“الفضاء المجهول”.. طموحات السياحة الفضائية والحياة خارج الكوكب

منذ آلاف السنين والإنسان يتأمل في السماء لفهم واستكشاف هذا الفضاء غير المتناهي، واليوم تتواصل جهود العلماء للعودة إلى القمر، أو ربما الهبوط على سطح المريخ في يوم ما.

فهل ثمة حياة هناك؟ أو كائنات ذكية خارج الأرض؟ وهل سيكون المريخ وجهة سياحية لأولئك الذين سئموا وجهات الأرض؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت مدار فيلم “الفضاء المجهول” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “علوم كونية”.

سياحة الفضاء.. اقتحام القطاع الخاص عوالم السماء

منذ رحلة رائد الفضاء الروسي “يوري غاغارين” في 1961، لم يفقد استكشاف الفضاء حيويته، واليوم أصبح الوصول إلى الفضاء أسهل، ولم يعد الأمر مقتصرا على الجهات الحكومية، بل عمدت قطاعات خاصة إلى إرسال أشخاص خارج الكوكب. ففي صحراء نيومكسيكو تضع شركة “فيرجن غالاكتيك” لمساتها الأخيرة على رحلتها التجريبية شبه المدارية الأولى، في 2020.

الرحلات السياحية الفضائية مستقبل قريب في آفاق شركات الفضاء الأمريكية

وقد اشترى 600 عميل تذاكرهم مسبقا بسعر 250 ألف دولار، ووُضِع 8 آلاف شخص على لائحة الانتظار، وبهذا السعر سيصعد 6 مسافرين على متن “سبيس شيب 2″، وعلى ارتفاع 15 كيلومترا سيوضع رواد الفضاء في مركبة حاملة ويُدفعون نحو ارتفاع 90 كيلومترا، ليعيشوا تجربة انعدام الجاذبية، ويتمتعوا برؤية الأرض لعدة دقائق.

ويدعم العلماء السياحة الفضائية، فهي تسهم في تثقيف الناس، وعندما يرون الأرض من الفضاء والقارات التي لا حدود بينها والمحيطات المتدفقة حول الأرض، يكتسبون إدراكا أكثر لمدى اتصالهم ببعض، وأهميتهم لسلامة وحماية الكوكب.

رحلات المحطة الدولية.. مفتاح البداية ومورد تمويل المشاريع

دخل “جيف بيزوس”، الرئيس التنفيذي لأمازون مجال السياحة الفضائية عبر شركته الثانوية “بلو أوريجن”، وقد أجرت مركبته “نيوشيبارد” رحلاتها التجريبية الأخيرة في بدايات 2021، وسيخوض ستة أشخاص الرحلة على متن الكبسولة ليصلوا ارتفاع 95 كيلومترا، ويمكن استخدام قاذفة الكبسولة بعد كل انطلاق، وسيعود المسافرون بواسطة مظلة موصولة بالقمرة.

رائدة فضاء تعود إلى الأرض بعد قضائها بضعة أشهر في محطة الفضاء الدولية

وقد تكون هنالك رحلات تجارية إلى محطة الفضاء الدولية، فقد أطلقت شركة “سبيس إكس” التي يملكها الملياردير “إيلون ماسك” رحلة على متنها رائدا فضاء من ناسا للدوران حول الأرض، وقد وصلا إلى المحطة الدولية دون مشاكل.

وفي هذه الأيام يمكن لرواد الفضاء الخاصين قضاء وقت قصير في الفضاء مقابل 35 ألف دولار في الليلة، مقابل استخدام الهواء والماء والإنترنت ودورة المياه في المحطة الدولية، وللوصول هناك عليهم ركوب كبسولات معتمدة من ناسا، مثل “سبيس إكس” أو كبسولات “بوينغ”.

وتتوقع ناسا توفير المال باللجوء إلى القطاع الخاص، إذ أنفقت خلال العقدين الماضيين 3 مليارات دولار في عمليات تخص وكالة الفضاء الدولية، وستوجه ميزانيتها بدلا من ذلك نحو مشروع ريادي بالعودة إلى القمر والقيام بأبحاث حول المريخ وإمكانية الهبوط عليه، وستخصص 71 مليارا خلال السنوات الخمس القادمة على برنامج “آرتيمس” الطموح.

بدلات الفضاء.. تحديات العيش على سطح القمر

وقد صممت بدلات فضاء جديدة تسمح لرواد الفضاء بثني مفاصلهم بسهولة، وهي مصنوعة من طبقات داخلية تمكن إزالتها وإضافتها بحسب درجة الحرارة الخارجية، فدرجة الحرارة على القمر تتراوح بين -150 و+150 مئوية، والهدف النهائي هو إنشاء قاعدة قمرية دائمة بأسرع وقت بحلول 2028.

لكن المكوث على القمر يحتاج حماية خاصة من الإشعاعات، وقد طورت عينات من منازل الفضاء المستقبلية بواسطة برامج الذكاء الصناعي، وهي مكونة من مواد طبيعية على أسطح الكواكب مثل البازلت، وتخلط معها خيوط بلاستيكية نانوية أقوى من الإسمنت، وتحمي من فروقات درجات الحرارة والإشعاعات الشمسية والكونية.

بدلات فضاء جديدة مصنوعة من طبقات داخلية تمكن رائد الفضاء من إزالتها وإضافتها بحسب درجة الحرارة الخارجية

وهنالك تحديات أخرى للعيش على سطح القمر أو المريخ، فالذهاب في تلك الرحلة يعني بقاء رائد الفضاء محتجزا لمدة طويلة في حيز ضيق ومغلق، ومع روّاد آخرين، وهذا يسبب أنواعا خاصة من الضغط النفسي، التي ينبغي على رواد الفضاء التدرب عليها وهم على الأرض. وتبقى محطة الفضاء الدولية أفضل مكان لتدريب الطواقم على المدى الطويل.

ومن هذه التمارين وضع شخص في غرفة عازلة للصوت بدون نوافذ مدة خمسة أيام، ويطلب منه إنجاز الأعمال أثناء النهار، ويطلب منه النوم والأكل والرياضة في مواعيد معينة. بينما يراقب المتخصصون كمية العمل التي يستطيع إنجازها، وأثر طول الفترة وانعزال المكان على سلوك الشخص، ونقاط الضعف التي قد تولد نزاعات مع الطاقم وتحول دون إتمام الهدف، ثم يقومون باستبعاد الأشخاص غير المناسبين.

رحلة المريخ.. طموح تحويل الخيال العلمي إلى واقع

في الطريق إلى المريخ يمضي رواد الفضاء ستة أشهر لقطع 400 مليون كيلومتر، قبل الوصول إلى الكوكب الأحمر، وسيمضي الطاقم شهرا هناك، وتستغرق رحلة العودة 13 شهرا يمرون خلالها قرب كوكب الزهرة، وعليهم اعتياد العيش معا لأكثر من عام ونصف، وتتوقع ناسا إطلاق الرحلة في 2030.

طابعات ثلاثية الأبعاد تشارك في مسابقة بناء مستوطنات مستقبلية على سطح القمر

أما “إيلون ماسك” الرئيس التنفيذي لشركة “سبيس إكس”، فيرى أن المريخ مكان للاستيطان، وعلى البشر أن يكونوا قادرين على التنقل بين الكواكب، ويعمل على تحويل الخيال العلمي إلى حقيقة، ويبني نماذج لمركبة “ستارشيب” قادرة على حمل مئة راكب إلى الفضاء، وسيطلقها أقوى صاروخ، وهو “ذا سوبر هيفي” الذي يبلغ قطره 9 أمتار، وطوله 68 مترا، وهو مزود بـ37 محركا.

ويخطط ماسك لإرسال ألف مركبة لبناء أساس مستدام، ورغم أن المريخ صحراء قاسية قاحلة لا تصلح للعيش، فقد وجدت شركة “ماسك” أول مسافريها، وهو الملياردير الياباني “يوساكو مايزاوا”، وفي أسوأ الاحتمالات إذا لم يتمكن “يوساكو” من الهبوط على المريخ فسيدور حول القمر، وهذا يكفي لإثبات جدارة الصاروخ والمشروع بالثقة.

ارتطام المذنبات.. خطر يهدد بقاء الجنس البشري

يخشى بعض الناس انقراض الجنس البشري إذا تعرضت الأرض لارتطام جُرمٍ بقطر 10 كيلومترات، لذا فهم يجدون أن الحل الأمثل في استعمار الكواكب المجاورة في الفضاء، مثل المريخ وغيره، ويرون في هذه المغامرة حماية واستمرار الجنس البشري.

مهمة “دارت” التي ارتطم مسبارها بكويكب “ديمورفوس”

يستذكر العلماء مذنبا بقطر 20 مترا عبر فوق روسيا في 2015، وتسبب في أضرار لعشرات آلاف المباني، وأحدث صعقة تفوق في شدتها القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما بأضعاف، وهنالك آلاف المذنبات التي تفوق أقطارها مئات الأمتار، ويمكن أن تحدث أضرارا هائلة إذا ارتطمت بالأرض، وتتكرر هذه الأحداث كل 10 آلاف سنة.

وقد طورت جامعة جونز هوبكينز ووكالة ناسا مركبة “دارت” القادرة على تغيير وجهة الكويكبات، وللتحقق من دقة مفهومها، والتكنولوجيا الخاصة بها، سيختبر المهندسون فعالية هذه المركبة من خلال استهداف الكويكب “ديمورفوس”، وطوله 160 مترا، ويبعد عن الأرض 11 مليون كيلومتر.

بعض الكويكبات تشكل خطرا على الحياة على الأرض

أُطلِقت “دارت” في يوليو/ تموز 2021، وبلغت وجهتها في ديسمبر/ كانون الأول 2022، وقد بلغت سرعة الارتطام 23,700 كم/ساعة، وكانت كافية لتغيير وجهة الكويكب. وستتبعها رحلات لأقمار ستقيس حجم الضرر الذي أحدثه الارتطام، وكم انحرفت وجهة ديمورفوس، وقلّت سرعته.

سباق الفضاء.. نبش عن آثار الحياة على سطح المريخ

منذ إرسال المركبات الأولى في الستينيات، توالى نحو 20 مهمة ناجحة، وتتفحص هذه المسابير الفضائية والمركبات الجوالة سطح المريخ باستمرار، وترسل مزيدا من الصور الاستثنائية، مثل الجليد المتراكم عند قطبي المريخ.

في عام 2020 أطلقت ناسا مركبة “بيرسيرفيرنس” المتنقلة لاستكشاف سطح المريخ

ففي صيف 2020، ومن مركز “كيندي” للفضاء أرسلت ناسا مركبة “بيرسيرفيرنس” المتنقلة لاستكشاف سطح المريخ، ووصلت إلى الكوكب الأحمر في فبراير/شباط 2021، وهدفها الرئيس البحث عن مظاهر حياة سابقة.

وقد اختار العلماء فوهة “جيزيرو” موقعا للهبوط، وتقع شمال خط الاستواء المريخي، وعثر على آثار بحيرة ودلتا، مما يترك فرصة لوجود مواد عضوية أو بكتيريا. وستتولى المركبة مهمة تحضير 20 عينة من تربة المريخ وإحضارها للأرض خلال 2030.

وسيرسل الصينيون أيضا مسبارا إلى المريخ، وتتولى مهمة “تيانون ون” إرسال قمر صناعي للمدار وإنزال مركبة جوالة على المريخ لدراسة تربته. وقد دخلت الإمارات العربية المتحدة السباق بإرسال القمر “هوب” في 2021، وهو نتاج تعاون مع الجامعات الأمريكية، وسيدور حول المريخ مدة سنتين لجمع معلومات عن الطقس والمناخ هناك.

عينة من كوكب المريخ ستيم إعادتها إلى الأرض عبر صاروخ يقذفها إلى مركبة مدارية

وتتعاون وكالتا الفضاء الأوروبية والروسية لإرسال المركبة “روزاليند-فرانكلين” المتجولة في 2022، ومهمتها جمع عينات من تربة المريخ بفضل الروبوت الحفّار الذي يحفر بعمق مترين، لضمان عينات لم تتأثر بالإشعاعات الكونية التي تفجر سطح المريخ باستمرار.

وإذا استطاع الإنسان إثبات وجود حياة على المريخ وكواكب مجموعتنا الشمسية، أفلا يمكن ثبوت ذلك على المجموعات والمجرات الأخرى؟ وتوجد مئات المليارات من الكواكب في درب التبانة وحدها، وهنالك مئات المليارات من المجرات الأخرى، أي أن عدد النجوم لا يمكن إحصاؤه ببساطة.

أشباه الأرض.. كواكب نائية في النطاق الصالح للعيش

اكتشفت التلسكوبات الأرضية والفضائية حتى الآن 6 آلاف كوكب خارج مجموعتنا الشمسية، كل منها يدور حول نجم، وهنالك كواكب بحجم الأرض، قريبة من نجومها، ولذلك فسطوحها حارة، وتحتوي على بحيرات منصهرة، ولا يوجد لها غلاف جوي لارتفاع درجة حرارتها بسبب قربها من نجومها. وهنالك كواكب بحجم الأرض، جليدية متجمدة، لها غلاف بارد كثيف، وتحتوي محيطات جليدية.

حتى اليوم، اكتشف العلماء أكثر من 6000 كوكبا نجميا

وفي 2018 أرسلت ناسا تلسكوب “تِس” (TESS)، وهدفه إيجاد كواكب بحجم الأرض، تدور حول نجوم صغيرة، قرب مجموعتنا الشمسية، ويعتمد “تس” على كمية الضوء المرئي، ويغطي فضاء أكبر بـ300 مرة من التلسكوب “كيبلر”.

فعند عبور كوكبٍ أمام نجمه ينخفض ضوء النجم بأقل من 1% من ضوئه المعتاد، وبهذا تكتشف التلسكوبات أن كوكبا ما قد عبر من أمام نجمه في هذا الوقت، وهذا ما يسمى تقنية “العبور” (Transit)، وهذه المعلومات كافية للعلماء لتحديد حجم الكوكب وكثافته، وبالتالي معرفة ما إذا كان صخريا أم غازيّا.

وفي يناير/ كانون ثاني 2020 اكتشف “تس” كوكبا صخريا يزيد بـ20% عن حجم الأرض، اسمه “توا دي 700” (TOI-700-D) ويبعد عنها 101 سنة ضوئية، ويدور حول شمسه القزمة مرة كل 37 يوما، ويثير هذا الكوكب اهتمام الباحثين، لكونه يقع في “المنطقة الصالحة للحياة”، وهذا توصيف للمسافة التي تفصل الكوكب عن شمسه، بحيث تسمح للماء أن يبقى سائلا على سطحه.

العبور هي أشهر طرق العثور على الكواكب النجمية

ولكن كيف نعرف أن ذلك الكوكب عليه ماء؟ هذا ما قد يخبرنا به التلسكوب الدولي “جيمس ويب” الذي هو ثمرة تعاون أمريكي أوروبي كندي، وإحدى مهامه فحص الغلاف الجوي للكواكب، ومن خلال الأشعة تحت الحمراء سيتمكن من تحديد وجود الماء والأوزون.

“استراق السمع”.. مشروع التنصت على مجرات الكون السحيق

منذ الستينيات يتفحص الباحثون السماء بلا كلل، أملا في التقاط إشارات ترسلها كائنات فضائية، لكن الإشارات التي التقطت آنذاك لم تكن سوى نتاج تكنولوجيا البشر أنفسهم، ومنذ ذلك الحين يطور العلماء أدواتهم وأفكارهم، من أجل التأكد من حقيقة وجود كائنات أخرى أو عدمها.

تلسكوب ليغو الراديوي يلتقط أول موجة جاذبية قادمة من الكون السحيق

في هذا السياق استثمر الملياردير والعالِم الروسي “يوري ميلنر” 100 مليون دولار على مدى 10 سنوات، من أجل التقاط أي موجات كهرومغناطيسية مختلفة عن الموجات الطبيعية، وذلك من خلال مستقبِلات راديوية ضخمة موجودة في أستراليا وميريلاند وجنوب أفريقيا، ومهمتها التصنت على مليون نجم ومئة مجرة قرب مجرتنا.

ويعرف هذا المشروع باسم “استراق السمع”، ويستخدم الذكاء الصناعي لتحليل المعلومات، وفصلها عن إشارات الأقمار الصناعية، وتشارك الصين في هذا المشروع عبر تلسكوبها الراديوي “فاست”، الأضخم في العالم، إذ يبلغ قطره 500 متر.

التلسكوب الراديوي الصيني “فاست” الأضخم في العالم، بقطر 500 متر

وفي 14 سبتمبر/أيلول 2015 كان العالم على موعد مع كشف علمي مذهل، فقد استقبل لاقطان أمريكيان، بينهما 3 آلاف كيلومتر، موجة جاذبية قادمة من الكون السحيق، إنها نفس الموجات التي تنبأ بها “أينشتاين” قبل مئة عام تقريبا، وهي ناتجة عن التحام ثقبين أسودين، يبعدان عنا بواقع 1.3 مليار سنة ضوئية، كتلة كل منهما تعادل 30 كتلة شمسية تقريبا، وقطعت هذه الموجة آلاف المجرات حتى وصلت إلينا.

قد يأتي يومٌ نفهم فيه القوانين التي تحكم الكون، ونكتشف عوالم جديدة، ونشاهد ظواهر كونية على بعد مليارات السنوات الضوئية، ويوما بعد يوم يسعى العلماء لزيادة فهمنا للكون. إن حِسَّ الاستكشاف عند البشر حاضر دائما، ولم يعد استكشاف الكون رفاهية، بل هو ضروري لتحقيق النجاح.