المعادن الثمينة.. شريان الاقتصاد ومنبع التكنولوجيا ووقود الحرب

كانت المعادن الثمينة كالذهب والفضة وما زالت رمزا للثراء والجاه، وشكلت بسبب ندرتها مجالا لتنافس الأغنياء للحصول عليها، وتخزينها كاستثمار آمن لا يتأثر بعوامل الزمن والتطور والصراعات الجيوسياسية. كما شكلت هذه المعادن على مر الزمن أساس صناعة المجوهرات والحلي لجمالها وألوانها اللامعة، واستعملت كذلك لسك القطع المعدنية للعملات.

ويعتبر الذهب أكثر المعادن الثمينة شهرة وطلبا حول العالم منذ حوالي 6 آلاف سنة، حتى أنه أصبح مرجعا لتمويل النظام العالمي الحديث.

أما اليوم فقد تعددت هذه المعادن الثمينة، وظهرت أصناف أخرى مثل “البلاتين” و”البلاديوم” الذي يتجاوز سعره اليوم سعر الذهب. كما انضمت معادن جديدة مؤخرا إلى نادي المعادن الثمينة كالنيكل والكوبالت، بفضل استعمالها في صناعة البطاريات نتيجة التطور التي يعرفه قطاع الاتصالات والهواتف والسيارات الكهربائية.

فماذا نعرف إذن عن هذه المعادن الثمينة في العالم؟ وما هي خواصها التي تمكنها من لعب أدوار أساسية في مجموعة من الصناعات؟ وما هي أهم الدول المنتجة لهذه الكنوز الطبيعية؟ وكيف أصبح مصير قطاعات صناعية مهمة مرتهنا بالحصول على هذه المعادن؟

فنون الزينة والطب والتكنولوجيا.. تاريخ حافل للمعدن الأصفر

أصبح الذهب عنصرا رئيسا في صناعة الإلكترونيات. ومع التطور التكنولوجي الذي بدأ في القرن العشرين، كثر الطلب عليه بفضل مقاومته العالية للصدأ وجودته في توصيل الكهرباء، رغم كونه ثالث أفضل عنصر ناقل للكهرباء بعد الفضة والنحاس. لكن المصنعين يفضلون استعماله في الموصلات متناهية الصغر المعرضة لخطر التآكل، وهو ما قد لا تتحمله المعادن الأخرى.

لا يزال الذهب يحتل المركز الأول عالميا وتاريخيا في أهميته كمعدن ثمين

وقد استخدم الذهب أيضا في صناعة الفضاء، إذ يدخل في تركيبة خوذة رواد الفضاء، والمركبات الفضائية، بفضل قدرته على عكس الأشعة تحت الحمراء الضارة في الفضاء الخارجي.

ورغم ذلك ما زال استعمال الذهب كحلي ومجوهرات هو السائد، بفضل سهولة تشكيله، ولونه الأصفر البراق الذي لا يتأثر بعوامل الزمن. وتستحوذ هذه الصناعة على حوالي 78% من استهلاك الذهب العالمي سنويا.

وإضافة إلى ذلك، فقد استعمل المعدن الأصفر منذ القدم في مجال الطب -خصوصا في ترميم الأسنان- لصلابته وعدم تسببه في أي حساسية، وذلك قبل التراجع عنه تدريجيا منذ أواخر السبعينيات نتيجة ارتفاع أسعاره وظهور مواد بديلة. وقد استخدم أيضا في الطب الصيني التقليدي لعلاج بعض الأمراض الجلدية والتقرحات، واعتمده الرومان قديما كمرهم فعال ضد مشاكل البشرة.

البلاديوم.. معدن حملته السيارات إلى مرتبة فوق الذهب

لا يزال الذهب المعدن الثمين الأكثر طلبا حول العالم رغم فك ارتباطه بالدولار منذ سنة 1971. وها نحن نرى اليوم كيف يقيم اقتصاد الدول بمخزونها من الذهب، إذ تمتلك الولايات المتحدة أكبر احتياطي عالمي يزيد على 8 آلاف طن، بينما تسعى الصين وروسيا إلى مضاعفة احتياطاتهما في السنوات العشر الأخيرة.

معدن البلاديوم الذي يندرج ضمن عائلة البلاتين يعد بديلا للذهب لخصائصه المميزة

لكن المعدن الأصفر لم يعد اليوم لوحده المتحكم في الاقتصاد العالمي بعد ظهور معادن أخرى ثمينة كثر عليها الطلب، خصوصا في المجال الصناعي، وعلى رأسها معدن البلاديوم الذي يندرج ضمن عائلة البلاتين، ويوصف بأنه بديل للذهب لخصائصه المميزة التي جعلته أساسيا في صناعة أجهزة تنقية عوادم السيارات، وهي تستحوذ على أكثر من 80% من إنتاجه العالمي.

وقد اكتسب البلاديوم هذه المكانة بفضل خاصيته الفريدة التي تستطيع تحويل 90% من الغازات المنبعثة من السيارات إلى نيتروجين أقل خطورة، وثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، وهي الخاصية التي ازداد الطلب عليها بسبب القيود البيئية الصارمة التي أصبحت تفرضها بعض الأسواق، خصوصا في أوروبا وأمريكا، وتستهدف بالأساس سيارات الديزل. كما تسبب هذا الطلب الكبير على البلاديوم في ارتفاع سعره بشكل كبير متجاوزا سعر الذهب في المرة الأولى سنة 2001، ثم بعد ذلك منذ 2019.

أجهزتنا الإلكترونية.. مناجم من المعادن النفيسة في منازلنا

قد يستغرب البعض إذا علم أننا نخزن أحيانا في منازلنا معادن ثمينة موجودة في الهواتف المتروكة وأجهزة الحاسوب القديمة. فبالإضافة إلى الألمنيوم الذي يستخدم في الهياكل، والسيليكون الذي يعد العنصر الأساسي في الشرائح الإلكترونية، نجد أيضا الذهب والبلاتين والفضة، بكميات قليلة جدا في الدارات الإلكترونية، والشرائح والمعالجات، والموصلات وبعض المكثفات. ويقدر مجلس الذهب العالمي أن كمية الذهب في الهاتف الواحد، يمكن أن تصل إلى 50 ملليغراما.

ونجد أيضا في هذه الأجهزة، معدن البلاديوم الأغلى على الإطلاق، وهو يستعمل في الأقراص الصلبة وفي المكثفات الإلكترونية متعددة الطبقات، وكذلك معدن التانتالوم النادر الذي يمنح المكثفات المصنوعة منه جودة عالية، مما يجعله مطلوبا في صناعة الهواتف الذكية وألعاب الفيديو والحواسيب المحمولة. كما قد نجد في عوادم بعض أنواع السيارات كميات من البلاديوم قد تعادل بعض الغرامات.

ورغم هذه القيمة الظاهرية لهذه الأجهزة، بفضل أنواع المعادن الثمينة التي تحتوي عليها، فهي غالبا ما تتحول إلى نفاية بعد نهاية عمرها الافتراضي أو تعطلها، ولا يعاد تدويرها في الغالب، لأن كميات العناصر الثمينة فيها ضئيلة جدا، حتى وإن احتوت على البلاديوم أو التانتالوم. وقد استخرج في عام 2017 مثلا حوالي 121 طنا فقط من البلاتين والبلاديوم والروديوم على مستوى العالم من النفايات.

فإعادة استخراج واستغلال هذه العناصر مكلف للغاية وغير مجد من الناحية الاقتصادية في الوقت الراهن، مما يجعل شركات الالكترونيات والسيارات، تفضل شراء معادن جديدة مستخرجة من الأرض، عوض إعادة تدوير الأجهزة القديمة.

حروب المعادن.. أسلحة الدول المنجمية تخنق الصناعات

بعد أن تحولت بعض المعادن النادرة مثل البلاديوم إلى عنصر أساسي في الصناعة، لم تعد الشركات مستقلة نسبيا وقادرة على توفير المواد الأولية التي تلزمها بسهولة. وأصبحنا نرى اليوم كيف أصبحت الدول تستخدم مواردها الطبيعية كأسلحة، وهو ما ظهر جليا في حرب روسيا على أوكرانيا.

فبالإضافة إلى حرب الغذاء والطاقة التي قفزت بأسعار الحبوب والغاز والوقود إلى مستويات قياسية، ظهرت حرب المعادن الثمينة التي سجلت أسعارها أيضا أرقاما غير مسبوقة، إذ قررت روسيا منذ بداية الصراع حظر تصدير أكثر من 200 مادة أولية تحتاجها صناعات الدول التي تعتبرها “غير صديقة”.

فروسيا هي من بين أكبر اللاعبين عالميا في مجال المعادن الثمينة، وتعد شركة “نورنيكل” الروسية أكبر منتج ومورد للبلاديوم في العالم بنسبة تقارب 40%، وهي كذلك أكبر منتج للنيكل المكرر، ومنتج رئيسي للبلاتين بما يعادل حوالي 10% من الإنتاج العالمي.

يمكن استخلاص كميات كبيرة من المعادة الثمينة من مخلفات الإلكترونيات

ونرى الآن كيف أصبح الحصول على مثل هذه المعادن مهمة صعبة ومكلفة للشركات المصنعة، بسبب العقوبات الغربية على موسكو التي أثرت على صادراتها، خصوصا من البلاديوم الذي تجاوز سعره 2000 دولار للأونصة. وذلك رغم وجود منتجين آخرين كجنوب أفريقيا التي توفر أكبر احتياطي من البلاديوم يصل إلى 70 ألف طن، أي ما يعادل ثلثي المخزون العالمي المقدر بـ110 آلاف طن.

وقد تسبب الوضع المضطرب على المستوى الاقتصادي في سنة 2022، في ازدياد الطلب على الاستثمارات الآمنة، خصوصا على الذهب الذي اقتربت أسعاره من 2000 دولار للأونصة، مما زاد من معاناة الشركات في الحصول على المعادن الضرورية في الصناعة، واضطرت في النهاية إلى الرفع من أسعار منتجاتها في جميع القطاعات بدون استثناء، ليصبح التضخم السمة الرئيسية للاقتصاد العالمي.

سيارات الكهرباء.. دخول أعضاء جدد إلى نادي المعادن الثمينة

أصبح التوجه نحو اعتماد السيارات الكهربائية واقعا ملموسا في العالم، وتستعد الشركات المصنعة لحظر بيع سيارات الوقود الأحفوري الذي سيصبح فعليا في أوروبا بدءا من سنة 2035. ويتطلب هذا التوجه تطوير صناعة السيارات الكهربائية التي شكلت إلى جانب المركبات الهجينة الموصولة بالكهرباء نسبة 18% من مجموع مبيعات السيارات داخل الاتحاد الأوروبي سنة 2021.

تعتمد بطاريات “الليثيوم-أيون” في صناعتها على النيكل والكوبالت كمعادن ثمينة

وتنصبّ جل الأبحاث حاليا على تطوير البطاريات لتصبح أكثر كفاءة وتحملا، خصوصا أن الطلب عليها أصبح كبيرا بسبب نمو صناعة الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية وأجهزة تخزين الطاقة المتجددة، وقد ارتفع هذا الطلب خلال سنة 2021 بأكثر من الضعف، ليصل إلى 580 غيغاواط/ساعة.

وتتوقع شركة أبحاث الطاقة “ريستاد إنرجي” أن يقارب الطلب العالمي على بطاريات تخزين الكهرباء حوالي 9 تيراواط/ساعة بحلول سنة 2030، بزيادة ترتفع 15 مرة عن مستوى عام 2021. وتعتمد هذه البطاريات خصوصا بطاريات “الليثيوم-أيون” في صناعتها على مجموعة من المعادن كالنيكل والكوبالت الذي دخل نادي المعادن الثمينة من بابه الواسع.

الكوبالت.. معدن الذهب الأزرق القادم من بلاد الكونغو

يوجد الكوبالت أساسا في أفريقيا، وبالضبط في جمهورية الكونغو الديمقراطية التي أنتجت 74% من الإنتاج العالمي عام 2021، وتملك نصف احتياطي الكوبالت في العالم المقدر بحوالي 7 ملايين طن، بينما تساهم دول أخرى كروسيا وأستراليا في الإنتاج العالمي، ويتوفر المغرب أيضا على نسبة معتبرة من هذا المعدن، لكنه يوصف بالأنقى في العالم بنسبة تصل إلى 90%.

تنتج جمهورية الكونغو الديمقراطية ما نسبته 74% من الإنتاج العالمي من معدن الكوبالت

وقد تصدرت السيارات الكهربائية الطلب على الكوبالت في العالم لأول مرة سنة 2021، متفوقة على الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب الشخصية، وتطلبت صناعة السيارات 59 ألف طن من هذا “الذهب الأزرق” خلال 2021، أي ما يعادل 34% من إجمالي الطلب العالمي، وفقا لتقرير صادر عن معهد الكوبالت (cobalt Institute).

وتستأثر الصين بصناعة الكوبالت، وتقوم بتكرير 85% من الإنتاج العالمي من أجل تزويد مصانع البطاريات الكهربائية على أراضيها بهذا المعدن الأساسي. وقد كشف تحقيق أجرته سنة 2021 صحيفة “نيويورك تايمز” أن شركات صينية تمول أو تملك 15 منجما للكوبالت من أصل 19 توجد في الكونغو الديمقراطية. مما جعل الصين أول منتج للبطاريات في العالم، وتُسيطر شركة “كالت” (CALT) الصينية لوحدها على نحو 30% من السوق العالمي لبطاريات السيارات الكهربائية.

النيكل.. قلق عالمي من أزمة المعدن الصناعي الثمين

تستحوذ الدول الآسيوية على إنتاج النيكل، خصوصا إندونيسيا والفلبين، بالإضافة إلى أستراليا وروسيا وبعض الدول الأفريقية، وتتنوع استخداماته في القطاع الصناعي بفضل قدرته على تحسين جودة الصلب والسبائك، من حيث الصلابة والمتانة ومقاومة التآكل والصدأ، ويمكن خلطه مع كثير من الفلزات مثل النحاس والمنغنيز والحديد والكروم.

تكمن أهمية النيكل كمعدن في صلابته ومتانته ومقاومته للتآكل والصدأ

وأصبح الحصول على هذا المعدن يثير قلق الشركات الصناعية، بعد أن سجلت أسعاره أيضا ارتفاعا كبيرا قُدر بحوالي 250% في شهر مارس/آذار 2022، متجاوزا حاجز 100 ألف دولار للطن المتري، على اعتبار أن روسيا -التي شملتها العقوبات الغربية- تمثل حوالي 9% من إمدادات النيكل العالمي، وتمتلك ما يقرب من ثلث خام “كبريتيد النيكل” عالي الجودة الأكثر طلبا في الصناعات الحديثة، ومن بينها صناعة بطاريات “الليثيوم-أيون”.

وتتوقع تقارير عدة أن تزداد أهمية “النيكل” مستقبلا باعتباره يشكل ما بين 60 إلى 80% من الكتلة الإجمالية للبطاريات القابلة للشحن، مما يعني أن تطور صناعة السيارات الكهربائية سيجعل النيكل أكثر طلبا، وسيطرح ذلك في المقابل تحديات أمام إنتاج هذا المعدن الثمين، خصوصا أمام تراجع الموارد العالمية منه، وانعكاسات عمليات تحويله الصناعية على البيئة.

أزمة الغازات النبيلة.. ضربة روسية تقلق الصناعات الغربية

إلى جانب الكوبالت والنيكل المستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، تسود تخوفات في سوق التكنولوجيات الجديدة من أزمة إمدادات من غاز النيون بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا، والعقوبات المفروضة على روسيا.

ويعتبر هذا الغاز النادر -المستعمل بشكل رئيسي في مجالات الإنارة والكهرباء- أساسيا لصناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، خصوصا أن صناعات الأجهزة الحديثة والسيارات عانت نقصا في هذه الرقائق منذ بداية جائحة كوفيد 19.

روسيا توقف صادراتها من غازات النيون والكريبتون والزينون ردا على العقوبات الغربية عليها

وتضررت سلاسل الإنتاج العالمية بصورة أكبر بعد إعلان روسيا وقف صادراتها من غازات النيون والكريبتون والزينون، ردا على العقوبات الغربية عليها، خصوصا أن روسيا تستحوذ -إلى جانب أوكرانيا- على حوالي 30% من حاجات السوق العالمية من هذه الغازات النبيلة.

وقد تضررت بشكل كبير مصانع إنتاج الشرائح (الرقائق) الإلكترونية في اليابان وتايوان من حظر روسيا لهذا الغاز الثمين. كما تأثرت أيضا الولايات المتحدة على اعتبار أنها كانت تحصل إلى أغلبية حاجاتها من غاز النيون من أوكرانيا. وسيدفع هذا الوضع أيضا الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة أهدافه المستقبلية، فيما يخص مضاعفة قدرته على تصنيع الرقائق بحلول عام 2030، في إطار سعيه للهيمنة على 20% من السوق العالمي.


إعلان