الطيور الطنانة.. كائنات بديعة تلهم العلماء لصناعة طائرات بدون طيار

الطيور الطنانة الجميلة التي تحلق برشاقة في الحدائق من زهرة إلى أخرى، لترتشف الرحيق، قد لا تبدو للوهلة الأولى نموذجا لسلاح حرب.

ترفرف هذه الطيور الصغيرة بسرعة خارقة، فهي بارعة في التحليق، وقادرة على الانطلاق للأمام والخلف فورا، والغوص سريعا للأسفل ثم الارتفاع مجددا، والانحناء والدوران، وحتى الطيران رأسا على عقب. وقد لفتت قدراتها المتطورة في الطيران انتباه مصممي الروبوتات، لا سيما من يدرسون استخدام الطائرات بدون طيار في الحروب الحديثة.

يقول “بريت توبالسكي” أستاذ علم الأحياء ومدير مختبر الطيران في جامعة مونتانا الأمريكية: الطيور الطنانة أفضل الطيارين في الطبيعة، فهي متفوقة في وظائفها الفسيولوجية وأدائها في الطيران، ولها قدرة مذهلة على المناورة، وتستطيع التحليق في مكانها بلا حدود.

تكنولوجيا مستوحاة من الأحياء

أصبحت الطيور الطنانة موضوعا لأبحاث جديدة، وهناك جهد واسع لبناء روبوت طائر يحاكي الطائر الطنان، وهي ظاهرة تُعرف بالتكنولوجيا المستوحاة من الأحياء.

صُنعت روبوتات تحاكي الطيور الطنانة — أشهرها “طائر الطنان النانوي” (Nano Hummingbird)، الذي طورته شركة “آيرو فايرونمنت” (AeroVironment)، بتمويل من وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية الأمريكية المتقدمة “داربا” (DARPA)، ولكن يواجهها عدد من القيود.

تدرس مختبرات طيران عدة حول العالم مجموعة من الكائنات، منها عثة الصقر واليعاسيب والخفافيش والطيور الطنانة، لفهم أسرار مهارات الطيران لديها، لبناء آلات أفضل. وتمول وكالات الدفاع جزءا كبيرا من هذا العمل، بهدف استخدام المعرفة لتصميم طائرات أكثر تطورا.

قد لا يحمل روبوت مستوحى من طائر الطنان أسلحة، لكن يمكن أن يُستخدم لاستطلاع الشوارع في الحروب، أو التجسس، أو البحث عن الجنود المصابين في أماكن لا يصل إليها البشر.

خصائص مميزة يصعب فهمها

لدى الطيور الطنانة خصائص مذهلة غير متوقعة، فهي صغيرة الحجم، يشبه حملها الإمساك بمنديل ورقي، لكن لديها سلوكيات طيران مرنة غنية ومعقدة للغاية.

تضرب أجنحة الطيور الطنانة نحو 50 مرة في الثانية، وهي أسرع من أي طائر آخر، أما أجنحة الحمام فلا تضرب إلا 9 مرات في الثانية. كما أن قلوب الطيور الطنانة، تخفق 1200 مرة في الدقيقة عندما تكون نشطة، مع أن حجم قلوبها لا يتعدى حجم حبة البازلاء، وأما البشر فتخق قلوبهم ما بين 60-100 مرة في الدقيقة.

يركز الباحثون في مختبر الطيران على طائر الطنان الكاليب، الذي يزن أقل من مشبكي ورق. ومع ذلك، فإنه يسلك كل خريف مسارا للهجرة شديد الخطورة، بين الرياح والأمطار والثلوج، من شمال غرب المحيط الهادئ إلى جنوب المكسيك.

ولا يزال كثير من جوانب بيئة الطيور الطنانة غامضة، ويرجع ذلك أساسا إلى صغر حجمها، الذي يجعل تركيب أجهزة التتبع عليها أمرا صعبا.

يوجد نحو 370 نوعا من الطيور الطنانة في العالم، وهي تعيش في أمريكا الشمالية والجنوبية. ومع ضخامة التمويل ووفرة الوقت المخصص لفك ألغاز الطيور الطنانة، فإنها فهمها الشامل لا يزال بعيد المنال.

مناورات قتالية مميزة

قبل عقد من الزمن، نقل الباحثون مختبرا متنقلا إلى مناطق الأمازون البيروفية، وكوستاريكا وجبال الأنديز الإكوادورية، ودرسوا 200 طائر طنان في بيئتها الطبيعية.

وقد قسم العلماء بحثهم إلى 3 فئات؛ الميلان للأعلى والأسفل، والتسارع والكبح، والمنعطفات الحادة المعقدة التي تؤدي إلى تغيير مفاجئ في الاتجاه.

كانت من الاكتشافات التي تبدو مناقضة للتوقعات، أن الطيور الطنانة الكبيرة تستطيع المناورة بسهولة أكبر من الطيور الصغيرة، نظرا لامتلاكها كتلة عضلية أكبر وحجم أجنحة أكبر، نسبة إلى أجسادها.

الطيور الطنانة أفضل الطيارين في الطبيعة، فهي متفوقة في وظائفها الفسيولوجية وأدائها في الطيران

أمضى العلماء سنوات في دراسة مناورات الهروب التي تنفذها الطيور الطنانة عند الفرار بسرعة من الحيوانات المفترسة، ولدراسة تلك السلوكيات، اقتربوا من طائر محبوس في صندوق شفاف مصنوع من البلاستيك لإخافته، وعندما هرب استخدموا فيديوهات فائقة السرعة، تتيح لهم تحليل أصغر تفاصيل الطيران بدقة عالية.

وجد الباحثون أن تلك الطيور أثناء الهروب، تميل للأعلى ثم تتدحرج ليبتعد عن المفترس، ثم تميل للأسفل وتطير بعيدا، ويحدث ذلك في 120 جزءا من الثانية، وهو وقت قصير جدا.

تُعرف هذه الطيور بعداوتها الفائقة، فقد اكتشفت لها مناورات قتالية مميزة أثناء تحليقها، منها المطاردة، والاندفاع نحو المفترس، والمواجهة المباشرة، والطيران الحلزوني، والمبارزة.

“لا تحاول مقاومة الرياح بل تطير معها”

أحد جوانب دراسة كيفية طيران الطيور الطنانة، يتضمن قياس سرعة الهواء والضغط واللزوجة المحيطة بأجنحتها النابضة، التي تدعم قدرتها على الطيران، لكن المعادلات التي تفسر هذه الظاهرة معقدة جدا، لدرجة أن الحواسيب العملاقة تستغرق أسابيع، لإعداد نموذج للقوى الديناميكية الهوائية.

تتغير أجسام الطيور الطنانة -ولا سيما الأجنحة والذيل- باستمرار، وتخضع لعدة تعديلات أثناء الطيران. وتمثل هذه التعقيدات تحديا كبيرا، وأكبر تحدٍ أمام مصممي الروبوتات هو تغيير شكل الجناح والذيل مثلما يفعل الطائر.

لم يستطع المهندسون بعدُ تغيير شكل الجناح في الروبوتات كما تفعل الطيور، ليس فقط بالحركة الانسيابية، بل أيضا بالحركة الالتفافية والطي، فهو أمر بالغ الصعوبة لدى المهندسين.

وهناك تحدٍ آخر يواجه الباحثين، ألا وهو إعادة إنشاء الريش الحسي (Filoplumes)، وهي الريشات الصغيرة التي تشبه أشجار النخيل، وتوفر مدخلات حسية، فتراقب سرعة الرياح ودرجة الحرارة وحالة الريش، وترسل هذه المعلومات إلى دماغ الطائر. لكن معرفة تفاصيل هذا الدماغ الصغير المتحكم بقدرات الطيران المدهشة يظل لغزا كبيرا.

أظهرت دراسة حديثة أن خلايا هذه الطيور العصبية أكثر حساسية للمحفزات مقارنة بأنواع أخرى، مما يساعدها على معالجة أسرع للأشياء، ويعزز قدرتها على الطيران بمهارة.

أجنحة الطيور الطنانة تضرب نحو 50 مرة في الثانية، وهي أسرع من أي طائر آخر

تواجه صانعي الروبوتات تحديات تقنية أخرى، منها عمر البطارية القصير، وبناء استجابة حسية في الروبوت مثلما يفعل الطائر الطنان، وكذلك التكيف مع الرياح، فالطيور الطنانة ذات قدرة كبيرة على التعامل مع الرياح.

يقول “موبل بينديكت”، وهو مهندس روبوتات في جامعة تكساس: نفضل تشغيل طائراتنا بدون طيار في الأيام الهادئة، لأنها لا تفضل الرياح. الأمر عكس ذلك تماما مع الطيور، نراها في السماء في الأيام العاصفة، فهي لا تحاول مقاومة الرياح، بل تطير معها.

سرعة التعافي من قوة الرياح

في دراسة تتعلق بالاضطرابات الهوائية في مختبر الطيران، وضع طالب الدكتوراه “ريماي ديلبلانش” مغناطيسا صغيرا على ظهر طائر طنان، بداخل نفق هوائي بين مغناطيسين آخرين، ثم فُعّلت المغانط لسحبه عن مساره.

وقد صور الباحثون التجربة لتحليل سرعة تعافي الطائر، ومواجهته الرياح في غضون أجزاء من الثانية، فقد يفيدهم ذلك في تصميم روبوت يستطيع الطيران في الرياح، لكن ذلك لم يتحقق بعد.

يقول “بريت توبالسكي” أستاذ علم الأحياء ومدير مختبر الطيران في جامعة مونتانا الأمريكية مازحا: قد يكون أسهلَ التفكيرُ في تربية طائر طنان، وتدريبه على حمل حقيبة ظهر صغيرة.

ما سر الطنين؟

تصدر الطيور الطنانة صوتا مميزا من أجنحتها عند الطيران، وفي تقرير نشر بصحيفة الغارديان، فإن السبب الرئيسي يكمن في قوى ديناميكا الهواء، ثم تغيُّر الضغط الناتج عند تحرُّك الأجنحة. وفقا لنتائج بحث أجراه علماء من جامعة ستانفورد الأمريكية، وجامعة آيندهوفن للتكنولوجيا الهولندية.

يقول “ديفيد لنتنك” وهو مشارك في البحث وأستاذ مساعد في الهندسة الميكانيكية بجامعة ستانفورد، إن ارتباط الطنين بحركة الأجنحة كان معروفا، لكن السبب وراء الصوت لم يكن واضحا، فكان مرجّحا أن سبب الصوت إنما هو تغير الضغط الناتج عن الرفرفة، والدوامات المولدة في الهواء، والصفير الصادر من الريش.

وضع الفريق أكثر من ألفي مسجل وكاميرات عالية السرعة حول قفص تتغذى فيه 6 طيور طنانة على زهرة صناعية، مما سمح لهم بالتقاط الأصوات التي تصدر من الطيور، ثم إنشاء خريطة صوتية ثلاثية الأبعاد، وربطها مع حركة الأجنحة التي التقطتها الكاميرات.

ولمعرفة مصدر الأصوات، سعى الفريق لقياس قوى الرفع والاحتكاك الناتجة عن رفرفة الأجنحة، فأنشؤوا تجربة أخرى، كانت الطيور فيها محاطة بوحدات لقياس الضغط، مع كاميرات عالية السرعة، وراقبوها أثناء الرفرفة، وقد استطاعوا تحديد حجم قوى الضغط المُنتجة، وكيفية تغيرها بمرور الوقت.

عندما جمع الباحثون المعلومات حول القوى مع حركة أجنحة الطيور، استطاعوا التفرس بالأصوات التي ستنشأ من هذه العوامل وحدها، ثم قارنوها بالخريطة الصوتية الثلاثية الأبعاد، الناتجة عن التجربة الأولى.

كشفت النتائج أن قوى ديناميكا الهواء الناتجة أثناء حركة الأجنحة، مع سرعة حركة الأجنحة واتجاهها، تكفي إلى حد كبير لتفسير الطنين.

السر في حركة الأجنحة

لاحظ الفريق أن العامل الحاسم هو حركة أجنحة الطائر الطنان، ففي حين أن معظم الطيور تخلق قوة رفع عند حركة الجناح للأسفل فقط، فإن الطيور الطنانة تفعل ذلك في حركة الجناح لأسفل ولأعلى، نتيجة لحركة الجناح غير العادية، التي تتبع مسارا يشبه شكل (U).

علاوة على ذلك، تحدث هذه الضربات بشكل أسرع بكثير عند الطيور الطنانة (نحو 40 مرة في الثانية)، ونتيجة لذلك، يقول الفريق إن حركة جناح الطائر الطنان تولد أصواتا عند كل 40 و80 هرتزا، وقد وُجد أنها المكونات الرئيسية للطنين.

جوانب بيئة الطيور الطنانة غامضة، بسبب صغر حجمها، الذي يجعل تركيب أجهزة التتبع عليها أمرا صعبا

لكن تذبذب القوى في ضربات الأجنحة، وتأثير حركة الجناح على شكل (U)، قد ولّد نغمات ترددية أعلى لهذه الأصوات.

يقول أستاذ الهندسة الميكانيكية بجامعة ستانفورد “ديفيد لنتنك”: الجميل في ضربة الجناح المعقدة لدى الطيور الطنانة، أنها تتسبب بنغم أكثر ارتفاعا، وهذه النغمات هي التي تعطي الصوت طابعه. إن الطريقة التي تتغير بها القوى هي التي تخلق الصوت الذي نسمعه.

 

المصدر: الغارديان


إعلان