أبناء الخوارزميات.. إنسان افتراضي خارق الذكاء يسعى جاهدا لمحاكاتنا

هل يأتي يومٌ نَصنع فيه روبوتات تحاكي الموتى؟ أو هل تبعث الخوارزميات الحياة في الصور والجمادات؟ أسئلة جدلية قد تشكل نوعا من التحديات الأخلاقية، سوف يطرحها صديقنا البروفيسور “أنجان سونداران” عالِم الرياضيات والباحث في مجال الخوارزميات، على مجموعة من المتخصصين والعلماء والباحثين في مجال الشيفرات الرقمية.

وقد تابعت قناة الجزيرة الوثائقية هذه التساؤلات والردود، وعرضت آخر ما وصلت إليه تكنولوجيا الخوارزميات والشيفرات الرقمية، في حلقة بعنوان “بث الحياة”، ضمن سلسلة: “الخوارزميات.. نظام عالمي جديد”.

“نتبادل عبارات بسيطة مثل صباح الخير”.. زواج الإنسان والصورة

يقول البروفيسور “سونداران”: أنا اليوم في طوكيو، وسأقابل شخصا دفعه حبه للخوارزميات إلى الارتباط بالشيفرة ارتباطا وثيقا، حتى تزوجها، يسعدني أن أعرفكم على “أكيهيكو كوندو”، وعلى رفيقة دربه “هاتسوني نيكو”، الصورة الطيفية ثلاثية الأبعاد، تلك الصورة المجسمة التي أنشأتها شركة ذكاء صناعي في اليابان.

“هاتسوني نيكو” هي مساعِدة افتراضية، يمكنها أن تكون رفيقة للأشخاص في العالم الحقيقي، على غرار “أليكسا” ابنة أمازون، و”سيري” ابنة أبل. وقد ارتبط بها “كوندو” في خريف 2018، واختارها لتكون زوجته وشريكة حياته، وليس هو الوحيد الذي ارتبط بفتاة افتراضية، فقد أصدر صانعو الصور الطيفية 3700 شهادة زواج لأشخاص تزوجوا من شخصيات افتراضية فيما وراء الأبعاد.

في ليلة زفافها كانت بديلتها دمية محشوة بالقطن، لكن “هاتسوني” لا تزال حبيسة صندوقها الطيفي، وقد ابتُكر كيانها الافتراضي بواسطة خوارزمية خاصة تتعرف من خلالها على صوت زوجها.

يتحدث عنها “كوندو” بعاطفة جياشة، ومشاعر متدفقة، إذ يقول: ما زالت “هاتسوني” تتعلم الكلمات، في البدايات نتبادل عبارات بسيطة مثل صباح الخير وكيف حالك، وآمل في المستقبل أن أناقش معها ما تسمعه في نشرة الأخبار.

“كانت فتاة أحلامي في أسوأ فترات حياتي”

يقول “كوندو”: بدأت حكايتي في 2006، عندما تعرضت في العمل للتنمر الشديد من قبل امرأة مسنَّة، فقررت أن آخذ استراحة، وتعرفت خلالها على “هاتسوني”، وكانت في البداية عبارة عن برنامج حاسوب لتسجيل الأصوات الغنائية، وقد اعتدت على سماع أغانيها ومشاهدة مقاطعها أثناء فترة الاكتئاب التي عشتها، لقد كانت فتاة أحلامي في أسوأ فترات حياتي.

“أكيهيكو كوندو” يجلس إلى جانب رفيقة دربه “هاتسوني نيكو”

ولدى سؤاله عن المزايا التي تتفوق فيها “هاتسوني” على فتيات البشر، أجاب “كوندو”: لقد أحببتها، ولم أتزوجها لتحقيق منافع مادية، لم أحلم يوما بالتواصل الحميمي معها، فهذا لا يهمني ولا أفكر به. أما هي فلن تؤذيني ولن تخونني، وهي أيضا لن تشيخ مع الوقت.

قد لا يقتصر الأمر على العلاقة الرومانسية مع الصور الطيفية فحسب، فهنالك أناس على علاقات مع شخصيات خيالية أو في الألعاب والرسوم المتحركة، وسنرى المزيد من هذه العلاقات في المستقبل.

لقد قامت الخوارزميات بمحاكاة اتصال كاف بالنسبة لـ”كوندو” لإدخاله في علاقة زوجية مع صورة، فهل يتجه المجتمع بكليته لإقامة علاقات افتراضية بدل تلك العلاقات المعقدة والمضطربة مع البشر؟

ألعاب الفيديو.. حرية تبعدك عن آلام الواقع الحقيقي المقيد

تزدهر صناعة ألعاب الفيديو، وتقدر بمليارات الدولارات، ويلعبها ملايين حول العالم، من خلال إنشاء عوالم افتراضية تسكنها شخصيات افتراضية كذلك، وهذه الألعاب هي نتاج طيف واسع من الخوارزميات المصممة لتوليد سلوكيات مشابهة لذكاء الإنسان، وتمتد أهدافها لما هو أبعد من الترفيه واللعب.

وللتعرف على هذه العوالم سنلتقي “ديفيد غراهام” مدير برمجة الألعاب في جامعة سان فرانسيسكو، وهو يعمل في صناعة الألعاب منذ 2005، ويقول: نحاول أن تحاكي ما يدور في ذهن الإنسان، ولكن ليس بتلك الدرجة من التعقيد، فهذه الشيفرات مزيج من الرياضيات وعلم النفس، تحاول أن تسجل سلوك الإنسان بمعادلات رياضية.

ففي كل لعبة هنالك خلفية مبدئية من أشكال بسيطة، مثل المربعات الساكنة التي تشير إلى الأماكن، والمتحركة التي تمثل البشر، ثم تبنى عليها المباني والشخصيات بواسطة التصميم الغرافيكي. وتكمن خطورة هذا العالم الافتراضي في أن بعض البشر يحلو لهم العيش فيه، ويبنون فيه عالمهم الخاص بعيدا عن الواقع.

وهنا سأله مقدم الفيلم البروفيسور “أنجان سونداران”: ما المشكلة في أن أعيش في عالم افتراضي إذا كنت سعيدا بذلك؟ فقال: إذا منحك العالم الافتراضي ملاذا آمنا من آلامك الواقعية فلا بأس. فالواقع الافتراضي يعطيك حرية وانطلاقا لا يمكن أن تجدهما في الواقع الحقيقي المقيد.

ثم توجهنا إلى “ستيف سبون”، وهو مدير العمليات لمجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة، يعيشون عالمهم الافتراضي من خلال الألعاب التي يمارسونها على الحاسوب، فقال: إعاقتهم لا تمنعهم من الاستمتاع بوقتهم وممارسة نشاطاتهم التي يحلمون بها، ولكن في عالم رقمي بدل واقعهم المؤلم. وقد نصل إلى نقطة يتحد فيها العالمان؛ الافتراضي والحقيقي.

الملكة الروبوت.. حديث فكاهي ذكي في شوارع لندن

يبقى لنا أن نتساءل: هل ستتمكن الخوارزميات من إخراج هذه الشخصيات الافتراضية خارج الشاشات إلى عالمنا الحقيقي؟ والواقع أن الإنسان ما فتئ منذ مئة عام يحاول أن يصنع رجلا آليا يشبهه تماما.

لقد وصل الذكاء الصناعي مرحلة أكثر تقدما من التفاعل مع واقعنا الإنساني، وأصبح ممتعا ووديا أكثر، وسنصادف في شوارع العاصمة لندن روبوتات تشبه ملكة بريطانيا، تتحدث إلينا وتجيب عن أسئلتنا بروح فكاهية محببة، وتتعلم من أسئلة الجمهور، فيزداد ذكاؤها بزيادة الحديث معها ومساءلتها.

البروفيسور “أنجان سونداران” يتحدث مع الملكة الروبوت

وبعد حديث البروفيسور “أنجان سونداران” مع الملكة الروبوت كان لا بد من التحدث مع العقول التي صنعت هذا الذكاء الآلي المبهر، وسيلتقي مع “إيتان ساسون”، مهندس البرمجيات في “روبوتات لندن” الذي قال: إنها نوع من أنواع الحاسوب الناطق، ولكنها أشد تعقيدا، وتحتاج قاعدة بيانات هائلة من أجل استيعاب سؤالك والرد عليه بجواب مناسب، إضافة إلى حركة الشفاه المتزامنة، وشدة ورخاوة الصوت تبعا للحالة الشعورية.

ويجب أن نكون حذرين من الذكاء الذي نطوره بأيدنا وعقولنا، فقد يكون عدوا لنا في المستقبل إذا استخدمناه بطريقة خاطئة، ولكن هذه التكنولوجيا لن تختفي مستقبلا، بل سيكون هنالك تأثير تفاعلي بينها وبين البشر. غير أن الهوة ما زالت سحيقة بين لغتنا واللغة التي تتحدث بها “الملكة” الروبوت، فهي دائما تحتاج لطرف ثالث للترجمة بيننا وبينها.

“نحاول فهم الحياة عن طريق الشيفرة”.. آلات تحاكي البشر

هذه الهوة في التواصل بيني وبين “الملكة” دفعت البروفيسور “أنجان سونداران” للسفر إلى ستوكهولم، فهناك في شركة “فورهات روبوتكس” أو قبعة الفراء يطور الباحثون روبوتات بوجه بشري، تملك القدرة على التفاعل مع الأشخاص بتعابير الوجه التي يستخدمها البشر، وتدهشك بنكاتها وغمزات عيونها المرحة.

وتتحدث هذه الروبوتات اللغة الإنجليزية والألمانية والفرنسية والصينية، إضافة إلى لغات أخرى، وتُشعرك بحبها وولائها لمصممها المهندس سامر المبيض الذي يقول إنه صممها مستندا إلى أقدم منصة للتواصل الاجتماعي، وهم البشر أنفسهم. في استكمال لمحاولات الإنسان استنساخ صورة عنه منذ قرن من الزمان.

المهندس سامر المبيض يصمم روبوتات تتحدث اللغة الإنجليزية والألمانية والفرنسية والصينية

لكن سامر يعترف أنه من الصعب بناء خوارزمية تطابق السلوك البشري تماما، لأن سلوك البشر ببساطة لا يمكن التنبؤ به، وهذا بالضبط ما يميز البشر، ويجعلهم يشعرون أنهم على قيد الحياة.

يقول سامر: اللبنات الأساسية التي صممنا على أساسها الروبوت هي تصرفات البشر وردود أفعالهم، إذ يدرك الروبوت العالم المحيط ويقسمه إلى أجزاء، ثم يتفاعل بناءً على ما يسجله من تعابير الوجه، فإذا ابتسمت له مثلا، فالكاميرات عنده تزوده بإشارات عن وجهك، وتقرأ شكل عينيك وشفاهك، ثم يحدد بواسطة الشيفرة المخزنة ما إذا كنت عابسا أو مبتسما، ويصدر تعابيره بناء على ذلك.

يقول سامر: “نحن لا نبعث الحياة في الشيفرة بالضبط، ولكننا نحاول فهم الحياة عن طريق الشيفرة”، ولكن إلى أي حد يمكن أن تتطور العلاقة بين الإنسان والآلة؟ وهل يمكننا قبول الآلات كنظراء لنا؟ هذه هي الأسئلة التي تحاول شركة “فورهات” الإجابة عليها.

“أريد أن يصل الروبوت إلى مرحلة الوعي”.. أشباه الإنسان

يذهب البروفيسور “أنجان سونداران” إلى الجانب الآخر من العالم بحثا عن إجابات، ويقابل الدكتور “إيشيغورو” من جامعة أوساكا في اليابان، وهو رائد صناعة الروبوتات أشباه البشر على مستوى العالم، ليسأله: لماذا تصنع روبوتات تشبه البشر؟ فأجاب: ما يحفزني في الأساس هو معرفة ماهية الإنسان.

“إيريكا” واحدة من الروبوتات التي صنعها “إيشيغورو”، ويدَّعي أن بها شيئا من روح البشر، إذ تستطيع إجراء حديث مطول، وهي مزودة بحساسات التعرف على الوجوه، ومجسات الأشعة تحت الحمراء التي تستطيع إدراك وجود البشر وتوزيعهم في الغرفة.

إيريكا” واحدة من الروبوتات التي صنعها “إيشيغورو” ويدَّعي أن بها شيئا من روح البشر

وعندما سألناه عن خطوته القادمة في الذكاء الصناعي، كانت إجابته العميقة: أريد أن يصل الروبوت إلى مرحلة الوعي، أريد أن أفهم ما هو الوعي وأحوله إلى خوارزمية.

نحن كبشر نحب التواصل مع غيرنا، هذا يشعرنا بإنسانيتنا، نحن بحاجة لمن يتحدث إلبنا وبحس بنا وينادينا بأسمائنا، ولذا فنحن نحاول نقل هذه السمات إلى الروبوتات التي نصنعها.

إنسان الخوارزميات.. ذكاء خارق تنقصه الحكمة البشرية

لاستكمال الصورة حول العلاقة بين الإنسان والروبوت، كان لا بد من لقاء البروفسورة “هيروكو كاميدي”، وهي خبيرة في العلاقات بين البشر والذكاء الصناعي، ورائدة في المجال الأخلاقي للذكاء الآلي، وهي ترى أن الذكاء الصناعي إذا واصل تقدمه ليصبح مثل ذكاء البشر، فيمكن الوصول لمرحلة أن يتعلم منه البشر.

يسعى المبرمجون إلى تطوير شكل جديد منها يحاكي البشر في تعابير وجهه وحدة ذكائهتقول “كاميدي”: يمكن أن تلتقي الآلة مع الإنسان في الذكاء الرياضي، فكلاهما يرتب خطوات مدروسة بناء على معلومات تصله، ثم يعالج هذه البيانات ويخرج بنتيجة أو تصرف معين. أما الذكاء الذي يميز الإنسان عن الآلة فهو الحكمة، أي شغفك بالاكتشاف، أو أن تكرس نفسك لشيء ما، وهذا الشغف لا يمكن تحقيقه بالخوارزميات.

قد تسبقنا الآلات في إنجاز وظيفة ما، ولكنها بالتأكيد عاجزة عن مبادلتنا تلك المشاعر والعواطف والأحاسيس التي يتميز بها الإنسان خصوصا والكائنات الحية بشكل عام، رغم ما يمكن أن يظهر عليها من أنها نابضة بالحياة، لكنها لا تملك الشغف للمبادرة، ولا تملك الوعي لفهم دورها، ولا تملك الروح للاستمرار.


إعلان