبر، كما أنها من الثدييات وذلك يكفي لكي تتشارك مع الإنسان في عدة وظائف حيوية.
وقد لاحظ العلماء أن الفئران بإمكانها التكيف عند انعدام الجاذبية، فالأمر لم يستغرق دقائق معدودة حتى بدأت الفئران بالسباحة في الفضاء بدلا من السير، ومحاولة الوصول إلى طعامها متجاهلة التغير الذي طرأ على البيئة حولها.
“لايكا” الكلبة.. مصرع رائدة الفضاء السوفياتية الأولى
لقد أرسل عدد من الكلاب إلى الفضاء، لكن الكلبة الروسية “لايكا” وحدها تحتل مكانة خاصة بينهم، فهي أول من مخلوق حي يدور حول الأرض يوم 3 نوفمبر/تشرين ثاني 1957، كما أنه كرمت بكونها رائدة فضاء.
كانت الكلبة “لايكا” من الكلاب المشردة، وكان المغزى من ذلك حظوظها العالية في التكيف مع تغير البيئة، بالإضافة إلى أن العلماء الروس أعجبوا بسلوكها غير العدواني. لقد نالت “لايكا” شرف تحقيق إنجاز بشري، لكنها لم تستطع العودة إلى الأرض.
إذ إنها زودت بوجبة غذاء واحدة بالإضافة لأسطوانة أوكسجين تكفيها لسبعة أيام فقط، وقد ذكرت الحكومة السوفياتية أن “لايكا” نجت طيلة الأيام السبعة. لكن ذلك تخالفه بعض المصادر التي تقول إنها ماتت بعد خمس ساعات فقط من الرحلة بسبب ارتفاع درجة حرارة المركبة[8].
أسماك ميناو.. فقدان البوصلة في العالم العلوي
أرادت وكالة ناسا الفضائية الاستعانة بكائنات حية قادرة على الحركة في ثلاثة أبعاد في ذات الحين، ولم يكن هناك خيار أفضل من الأسماك. ففي عام 1973 أُرسلت أول سمكة من عائلة ميناو (Minnow) بالإضافة إلى خمسين بيضة.
وكما هو الحال بالنسبة لرواد الفضاء حينما يُصابون بدوران الفضاء ويفقدون القدرة على تحديد الاتجاهات، فإن ذلك نفس التأثير الذي وقع على الأسماك في الأيام القليلة الأولى عندما بدأت بالسير وسط الماء في حلقات بدلا من الخطوط المستقيمة.
كانت آخر التجارب العلمية على الأسماك في عام 2012، بواسطة وكالة الفضاء اليابانية عندما قررت إرسال حوض سمك إلى محطة الفضاء الدولية. دُعم حوض السمك بمصابيح كهربائية لخلق أجواء مماثلة للأرض، وكذلك لدراسة تأثير انعدام الجاذبية والأشعة الكونية على أجسام الأسماك.
دب الماء.. شراسة أقوى الكائنات الحية تحملا
على الرغم من ضآلة حجمه الذي لا يكاد يُرى بالعين المجردة، فإن دب الماء يعد أقوى الكائنات الحية تحملا على الإطلاق.
يُطلق عليه بطيء المشية، وهو من الحيوانات المجهرية، وله ثمانية أطراف، ويمتلك سلوكا غريبا يشبهه البعض بسلوك الفضائيين، ويعزى ذلك لمقدرته على تحمل بيئة الفضاء، ليس هذا فحسب بل إنه يستطيع النجاة في الفراغ.
في عام 2007 أرسل عدد من دببة الماء إلى الفضاء على متن رحلة (FOTON-M3) التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، ثم قامت الوكالة بتحريرهم خارج المركبة لمدة عشرة أيام. وعند عودتهم إلى الأرض، تفاجأ العلماء بأن 68% من دببة الماء استطاعوا النجاة في ظل الظروف القاهرة.
فلا أشعة الشمس الفتاكة ولا نقص الأوكسجين ولا الحرارة كان بإمكانها النيل مما بقي من هذا الكائن الحي[9].
رحلة الكوكب الأحمر.. عودة المخلوقات الحية إلى المعركة
لا يمكن اختصار عدد الحيوانات التي صعدت إلى الفضاء في القائمة المذكورة، فالضفادع والسلاحف والعناكب وحيوانات أخرى وكذلك أنواع من النباتات والزهور وجدت نفسها بين ليلة وضحاها عائمة في الفضاء بعيدة عن موطنها.
لكن ارتداد الإنسان إلى الفضاء أكثر، قلص عدد الرحلات الفضائية للحيوانات، ولم تعد التجارب الحديثة اليوم تخدم الجانب البشري فحسب، بل إنها توفر المعلومات الكافية على مدى قدرة المخلوقات على التكيف في بيئة تنعدم فيها الجاذبية، تحسبا لتهيئة بيئة فضائية للعيش.
وكما هي التوقعات نحو المضي قدما نحو الكوكب الأحمر، أو نحو إنشاء مستعمرة على سطح القمر في السنوات القادمة، فإن الكائنات الحية ستعود إلى المشهد لإجراء عدد من التجارب لدراسة مدى التأثير على الوظائف البيولوجية في بيئة مغايرة لفترة زمنية طويلة.
المصادر:
[1] بولانيك، تشاك (1996). رواية نادي القتال. نيويورك: و. و. نورتون وشركة. ص66
[2] الشريف، يمان (2017). رائحة السماء.. عبق النجوم القادم من الفضاء السحيق. تم الاسترداد من: www.doc.aljazeera.net
[3] هويل، إليزابيث (2017). انعدام الوزن وتأثيره على رواد الفضاء. تم الاسترداد من: www.space.com
[4] جرين، نيك (2019). ماذا يحدث لجسم الإنسان في الفراغ؟. تم الاسترداد من: www.thoughtco.com
[5] محررو الموقع (2017). الإشعاع الكوني عمل محفوف بالمخاطر على جسم الإنسان. تم الاسترداد من: www.nasa.gov
[6] محررو الموقع. ذبابة الفاكهة بداخلك. تم الاسترداد من: www.science.nasa.gov
[7] وال، مايك (2013). القرود في الفضاء: تاريخ موجز لرحلات الفضاء. تم الاسترداد من: www.space.com
[8] لويس، روبورت (2020). لايكا. تم الاسترداد من: www.britannica.com
[9] محررو الموقع. 10 حيوانات صعدوا إلى الفضاء. تم الاسترداد من: www.discoverwildlife.com