الغازات النبيلة.. روح الرقائق الإلكترونية تختنق بفعل أزمة أوكرانيا

كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا التي انطلقت في فبراير/شباط 2022، عن مخاطر كبرى ينطوي عليها الصراع بين الغرب والقوى الطامحة إلى التمرد على قوانينه. فإلى جانب المخاطر العسكرية المباشرة المرتبطة باحتمال بلوغ الصراع درجة استعمال الأسلحة المدمرة مثل السلاح النووي، أدت هذه الحرب إلى عواقب تفوق تلك التي خلّفتها جائحة كبرى مثل جائحة كورونا، مثل حالة التضخم الاقتصادي وما ينجم عنها من ارتفاع شامل للأسعار عبر العالم، وظهور بوادر أزمة غدائية يمكن أن تُسقط ملايين البشر في المجاعة، وانكشاف مَواطن صراع ظلت خفية إلى وقت قريب، مثل حرب الغازات النبيلة ومعها صناعة الرقائق الإلكترونية؛ المادة الحيوية لصناعات الهواتف والحواسيب والسيارات.

 

فإلى غاية الأسابيع الأولى من الحرب الروسية على أوكرانيا، لم يكن الرأي العام الدولي يدرك وجود سوق شبه احتكارية ذات قواعد تعاقدية ونمط أسعار غاية في الغموض، ولم يكن يدرك أن هذه السوق ترتبط بغازات تختلف عن تلك المتداولة في جوانب الحياة الصناعية والاقتصادية الشائعة، يطلق عليها وصف “النبيلة” و”الخاملة”، ولمكر الصدف تُعتبر روسيا وأوكرانيا المصدر الأول لهده الغازات.

وإذا كانت جائحة كورونا قد فتحت عيون العالم على واحدة من أزمات العصر، والمتمثلة في أزمة الرقائق (أو الشرائح) الإلكترونية، والتي تعتبر مادة أساسية في صنع جل المعدات الإلكترونية من هواتف وحواسيب وأجهزة منزلية وسيارات، فإن الحرب الروسية الأوكرانية أضافت طبقة أخرى لا تقل سمكا، تتمثل في الغازات النادرة التي لا يمكن إنتاج تلك الرقائق بدونها، والتي كانت روسيا وأوكرانيا إلى وقت قريب تتقاسمان عملية إنتاجها في تكامل تعود أصوله إلى فترة الاتحاد السوفياتي، حين كانت أوكرانيا قاعدة خلفية لموسكو في مجالات الصناعة والفلاحة.

نبيلة!!.. نُبل البشر ينعكس على الغازات

الغازات النبيلة هي مجموعة من الغازات غير التفاعلية عديمة اللون والرائحة، وهي نوع من الغاز الخامل، تتميز أساسا بكونها يمكن أن تخضع لتفاعلات كيميائية في ظروف معينة، على عكس الغازات الخاملة التي لا تخضع للتفاعل بتاتا[1].

أي إن ما يميز الغازات المسماة نبيلة كونها تتكون من ذرات ثنائية ولا تتوفر على إلكترونات حرة تبحث عن مثيلاتها لتتفاعل معها؛ إلا في حال تعريضها للضغط أو الحرارة وبالتالي تفكيك ذراتها، وهو ما لا يحدث بطريقة طبيعية، أي أن لها أغلفة إلكترونية خارجية تامة الامتلاء، مما يجعلها غير ميّالة للتفاعل مع العناصر الأخرى، وتوجد غالبا في هيئة غازات أحادية الذرة (monatomic)، ونادرا ما تتشكل مركبات مع عناصر أخرى[2].

الغازات النبيلة هي غازات خاملة تتميز بأنها لا تميل إلى التفاعل مع العناصر الأخرى

تحصر بعض المصادر قائمة الغازات النبيلة في ستة غازات هي الهيليوم والنيون والأرغون والكريبتون والزينون والرادون (مشع)، بينما تضيف مصادر أخرى غاز الأوغانيسون. وتمتاز هذه الغازات بقلة تفاعلها مع العناصر الأخرى، ولذلك توصف بالخاملة، وهي في ذلك مهمة للغاية لضمان بيئات أكثر استقرارا وأطول أعمارا للأجهزة الإلكترونية التي تُستخدم فيها الرقائق الإلكترونية[3].

ويعود أصل مصطلح “الغاز النبيل” (Noble Gas) إلى ترجمة الكلمة الألمانية (Edelgass). وقد امتلكت الغازات النبيلة هذه التسمية الخاصة مبكرا منذ 1898. وتشير صفة “النبل” التي تطلق على هذه الغازات إلى عدم أو قلة تفاعلها، قياسا على الأشخاص النبلاء أخلاقيا الذين لا يردون الإساءة بمثلها ولا ينساقون للاستفزاز.

ومن المعلوم كيميائيا أن جميع العناصر تمتلك إلكترونات ضمن ذراتها، والإلكترونات تُفضّل أن تكون على شكل أزواج إلكترونية، وإذا ما وجد إلكترون حر فإنه لن يهدأ حتى يجد إلكترونا آخر يرتبط معه. وفي حال وَجد إلكترون حر إلكترونا آخر في ذرة أخرى، فإنه سيجعل ذرته ترتبط مع الذرة الأخرى[4].

ومن الاستعمالات البسيطة الشائعة لهذه الغازات، مَلء البالونات الطائرة التي تُستخدم في الاحتفالات بغاز الهيليوم، أو خلط هذا الأخير بالأكسجين في أنابيب التنفس تحت الماء لجعلها أخف وزنا، كما يُستعمل غازا النيون والزينون لإنتاج أضواء مميزة، إلى جانب غازي الأرغون والكريبتون اللذين يستعملان في بعض الأنواع من المصابيح، فيما تُنتَج أشعة الليزر التي تستخدم في أغراض طبية من مصابيح الأرغون أو الكريبتون أو الزينون[5].

روسيا وأوكرانيا.. منبعا الغازات النبيلة في حرب

استشعر الاقتصاد العالمي أثر الحرب الروسية على أوكرانيا منذ اضطرار القوات الأوكرانية إلى الانسحاب من مدينة ماريوبول تحت ضربات الجيش الروسي، حيث تعتبر هذه المدينة أبرز مواقع إنتاج المعادن الضرورية لإنتاج الغازات النبيلة مثل النيون والكريبتون والهيليوم.. ويُعتبر النيون مثلا واحدا من مشتقات صناعة الفولاذ، ولا يمكن إنتاجه إلا انطلاقا من وحدات إنتاجية ضخمة متخصصة في صناعة الفولاذ، كتلك التي تتوفر في مدينة ماريوبول إلى جانب مدينة أوديسا الأوكرانيتين.

كميات إنتاج روسيا وأوكرانيا من الغازات النبيلة التي تدخل في صناعة الرقائق الإلكترونية

ويتم إنتاج هذا الغاز من خلال الانبعاثات الناتجة عن صناعة الفولاذ، ومن ثم التقاطه بواسطة تقنيات خاصة. ومع وصول الغزو العسكري الروسي إلى مناطق الإنتاج الأوكرانية، توقّف الإنتاج وتوقف معه إمداد الصناعات الغربية المرتبطة بأشباه الموصلات[6].

وفي ظل الغموض الكبير الذي يلف سوق الغازات النبيلة في العالم، فإن ما توفره المصادر المفتوحة من معطيات دقيقة، يفيد بكون أوكرانيا ظلت وإلى غاية الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم سنة 2014، مصدر 90% من إمدادات العالم من هذه المادة.

ومنذ ذلك الحين، شرع قسم كبير من إنتاج الغازات النبيلة في الرحيل نحو الصين وكوريا ووجهات آسيوية أخرى، لتصبح أوكرانيا إلى غاية الحرب الروسية عليها بداية 2022، مصدر ما بين 50 و70% من الإنتاج العالمي من غاز النيون. وإذا استمرت السيطرة الروسية على مدينة ماريوبول واستؤنف إنتاج الغازات النبيلة في هذه الأخيرة، سيصبح أكثر من 90% من الإنتاج العالمي من هذه المادة تحت سيطرة المحور الروسي الصيني المناهض للغرب[7].

العقوبات.. الخناق يضيق على الغازات النبيلة

لا يقتصر تهديد إمدادات الغازات النبيلة في العالم على توقف كامل الإنتاج والصادرات الأوكرانية، بل يتعلق أيضا بالإمدادات الآتية من روسيا التي تعتبر منتجا أساسيا لهذه الغازات، ويمثل إنتاج روسيا 30% من الإمدادات العالمية لثلاثة أنواع من الغازات النبيلة هي النيون والكريبتون والزينون[8].

من جانب آخر، تسببت العقوبات الغربية على روسيا بوقف الإمدادات الروسية من بعض المعادن الأساسية لإنتاجها مثل البلاديوم. كما قررت وزارة التجارة الروسية أواخر أبريل/نيسان 2022 فرض قيود على تصدير الغازات النبيلة (نحو اليابان ودول أخرى) حتى نهاية العام، ردا على قيود فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على تصدير الرقائق الإلكترونية إلى روسيا[9].

تدخل الرقائق الإلكترونية في صناعة مختلف الأجهزة التكنولوجية الحديثة

وفيما قدّر خبراء روس أن تكون كوريا الجنوبية -موطن شركة سامسونغ لصناعة الرقائق العملاقة- أول من يشعر بالألم، لأنها تعتمد على واردات الغاز الخامل وتفتقر إلى شركات غاز كبرى قادرة على زيادة الإنتاج خلافا للولايات المتحدة واليابان وأوروبا[10]، كانت اليابان وتايوان (الجزيرة الصينية القريبة سياسيا من الغرب) من أكثر المتضررين من حظر روسيا لغاز النيون بالنظر إلى أهميته في إنتاج الرقائق الإلكترونية في معظم الصناعات الإلكترونية لديهما. وجاء هذا القرار الروسي ليحاول إعادة ترتيب سلاسل الإنتاج العالمية التي كسرتها العقوبات الغربية على روسيا[11].

الرقائق الإلكترونية.. صناعة تختنق

ويعتبر النيون أحد أكثر الغازات النبيلة أهمية، وتعد أوكرانيا مصدر 70% من إنتاج العالم من هذا الغاز الذي يعتبر بمثابة وقود حيوي يدير أجهزة الليزر التي قد تكون مطلوبة لتصنيع الرقائق الإلكترونية.

وكانت أوكرانيا إلى وقت قريب إلى جانب روسيا، مصدر الغازات الأساسية والمواد الخام اللازمة لتصنيع الرقائق الإلكترونية في العالم مثل النيون، وهو ما يجعل حربهما تهديدا كبيرا لصناعة الرقائق الإلكترونية وما يرتبط بها من صناعات في العالم.

 

ويلعب النيون دوراً مهماً في إنتاج أشباه الموصلات في عملية تسمى الطباعة الحجرية، حيث يتحكم الغاز في الطول الموجي للضوء الناتج عن الليزر، لأنه يحفر أنماطا على رقاقات السيليكون التي تتكون منها الشريحة.[12]

وما يزيد الوضع تعقيدا، أن تصنيع النيون في أوكرانيا يعتمد على روسيا، إذ يجري إنتاج وقود النيون في روسيا، قبل أن يتم تنقية هذا الوقود في أوكرانيا التي تتولى تصديره إلى الكثير من دول العالم[13].

ولا يقتصر انعكاس الحرب الروسية على أوكرانيا على غاز النيون، بل يشمل غازات نبيلة أخرى مثل الهيليوم، والذي يتم استخراجه من باطن الأرض في بعض المواقع كواحد من مشتقات صناعة تسييل الغاز الطبيعي، كما هو الحال في دول منتجة للغاز مثل قطر والجزائر والولايات المتحدة الامريكية[14].

لا يعتبر النيون الوحيد من المواد الخام المعرضة للخطر بسبب الصراع الروسي الأوكراني، إذ تقدم روسيا نحو ثلث البلاديوم في العالم الذي يُستخدم في تصنيع الرقائق الإلكترونية، بالإضافة إلى أنه حيوي للمحولات المحفزة. كما تعتبر أوكرانيا من المصادر الأساسية لغاز الكريبتون، والذي تعتبر صناعة الرقائق الإلكترونية مستحيلة بدونه[15].

صناعة السيارات.. أكبر الضحايا

كنتيجة مباشرة لأزمة الغازات النبيلة، تسبّب الغزو الروسي لأوكرانيا بتفاقم أزمة الرقائق الإلكترونية وتهديد صناعة السيارات بأكملها، نظرا إلى العقوبات المفروضة على موسكو من جهة، ونقص الإمدادات من جهة أخرى، خاصة عندما قررت العديد من شركات صناعة السيارات وقف شحناتها إلى روسيا، أو تعليق العمل في مصانعها هناك، أو اتخذت كلا القرارين، وتزامن ذلك مع فترة كان الاقتصاد العالمي يأمل فيها الخروج من أزمة الرقائق الإلكترونية التي سببتها جائحة كورونا[16].

الرقائق الإلكترونية هي عبارة عن مجموعة من الدوائر الإلكترونية تتخذ شكلا دائريا ومسطحا فوق حامل من السيليكون. وبرزت أهمية هذه الأجزاء الصغيرة من الأجهزة الإلكترونية في بداية جائحة كورونا مستهل العام 2020، بسبب تباطؤ وتيرة الإنتاج الصناعي وتعطل جل الموانئ العالمية وأنظمة النقل والتوريد، وتزامن ذلك كله مع ارتفاع كبير في الطلب على هذه الرقائق من طرف صناعات إلكترونية مثل صناعة الهواتف المحمولة والحواسيب، وهي القطاعات التي سحبت بساط المنافسة من صناعة السيارات[17].

تحتوي السيارة العادية على ما بين 50 و150 رُقاقة للتحكم بكل شيء إلكتروني في السيارة

وتعتمد صناعة السيارات الحديثة على الرقائق الإلكترونية في جل مراحل الإنتاج وأجزاء السيارات، خاصة منها أنظمة مساعدة القيادة المتقدمة والتحكم في أقفال الأبواب وكل أنظمة المعلومات والترفيه، إذ تحتوي السيارة العادية على ما بين 50 و150 رُقاقة للتحكم بكل شيء إلكتروني في السيارة[18]. وهو ما يجعل هذا القطاع الصناعي الحيوي في الاقتصاد العالمي يتوقف بشكل شبه كلي خلال إحدى فترات جائحة كورونا بسبب ندرة هذه الرقائق الإلكترونية، وارتفاع الطلب على الأجهزة الإلكترونية والطبية.

ومن بين العوامل التي أدت إلى أزمة الرقائق الإلكترونية، تقسيم العمل على الصعيد الدولي، ولهث كبار المنتجين وراء السعر الرخيص للمنتَج، فخُصصت دول بعينها لإنتاج بعض المنتجات للاستفادة من رخص الأجور والمزايا الضريبية وبالتالي رخص المنتج النهائي[19]. وبمجرد تعطل آلة الإنتاج في المناطق التي تركزت فيها صناعة الرقائق الإلكترونية، توقف النشاط الاقتصادي في كثير من الدول والمجالات.

وتحتكر ثلاث شركات كبرى 80% من الإنتاج العالمي للرقائق الإلكترونية هي سامسونغ الكورية وإنتل الأمريكية و”تي إس إم سي” (TSMC) التايوانية، وهو ما يعني أن سوق إنتاج الرقائق احتكاري إلى حد كبير، وهذا يعني ببساطة أن انتهاء الأزمة يتوقف علي القرارات الإنتاجية لهذه الشركات، بالإضافة إلى السباق نحو التخزين الذي نجحت من خلاله الصين في تخفيف آثار الأزمة عليها بصورة كبيرة[20].

الصين.. بُعد نظر

دفعت الحرب الروسية الأخيرة وحصار واحتلال مدينة ماريوبول، الكثير من الشركات والدول إلى التفكير في استثمارات ضخمة لتطوير صناعات الرقائق الإلكترونية، سواء في آسيا أو أوروبا أو أمريكا، وهو ما يتطلب بضع سنوات قبل بدء الإنتاج الفعلي وبكميات كافية.

وعلى عكس الدول الغربية وحلفائها في آسيا الذين يرتهنون بشكل كبير إلى إمدادات روسيا وأوكرانيا من الغازات النبيلة، استثمرت الصين منذ العام 2015 في صناعة أشباه الموصلات الخاصة بها، بما في ذلك المعدات اللازمة لفصل الغازات النبيلة عن المنتجات الصناعية الأخرى، لتصبح من مصدري هذه الغازات، بعد أن أعلنت عن اكتفائها الذاتي[21].

 

المصادر

[1] https://ar.strephonsays.com/difference-between-inert-gases-and-noble-gases
[2] shorturl.at/nOQ13
[3] https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1565551
[4] shorturl.at/bmXZ2
[5] shorturl.at/aCD35
[6] https://lesactualites.news/affaires/les-gaz-nobles-souffrent-de-la-guerre-de-poutine-en-ukraine/
[7] https://lesactualites.news/affaires/les-gaz-nobles-souffrent-de-la-guerre-de-poutine-en-ukraine/
[8] https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1565551
[9] https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1565551
[10] shorturl.at/nopu1
[11]shorturl.at/hSV58
[12] shorturl.at/bFGN9
[13] shorturl.at/dfhm8
[14] https://lesactualites.news/affaires/les-gaz-nobles-souffrent-de-la-guerre-de-poutine-en-ukraine/
[15] shorturl.at/cdfO0
[16] shorturl.at/cvW13
[17] shorturl.at/bkyz3
[18] shorturl.at/cJLUV
[19] shorturl.at/CLN01
[20] shorturl.at/dhmsX
[21] shorturl.at/kor26


إعلان