“جيل ما بعد الألفية”.. أوبئة فتاكة تهدد أبناء العصر التكنولوجي

إن الطريقة التي تجمع بها شركات التكنولوجيا المعلومات عنا وتتحكم بها وتستخدمها، من شأنها أن تُحدثَ اضطرابات سياسية واجتماعية، إنها كالوباء الذي يضرب بعنف، فبين الفينة والأخرى يظهر منتج ثوري جديد يغيّر كل شيء، ويكون اليافعون في عمر المراهقة هم حقل التجارب في أكثر الأحيان.

يحاول هذا الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “جيل ما بعد الألفية”، تسليط الضوء على كيفية تأثير التطبيقات الرقمية، ومنصات التواصل المختلفة، على سلوك المستخدمين بشكل عام، واليافعين تحديدا، والآثار التي تتركها هذه التكنولوجيا الرقمية على أنماط تفكيرهم وتعاطيهم مع الثابت والمتغير في مجتمعاتهم البشرية.

 

تعديل السلوك.. العالم الرقمي يفعل ما عجز عنه علم النفس

أنفقت شركات وادي السيليكون مليارات الدولارات على تعلُّم ما كان يفعله علماء النفس خلال القرن الماضي، وهو فهم مبادئ تعديل السلوك، فجاءت برامج التعلم الآلي والذكاء الصناعي قويةً بشكل غير معقول، وبتنا نواجه نظاما يضع استراتيجيات ذكية جدا تبقينا عالقين.

وقد طوّر أحد الأكاديميين شيئاً يدعى نموذج سلوك “فوغ”، يتيح تصميم أي تكنولوجيا رقمية لتحفيز استجابة هرمون السعادة، “الدوبامين”، ومراقبة السلوك وتعزيزه، وبذلك يملكون قوة لتغيير السلوك لا نملك أي مقاومة ضدها، لأنها تهاجمنا على مستوى اللاوعي.

يتواصل رفع مستوى التوقعات لدى جيل ما بعد الألفية، “جيل Z”، وهذا يُصَعِّد نزعة الكمال لديهم، وتحدث الأمور على الهاتف بشكل يبدو عشوائيا، وفي أوقات مختلفة، وهذه المقاربة الأكثر فاعلية لتغيير سلوك شخص ما، لأنها ترفع مستوى توقعاته وتوحي بأن شيئا ما سيحدث، وتبقي الدماغ في حالة تأهب قصوى.

لقد أصبحت ردود الأفعال كالإعجاب وما شابه، على شبكات التواصل أهم بكثير من تلقي مكافأة مادية على تحقيق هدف ما، وأصبح تلقي التقدير والإعجاب هو عنوان القبول في المجتمعات الرقمية، وعكس ذلك مزيد من القلق والاكتئاب، وخصوصا لدى الفتيات، الأمر الذي ينعكس على العلاقات ومستوى التوقعات.

صار الشباب يبحث عن جمع الإعجابات دون إدراك للواقع وخطورة الأحداث

وإذا لم يحصل المراهق على قسط كافٍ من النوم فستكون العواقب وخيمة، لأن الليل هو الوقت الذي يقوم به الدماغ بجميع العمليات التي تساعد في تشكل الذكريات وصقل المهارات.

انفصام الشخصية.. تحويل المستخدمين إلى علامة تجارية

ما تزال العلاقات في العالم الرقمي غير مفهومة، فمن الصعب إنشاء علاقات حقيقية، ولا بد من بذل جهد كبير لتحقيقها، وهذا يقود إلى عالم لا تبدو العلاقات فيه ضرورة، فآلاف البدائل جاهزة، وإذا فشلت واحدة فما عليك سوى المغادرة. إذ أن هاتفك الذكي أصبح جهازَ تحكم بحياتك، كل شيء يحدث فورا وبضغطة زر.

هنالك علاقة سببية سلبية بين وسائل التواصل وصورة الجسد، فالتصور الدونيّ للجسد هو معيار أساسي في معظم اضطرابات الصحة العقلية، والمظهر الذي ينشره الشباب بزينتهم أو ملابسهم مصنوع لوسائل التواصل، فبعض تشكيلات الوجه تبدو مذهلة في الصور، وهي في الواقع ليست كذلك، لكن المهم توثيق تلك اللحظات بالصور، لحظة بلحظة، فهذا هو إرثهم.

هنالك إذن شخصيتان، الأولى هي شخصيتك أنت، والثانية هي ما تريد أن يتخيله الناس عنك، وكلما ازدادت المسافة بين الشخصيتين زاد احتمال ظهور اضطراب عقلي، وإذا أضفت وسائل التواصل يزيد اتساع الفجوة بين الشخصيتين. من الجيد أن تروي قصتك وتنظمها من خلال مؤثرات بصرية مثيرة للاهتمام، ولكن كلما ابتعدت صورتك عنك فذلك يخلق الضغط والقلق.

يقدم الإنستغرام الأشخاص على أنهم علامات تجارية، وهذا عبء ومسؤولية مرهقة، لأن لغة التسويق وصنع العلامة التجارية تسربت إلى الطرق اليومية التي نُدير من خلالها صلاتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بالآخرين. وليست المشكلة أن تكون علامة تجارية على الإنترنت، لكن المشكلة هي كيف ستعيش بعيدا عن هذه العلامة.

تقنيات المراقبة.. حياة سهلة وخصوصيات مهدورة

يبدو كثير من المراهقين أكثر وعيا بذواتهم بشكل عام، وهم أكثر تعاطفا ورحمة في مجتمعاتهم الرقمية من الأجيال السابقة، لكن “التبريد الاجتماعي” يعد من أكبر التهديدات التي تحملها التكنولوجيا على سعادة الطفولة، ولذا يبدو جيل الألفية أكثر نفورا من المخاطرة، وأكثر تعلقا بشاشاتهم.

يعيش شباب جيل ما بعد الألفية خلف فلاتر لاتعكس الواقع

إن كمية البيانات المتاحة عن الناس أكبر بكثير مما يتخيلون، ولو عرفوا كم يجمع عنهم من معلومات لزاد توترهم، وحسبك أن أي تصرف مريب بعد مكالمة مع صديق قد يوقعك في بؤرة تركيز جهاز مراقبة ما، وحينها سوف يتتبعون جميع مكالماتك وأصدقائك وردود أفعالهم، ويستخدمون بعضها لاتهامك أو تلطيخ سمعتك أو تهديدك وابتزازك.

كما أن تقنيات التعرف على الوجه والبصمة تجعلك مراقبا دائما، فهي تلغي خصوصيتك وتحاصر حريتك المدنية، وبالرغم من أن تقنية التعرف على الوجه توفر السرعة والكفاءة في الحياة اليومية، فيمكنك مثلا أن تفتح هاتفك بمجرد النظر إليه، فإنها بالمقابل تجردنا من الخصوصية، فالهاتف أصبح جهاز تعقب، وأنت مراقب ومعروف في أي مكان في العالم، ومع الوقت تنتشر الكاميرات في كل مكان حولنا وتحاصرنا.

انتحار الزهور.. وباء يفتك بفتيات العصر التكنولوجي

يرى كل جيل أن الأمور تسير بشكل أكثر سوءا فيما يتعلق بالصحة العقلية، وبالفعل فقد ازداد مستوى القلق والاكتئاب في السنوات الماضية، وخصوصا لدى الإناث ما بين 16-24 عاما، وهناك حديث متكرر عن الإدمان وفقدان الأمل والرغبة في الانتحار، ولم يعد السؤال: هل يؤذي الشباب أنفسهم؟ بل أصبح: كيف؟

لقد بات إيذاء النفس ظاهرة اجتماعية، ففي فترات سابقة كان الشباب أيضا يؤذون أنفسهم، ولكن بمفردهم وفي الخفاء غالبا، أما اليوم فتتعاقد مجموعات كبيرة من الشباب عبر وسائل التواصل، ويقيمون حفلات إيذاء جماعية، إنها عدوى إيذاء النفس، وهي أوبئة تنتشر، لا سيما في المدارس الداخلية، وصار ينظر إلى الإيذاء الجسدي على أنه حل لمشاكل لم تحل بعد.

ناتاشا ديفون باحثة في مجال الصحة النفسية تحاول كشف التغيرات التي يتعرض لها الجيل الجديد بسبب وسائل التواصل

هنالك تجمعات جيدة في العالم الرقمي، ولكن التجمعات السيئة هي الغالبة، وتتنكر بنيّة نبيلة في البداية، فيمكنك العثور على منتديات مؤيدة لفقدان الشهية، وأخرى تؤيد الإيذاء الجسدي. وتكمن المشكلة في أن هذه الأمراض انعزالية، ولكنها مع الوقت تصبح جماعية طبيعية. تبدو وسائل التواصل مدمرة بشكل خطير، ومع ذلك فيمكنها أن تساهم في تحسين المجتمعات.

لقد ارتفعت نسبة الانتحار إلى 56% ما بين عام 2007-2017، أي منذ ظهور الآيفون ووسائل التواصل، وذلك في الفئات العمرية من 13-24 عاما، وهي في الإناث ضعف معدلات الذكور. ومشاهدة وقائع الانتحار على وسائل التواصل يطبع ذلك السلوك، ويجعل أحدهم أكثر احتمالاً لتقبله في مواجهة مشكلة ما.

نزعة الكمال.. سباق محموم في عالم تحكمه الرأسمالية

حين تفكر في الضغط والتوتر الذي يمر به المراهقون عندما يكونون على غير اتصال مع عالمهم الرقمي وشخصيتهم الإلكترونية، فهذا أصعب بكثير مما يستوعبه البالغون، فهنالك مستويات عالية من الإنهاك والتعب سببها استمرار التواصل على الشبكة. لقد خلقت أدمغتنا للعمل قليلا والراحة قليلا، أما هم فيستخدمونها على الدوام، في حلقة مفرغة بحثا عن التالي.

إن النزعة إلى الكمال عند الشباب تتجاوز المعايير، فهم في ضغط دائم في هذا المجتمع الرأسمالي الذي لا يرحم، يستهلكون وينجزون ويتطلعون نحو النجاح لكي تكون لهم قيمة، ف90% من الشباب يتطلعون إلى إحراز تقدم مستمر، في وتيرة متسارعة وضغط متزايد، لقد خرجت التكنولوجيا الرقمية عن السيطرة، والسرعة تسيطر على جيل اليوم.

لقد باتت الحكومات متخلفة بعقود، والقوانين المصممة لعالم تناظريٍّ يصعب تطبيقها في العالم الرقمي، لأن سرعة التغيير في التكنولوجيا مذهلة ولا تحترم الحدود، وبالتالي فالقوانين عاجزة عن المواكبة.

عصر الآلات.. عالم يقف على مشارف الحقبة الطوباوية

تعمل كل شبكة على تشغيل كثير من خوارزميات التوصيات، لتظهر لك الأشياء التي ترى أنك تحبها، وطبيعة البشر أن ينجذبوا إلى ما يضحكهم وما يحزنهم وما يخيفهم كذلك، فتتدرب الخوارزميات ذاتيا على ما يجذب أكبر عدد من الناس لينقروا على محتوى معين.

وتقدم “غوغل” -على سبيل المثال- خدماتها مجانا مقابل الإعلانات، ثم تأتي منصات التواصل لتحدد اهتمامات المستخدمين، وفي الخلفية شركات متربصة تريد أن تبيع منتجاتها، وفي الحلقة الأضعف يأتي المستهلك لينفق ماله من أجل سلعة قد لا يحتاجها، وتكون معلوماته الشخصية بحدّ ذاتها سلعةً تبيعها الشركات للمهتمين.

وكلما زاد ذكاء الآلات وزاد اعتمادنا عليها زاد غباؤنا، وضعُف حُكمنا النقدي على الأشياء، وأصبحنا أكثر اعتمادا على الآلات لتقرر عنا، وسوف تقل الوظائف التقليدية وبالتالي تزداد البطالة، وستكون القِّلة المحظوظة هم أولئك الذين يحسنون التعامل مع التكنولوجيا.

ويرى كثير من الشباب أن المستقبل الطوباوي آتٍ، فهنالك آلات ذكية تقوم عنا بكل الأعمال المتعبة، وما علينا سوى الاستمتاع بالحياة وكتابة الشعر وسماع الموسيقى، إنها الرأسمالية بكل تجلياتها، مزيد من التكنولوجيا ومزيد من استغلال الناس، ومزيد من الأرباح.

وادي السيليكون.. غول مخيف يهدد مستقبل الكوكب

يبدى كثير من البالغين خوفا على الديمقراطية التي بنيت على أكتاف الطبقة المتوسطة والانتخابات والنقابات والإعلام الجريء، فهل نحن متوجهون نحو حروب أهلية؟ لكن جيل ما بعد الألفية ينظر إلى عالم أكثر استقرارا وسلاما في المستقبل، ولكن هل الأدوات التكنولوجية التي بحوزتهم ستمكنهم من ذلك؟

لقد مهّدت الإنترنت بيئة تبدو خصبة لنظريات المؤامرة التي أصبحت أكثر انتشارا بفضل مواقع التواصل، ولهذا فيجب على العقلاء وقادة الفكر المنضبط نشر الوعي بين الناس وإقناعهم، وحتى تدريبهم على دراسة محتوى معين والحكم على مدى صلاحيته، قبل أن يشاركوه مع الآخرين.

إن العالم في ورطة كبيرة حقا، فالطريقة التي تسير بها المجتمعات، ومستوى الاضطراب الذي سنشهده في العقدين القادمين غير مسبوق منذ الثورة الصناعية، كما أن وادي السيليكون كيان عظيم وغول مخيف، ولن يستطيع شخص واحد أن يقف في وجهه، ولكن 10 ملايين بإرادة قوية ووعي مستنير يستطيعون.