تاريخ السرعة البحرية.. أخشاب وأشرعة تقهر ماء المحيط منذ آلاف السنين

كان للسفر عبر المحيطات أثر كبير على البشرية، فقد قادنا لاكتشاف أراضٍ جديدة، ورَبط بين ثقافات البشر، وأدى إلى عولمة الكوكب. وبفضل شجاعة وعبقرية بعض المخترعين الرواد كان الاستكشاف في أبهى حلله، وتجلى الحلم في ركوب الموج في أحسن صوره. وكما ارتبط شغف الإنسان باكتشاف المجهول، فقد كان شغفه بزيادة سرعته على الماء أكبر، فانتقل من بضعة كيلومترات كان يقطعها في يوم كامل، إلى مئات الكيلومترات في الساعة الواحدة، وما زال يحلم بالمزيد.

وهذا ما سنواكبه مع المخرج وعاشق السرعة “شون رايلي” الذي سيأخذنا في رحلة عبر الزمن، يعرض لنا فيها محطات تطور البشر في ركوب البحر، ويجمعها في فيلم شائق تعرضه الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “تاريخ السرعة” بعنوان: “تاريخ السرعة.. عبر المحيطات”.

القطمران.. هيكل مزدوج يحمل البولونيز إلى هاواي

بدأت الحكاية منذ فجر البشرية، وكانت رؤية المحيط تقذف الخوف في قلوب الأسلاف فهم يجهلون ما يخبئ لهم البحر، وبينما الفضاء هو حدّنا الأقصى اليوم، فقد كان المحيط هو الأبعد عند أسلافنا، وعندما ترك الإنسان اليابسة أول مرة شعر بالخوف، فأي رحلة في البحر قد تكون الأخيرة.

وتشير الدلائل إلى أن أسلافنا بنوا القوارب قبل 800 ألف عام، بينما اخترعت العجلة قبل 6 آلاف عام فقط، ولم تكن القوارب الأولى معقدة، بل هي جذوع مربوطة ببعضها تكوِّن طوفا (قارب مسطح)، لكن خوض غمار المجهول كان يقتضي اختراعا أكثر تعقيدا.

وصل البشر إلى هاواي قبل 1500 عام، وكان وصولهم إليها من أعظم قصص الاستكشاف البحري، فقد كانت هذه الجزر البركانية نائية في اعتبارات البشر آنذاك، وقد قطع البولونيزيون 3200 كيلومتر من جزر ماركيساس في رحلة ملحمية للوصول إلى هاواي، وما زال سبب ركوبهم البحر مجهولا، فهل ضاقت بهم جزرهم؟ أم هو الفضول وحسب؟

في مركب القطمران، عمل رفع الهيكل على  تقليص مقاومة الماء فزادت بذلك سرعته فوق الماء

كان البولينيزي يرفع شراعه ويمضي، وينظر خلفه إلى جزيرته التي تختفي شيئا فشيئا، وهو على شبه يقين أن لن يراها ثانية. كان بناء قارب سريع أمرا مهما للبولونيز، فاليابسة القادمة مجهولة والتموين محدود، ولذا هداهم تفكيرهم إلى صناعة القارب ذي الهيكلين، ويدعى “القطمران”، ويتميز بسرعته لارتفاعه عن الماء في الوسط، وذلك يقلص المقاومة، ويزيد ثبات السفينة.

إن محدودية الموارد على الجزر ألجأت البولونيز إلى وسائل مبتكرة لبناء قواربهم، فخلت من المسامير واستعيض عنها بالحبال التي يصل طولها إلى 10 كيلومترات، واستمرارا لإبداعات البولونيز المدهشة تصل سرعة القطمرانات الحديثة إلى 80 كم/ساعة أو ثلاثة أضعاف سرعة الرياح.

وقد تحقق هذا بفضل التصميم المتطور للأشرعة الذي حقق أقصى استفادة من الرياح، وساهم رفع هيكل المركب في تقليص مقاومة الماء بحيث يكاد المركب أن يطير فوق الأمواج. وقد فتح تصميم القطمران العبقري أبواب المحيط الهادئ للبولونيز، فتزوّدوا بالبطاطا الحلوة والجوز والماشية.

بدأت هجرات البولونيز في القرن الثالث، وعلى مدار 500 عام جاب بحارتهم 26 مليون كيلومتر مربع من المحيط، واستقروا على جميع الجزر الصالحة للسكنى، وكانوا يملكون المهارة والشجاعة الزائدة للانطلاق وراء الأفق، وضمنت لهم السرعة التي أنجزوها عبور المحيط الهادئ بسلام.

سفن الفايكنغ.. ثورة تفرض التفوق العسكري في عالم البحار

كان القطمران سلاح البولونيز في مواجهة أعالي البحار، أما الآخرون فقد وجدوا في القوارب السريعة استخداما آخر تماما، كالحرب. فقد كان منظر سفينة القراصنة “الفايكنغ” يبث الرعب في قلوب أشجع الرجال. وتصفهم الثقافة بأنهم قراصنة همجيون، ومن أعظم العابرين للبحار في تاريخ الحضارة الإنسانية، ووضعت سفنهم معيارا جديدا للسرعة.

صعد “شون” على ظهر السفينة “ساغا أوسبيرغ”، وهي نسخة من إحدى سفن الفايكنغ، ويزن شراعها أكثر من 140 كغم، ورفعُه عند هبوب الرياح يتطلب طاقما بأكمله، وقد دفعه تصميم أشرعتها الضخمة إلى اعتبارها السفينة الأسرع في عصرها، فالشراع المربع في الأمام يجبر الرياحَ لدفعه من الخلف، وعندما تأتي الرياح من الجوانب فإنها تُحدِث فرقا في الضغط بين مقدمة السفينة ومؤخرتها، مما يدفعها للأمام بسرعة.

وبسبب مساحة الأشرعة الكبيرة، فقد ساهمت بالاستفادة القصوى من الرياح، وتحقيق أقصى سرعة ممكنة في ذلك الوقت، وقد وصلت قوارب الفايكنغ السريعة إلى غرينلاند وأيسلندا وإنجلترا وآسيا وإسطنبول ومعظم أنحاء أوروبا، وبحلول القرن التاسع وبفضل سفنهم السريعة أصبح الفايكنغ القوة المهمينة على العالم الغربي.

بسبب مساحة الأشرعة الكبيرة ، حصلت سفن الفايكنغ على السرعة القصوى من الرياح

كما أرسلوا ممثلا عنهم في رحلة إلى المجهول، إنه “ليف إريكسون” نجل المكتشف الشهير “إريك الأحمر”، وقد انطلق باتجاه الغرب باحثا عن أراضي الأساطير، وهو يعلم أن السرعة فقط هي التي ستضمن له الوصول لهدفه. وكانت سفنهم تمتاز بالطول والنحافة، مما يكسبها الانسيابية المطلوبة، وفي سكون الرياح تتكفل المجاديف بتحريكها.

وصل “إريكسون” إلى ما يعرف اليوم بأمريكا الشمالية قبل 5 قرون من رحلة “كولومبوس” عبر الأطلسي، والمدهش كيف حافظت سفينة “إريكسون” على سرعتها في المحيط، وكيف تحمَّل هيكلها الأهوال والظروف الجوية القاسية.

فقد كان الهيكل الخارجي موصولا بالداخل بجديلات “البالين” المستخرجة من أفواه الحيتان، وتتكون من مادة الكيراتين، وتستخدمها الحيتان في فصل الغذاء عن ماء البحر، وذلك بعد تسخينه وتمدده وتحويله إلى حبال ليفية طويلة متينة، وبهذا نضمن وجود سفينة ذات ألواحٍ خارجية حُرَّة الحركة عن الهيكل الداخلي، لضمان تكيفها مع حركة الماء وعدم ارتطام الهيكل بشدة مع الأمواج.

وقد أصبح الفايكنغ سادة البحار بفضل عبقريتهم، وظلت سفنهم مصدر إلهام لتصميم السفن على مدار ألف عام، كما هيمنت سفنهم بمرونتها وانسيابيتها على البحار لقرون، إلى أن طوّر الآخرون تصاميمهم، بإضافة ست صواري جعلت سفينة “القرقور” في القرن الـ15 بستة أشرعة، وتمتاز بحجمها وسرعتها وثباتها، مما أحدث تغييرا في السفر الطويل، ودشن عصر الاكتشاف وتجارة العبيد عبر الأطلسي.

حادثة الأسطول البريطاني.. عاصفة تعيق نشوة المنافسة البحرية

في القرن الـ16 ظهرت سفن “الغليون” التي كانت تحمل الأسلحة الثقيلة، وتميزت بسرعتها وقدرتها على المناورة والتدمير، وقد هيمنت هذه السفن الحربية على البحار طيلة قرن كامل، ثم جاءت سفينة “القلبر” لتمثل ذروة التصميم الشراعي، فهي طويلة ونحيفة ومتعددة الصواري مع توزيع جميل للأشرعة، فأبحرت حول العالم قاطعة 650 كيلومترا في اليوم الواحد، وساهمت هذه السرعة في تقليص حجم العالم.

وبحلول القرن الـ17 احتدمت المنافسة بين القوى البحرية الأوروبية في إنجلترا وهولندا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، وهي تعلم أن من يملك البحار يملك العالم، وبات الإبحار عبر المحيطات بسرعة وأمان كلمة السر لسعادة الشعوب، وفتح المجال أمام كنوز وثروات لا تصدق، ليس مالا بل سُكّرا وبهارات وبضائع.

في سنة 1707 ضل الأسطول البريطاني طريقه باتجاه القنال الإنجليزي فارتطمت ثلاث سفن بالصخور وتحطمت

وتستطيع أن تلمس أثر تجارة المحيطات كلما أبحرت عبر التايمز في لندن، وحتى يومنا هذا، فمن الجيد أن تكون عندك المواد الخام، ولكن الأحسن من ذلك هو وجود السفن التي تنقلها لك عبر المحيطات، لتباع وراء البحار بأضعاف ثمنها. لكن سرعة السفينة لا تنفعها إذا ضلت طريقها.

ولم يكن تحديد موقع السفينة يعتمد على التخمين فقط، وإلا فالكوارث هي المصير المحتوم، ففي سنة 1707 كان الأسطول البريطاني في طريقه من مضيق جبل طارق باتجاه القنال الإنجليزي، وقد هبت عواصف شديدة أخرجت السفن عن مسارها، وارتطمت أربع منها بمجموعة من الجزر ذات الصخور المدببة “سيلي” فغرقت، وذهب ضحية الكارثة 1300 بحار في واحدة من أسوأ الكوارث البحرية. وقد ألقي باللوم يومها على الملاحين الذين لم يحددوا موقعهم جيدا.

بعدها خصص مجلس خطوط الطول جائزة قدرها 20 ألف جنيه (ما يعادل 5 ملايين جنيه اليوم) لمن يبتكر حلا، فظهرت نظرية خطوط الطول في القرن الـ17، ومفادها أن الشمس تكمل دورة واحدة حول الأرض كل 24 ساعة، ومعناه أن ساعة الإبحار تعني انتقالهم 15 درجة شرقا أو غربا.

آلة الزمن.. اختراع حمى السفن وأنقذ البحّارة

عندما يكون البحارة في عرض البحر فإنهم يعرفون الوقت بالنظر إلى الشمس، لكنهم لا يملكون الوسيلة لمعرفة الفروق الزمنية بين موقعهم في البحر والمكان الذي انطلقوا منه، وبذا لا يعرفون حساب درجات انتقالهم للشرق أو الغرب، لقد كانوا بحاجة إلى الساعة، وكانت ساعة البندول هي الآلة التي تقيس الزمن في ذلك الوقت، لكنها لم تكن تعمل في البحر، فظهرت الحاجة لنوع جديد من الساعات.

عملت ساعة “هاريسون” ثورة في الملاحة البحرية، فسلكت السفن في المحيطات طرقا أقصر وآمن

تسابق العلماء والحرفيون لنيل الجائزة، ومنهم “جون هاريسون”، الذي استمرت محاولاته مدة 30 عاما لابتكار ساعة لا تتأثر بالحرارة والرطوبة وحركة السفينة، وفي عام 1761 قدّم “هاريسون” للحكومة آلة قياس الزمن، وهي آلة ذات محورين متعامدين، لتحاكي حركة السفينة، وتبقى مستوية في جميع الأحوال، ولها نوابض مصنوعة من مادتين مختلفتين، ليعادل أحدهما الآخر في حالات التمدد والتقلص.

أحدثت ساعة “هاريسون” ثورة في الملاحة البحرية، فسلكت السفن طرقا أقصر وآمن في محيطات العالم. واليوم وفي منطقة غرينيتش بإنجلترا يمتد خط يمثل الصفر المرجعي لخطوط الطول، وإذا صحت ساعة “هاريسون” فإن المرء يقطع في كل ساعة 15 درجة، شرق أو غرب هذا الخط. لقد تحول اختراع هاريسون لبوابة رئيسية للعبور إلى العصر الحديث.

بحلول القرن الـ19 انطلقت المغامرات البحرية الطموحة والخطرة، وصارت سفن القلبر تعبر الأطلسي في أسابيع بعد أن كانت شهورا، لكن شغف الإنسان بالسرعة تعدى الأشرعة، وفي آخر القرن ظهر الجيل السريع من السفن عابرة المحيطات، وشهد جانبا الأطلسي انفجارا تقنيا هائلا أتاح للسفن فرصة التحرر من سطوة الرياح، والانتقال لاستخدام الآلات. كانت نقطة فاصلة في التاريخ الإنساني.

سفن البخار والفولاذ.. محركات الثورة الصناعية تقلب التاريخ

كان الفحم هو شرارة اندلاع الثورة الصناعية، وانتهى معه زمن الخيول والثيران والنواعير المائية، وجاء دور الآلات السريعة العاملة بالوقود، وتحركت السفن بالبخار بدل الرياح، واحتدم الصراع لبناء محركات السفن الأفضل بوزن وحجم أقل وكفاءة أعلى وسرعة أكبر، فجاء اختراع “تشارلز بارسونز” في عام 1834 لتوليد أكبر كمية من الطاقة باستخدام البخار، وسمي “التوربين”.

وجد المصممون الحالمون ضالتهم في الفولاذ، فصنعوا سفنا كبيرة جدا تعمل بالفحم الحجري

وجدت التوربينات طريقها إلى محطات توليد الكهرباء، وقد ظل ذهن “بارسونز” ظل متوجها لكيفية استخدام هذه التوربينات في تحريك السفن، لكن اختراعه واجه مشكلة في حركة المراوح السريعة، إذ كانت تنتج فقاعات الهواء “الفجوات” التي كانت تبطِئ السرعة، وبعد محاولات عدة توصل إلى شكل المروحة المناسب بزيادة مساحة سطحها، وبالتالي التقليل من تأثير الفجوات وزيادة كفاءة المراوح.

وهكذا وصلت سفينته “توربينيا” إلى سرعة غير مسبوقة بمعدل 60 كم/ساعة، وخلال سنوات معدودة وصلت سرعات السفن والقوارب السريعة إلى معدلات لم يكن يتخيلها أحد، فقد فاقت 500 كم/ساعة حين ظهرت طائرات “إتش ون” (H-1) المائية. وبحلول القرن العشرين كانت المراوح والتوربينات تثبت أنها الأفضل لدفع السفن، لكن أحلام المصممين كانت تتجاوز ذلك إلى قهر الأمواج بسفن أكبر وأسرع.

وجد المصممون الحالمون ضالتهم في استخدام الفولاذ، فهو قوي وقابل للشد والصهر والانثناء، ومن هنا ظهرت حقبة جديدة من عابرات المحيط المنتظمة، وظهرت بذلك السفينة الضخمة “لوسوتينيا” بطول 240 مترا، تحرّكها توربينات “بارسونز” بطاقة 76 ألف حصان، وهيكل من الفولاذ المتين والخفيف، فتجاوزت سرعتها 48 كم/ساعة.

السفن الفولاذية العملاقة وسيلة النقل الأكبر والآمن والأسرع

وقد حولت هذه السفن العالم إلى سوق كبيرة، وحملت إلى أمريكا 27 مليون مهاجر بين 1880-1930، وبشرت السفن العملاقة ببزوغ فجر العولمة. فقد كان النقل البحري يستحوذ على 90% من التجارة العالمية، وتعبر المحيطات 50 ألف سفينة بضائع يوميا، وللحفاظ على انسيابية هذا العدد الهائل بسهولة وأمان في المحيطات كان لا بد من ومضة عبقرية.

نظام تحديد المواقع.. صدفة سوفياتية تحدث الثورة الكبرى

المدهش أن هذه الومضة جاءت بمحض الصدفة، ففي أكتوبر/تشرين الأول 1957 أطلق الاتحاد السوفياتي القمر الصناعي “سبوتنيك”، وهو مجرد هوائي في صندوق حديدي. وفي أمريكا، أقام العالمان “وليام غاير” و”جورج وايفمباك” منصة تنصت على القمر السوفياتي، واكتشفا من خلال اختلاف التردد وشدته أنهما يستطيعان تحديد موقع “سبوتنيك” بالنسبة للمستقبِل.

وفي لحظة إلهام أيقنا أنه يمكنهما تحديد موقعهما أو موقع أي جسم متحرك على الأرض، وهكذا ولد نظام تحديد المواقع “جي بي إس” (GPS). واليوم يدور حول الأرض عشرات الأقمار الصناعية التي تخدم هذا الغرض.

باكتشاف نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية، أصبح التنقل في البحار أمرا يسيرا وأكثر دقة وأقل وقتا

وبعد ألف عام من انطلاق مراكب البولونيز ما زلنا نبحث عن السرعة فوق الماء وتحته، عن طريق ابتكار مركبات فائقة السرعة، مثل “سي بريتشر”، وهي أحدث المركبات المائية الترفيهية، وتحاكي الدلافين في رشاقتها وسرعتها، إذ تبلغ سرعتها على السطح 80 كم/ساعة، وتغوص تحت الماء بسرعة 40 كم/ساعة.

إن معظم كوكبنا مغمور بالماء، ومصيرنا مرتبط بهذه المسطحات المائية، ولذا فرغبتنا في زيادة سرعتنا لن تنتهي، لأنها تمنحنا البقاء والاستكشاف والرفاهية. إنها حكايتنا المستمرة مع السرعة.