“قابس.. حياة وموت”.. صراع كيميائي في الواحة التي أصبحت جحيما

يقدم فيلم “قابس.. حياة وموت” (2025) الذي أخرجه محمد سعيد، وأنتجته الجزيرة الوثائقية، شهادة سينمائية حية عن الجرح البيئي المفتوح في مدينة قابس، تلك المدينة الساحلية الواقعة في الجنوب التونسي، التي تحولت من فضاء طبيعي ساحر إلى منطقة صناعية خانقة.

يرافق الوثائقي حراك الأهالي واحتجاجاتهم على تدهور الوضع البيئي، وتفاقم الخطر الصحي الناتج عن النشاط الكيميائي المتزايد، فيرصد بالكاميرا تحول الغضب الشعبي إلى فعل مقاوم، يسائل الدولة ومؤسساتها عن ثمن التنمية، وعن حق الإنسان في بيئة سليمة.

فيلم “قابس: حياة وموت”

يعود الفيلم إلى جذور الأزمة الصناعية، حين أنشئ أول مصنع في قابس سنة 1972، تحت اسم الصناعات الكيميائية المغاربية، لإنتاج الحامض الفوسفوري، قبل أن يُدعم تباعا، حتى يصبح المجمع الكيميائي بقابس اليوم مصدر نحو 57% من الإنتاج الوطني للحامض الفوسفوري.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

فقد أصبح هذا الإنجاز الصناعي عنوانا لمأساة بيئية صامتة، إذ تصرف كميات ضخمة من الجبس الفوسفاتي في البحر يوميا، فتتآكل السواحل، وتختنق الكائنات البحرية، وتتفشى الأمراض بين الناس، في مشهد يجسد بأدق التفاصيل عنوان الفيلم: حياة وموت.

أجيال بين ملوحة البحر ومرارة الخذلان

يستعيد المخرج الماضي بشهادات رسمية قديمة، تبرز وجه المجمع الكيميائي الحسن، فيتحدث المسؤولون بطمأنينة عن “فوائد الكبريت للحنجرة” و”غياب الإشكال الصحي”، مؤكدين أن “الدولة اتخذت كل التدابير”، ثم نرى صرخات الأهالي واستغاثاتهم: نموت، نختنق، نعاني من تساقط الشعر والحكة في أجسادنا.

يصبح التباين الصوتي بين الخطابين بنيةً درامية في الفيلم، فيضعنا المخرج أمام مفارقة موجعة، بين من يملك الخطاب ومن يعيش الألم، بين من يتحدث باسم الدولة ومن يتنفس غبار الموت يوميا.

قابس مدينة تونسية تقع على خليج قابس الذي يعد من أهم المحميات الطبيعية في تونس

ثم يبنى الفيلم عبر توتر درامي وإنساني مزدوج، بين جيل من الكهول أنهكتهم الحياة في البحر وقلت مواردهم، وجيل من الشباب لا يزال في صدورهم متسع للحلم والمقاومة.

هكذا تتكشف مأساة البحارة، فلم يعد صيدهم يغطي نفقات الزوارق وأجور العمال. وتقابل صورهم المرهقة مشاهد متكررة من أعمدة الدخان المتصاعدة من المجمع الكيميائي، في مونتاج إيحائي متواز يربط بين تلوث البحر وتدهور حياة الإنسان.

وفي شهاداتهم، نسمع بوحا صادقا يتجاوز المادي نحو الوجداني. يقول أحدهم: سبعة أجيال من عائلتنا اشتغلت في البحر. البحر روحي، والخروج منه يعني الموت. لو حللوا دمي لوجدوه مالحا، ما يجري في عروقي ماء البحر وليس دما.

وذلك إعلان هوية بقدر ما يمثل شهادة وجع، فيكشف أن تدمير البحر أصبح تدميرا للذات، وأن الاعتداء البيئي غدا اعتداء على الذاكرة والوجدان الجماعي للمدينة.

أهل قابس يعملون في الصيد الذي هو مصدر رزقهم قبل أن تأتي المصانع وتلوث بيئة البحر وتحرمهم منه

في المقابل، يخصص الفيلم حيزا كبيرا لجيل الشباب، الذين اختاروا تحويل الغضب إلى فعل نضالي منظم، فتُبرز الكاميرا شبانا يناقشون سبل لفت انتباه الدولة، وجدوى العرائض، وأهمية إيصال الصوت إلى السلطة، وسياسة الضغط الإعلامي عبر حملة “نحب نعيش”.

لا تتدخل العدسة في الحدث، بل تكتفي بالمرافقة الصامتة، فتعرض لحظات التخطيط للندوة الصحفية، ثم مشاهد التنسيق لمسيرة 5 يونيو/ حزيران 2025، المتجهة نحو مقر الولاية.

ويعتمد المخرج في هذه المقاطع على المونتاج التناوبي، الذي يربط بين حركة الشبان في الشارع، وحياة البحارة اليومية في الميناء، فيخلق بذلك إيقاعا متوازيا بين المعاناة والعمل، وبين الصبر والفعل.

فكأن كاميرا المخرج تشارك الأهالي وجودهم، فهي تنصت إليهم وتنقل أنفاسهم وتوجعهم بلا تعليق، فيحول الفيلم من التوثيق والتقرير إلى تجربة معيشة تمنح المتفرج موقع الشاهد لا المشاهد.

مسيرة 5 يونيو/ حزيران 2025 التي نادت بتفكيك المصانع المتسببة بالتلويث

إن هذا البناء المتوازن بين الحاضر الاحتجاجي والماضي الجريح، يُضفي على الفيلم بعدا تأمليا، ويحول قابس من فضاء واقعي إلى رمز لجرح وطني أكبر، ألا وهو جرح التنمية غير العادلة، وصوت الإنسان المهمش في مواجهة صمت السلطة.

قابس.. حلم التنمية وإفاقة الواقع

كان حلم التنمية في قابس كبيرا، فإنشاء المجمع الكيميائي التونسي خطوة نحو تنمية غير مركزية، توزع المشاريع الاقتصادية بتوازن، وتمنع نزوح الناس، وتوفر موارد للعائلات، وتخلق فرص عمل، فتنهض المنطقة من البطالة والفقر، وتحول الجهة إلى قطب اقتصادي متكامل، يجمع بين الواحة والصحراء والبحر والزراعة والصناعة والسياحة.

لكن الواقع الذي يعكسه الفيلم بعيد عن هذا الحلم، فسمته الأبرز مأساة صحية وبيئية عميقة، ناتجة عن انبعاث الغازات والمواد الكيميائية، لا سيما الجبس الفوسفاتي، الذي أصبح أحد أبرز رموز التلوث في المنطقة.

نتيجة لذلك، تدهورت الموارد البحرية، فاختفت أنواع الأسماك، ونفقت السلاحف والدلافين، وتلف خليج قابس، ثم تدهورت الزراعة بسبب انخفاض إنتاج النخيل والخضر، وارتفاع نسبة الملوحة وتلوث التربة، فدفع ذلك الفلاحين إلى الهجرة، وفقد السكان جزءا من مصدر رزقهم الأساسي.

الآثار الضارة بالحياة البحرية في مدينة قابس

تظهر شهادات السكان انتشار الأمراض المزمنة والسرطانية، من انتشار لأمراض الكبد والرئة وهشاشة العظام وضيق التنفس المزمن، وأعراض جلدية مثل الطفح والحكة والحروق، لا سيما في مناطق شاطئ السلام وغنوش.

ويوضح الفيلم الإحصاءات الصادمة، فأكثر من 95% من تلوث الهواء في قابس ناتج عن المجمع الكيميائي، ويتعرض 180 ألف ساكن يوميا للغازات الملوثة.

تلقى في البحر نحو 5 ملايين طن من الجبس الفوسفاتي سنويا، مما أدى إلى فقدان 80% من التنوع الحيوي البحري، ناهيك عن تسجيل معدلات وفاة بسبب أمراض القلب وسرطان الرئة، بلغت ضعف المتوسط الوطني تقريبا، أضف إلى ذلك مأساة تشوه الأجنة والإجهاض.

وفي مقابل هذه الكوارث، يظهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي القاسي، مقارنة بمنستير، المدينة الساحلية النظيفة، فنسبة البطالة فيها 4%، وفي قابس الملوثة 32%، في ظل كد وتعب وجوه شاحبة وعقول شاردة وأجساد منهكة، لكن بلا ثمار ولا محصول.

الغازات الضارة الناتجة عن صناعة الجبس الفوسفاتي هي سبب التلوث الصناعي في مدينة قابس

هنا تتحقق الإفاقة من حلم الماضي، فلا واحة ولا بحر ولا فلاحة، بل لا شيء سوى صحراء قاحلة وسماء مشبعة بالدخان، شاهدة على ثمن التنمية المفرط، الذي دفعه سكان قابس بأرواحهم وصحتهم وكرامتهم.

الجبس الفوسفاتي.. النفاية الصناعية القاتلة

يركز الفيلم على الجبس الفوسفاتي لكونه من أخطر رموز التلوث الصناعي في قابس، وهو نفايات صلبة ثانوية، ناتجة عن معالجة خامات الفوسفات بحمض الكبريتيك، لإنتاج الحامض الفوسفوري، ويحتوي على شوائب مشعة وكيميائية. ومن كل طن من الحامض الفوسفوري، ينتج ما بين 4.5 إلى 5.5 أطنان من الجبس الفوسفاتي، وهو حجم ضخم يتجاوز قدرة خزانات التخزين العادية في المنطقة.

يصرف الماء الملوث بصناعة الجبس الفوسفاتي في البحر لعدم وجود طرق تدوير آمنة

طرق التخلص المتبعة في قابس بدائية محدودة، فأحيانا تُلقى كميات في البحار والمسطحات المائية، مما يشكل تهديدا مباشرا للبيئة البحرية والزراعة والمياه الجوفي، وهذا ما يفسر الكوارث البيئية والصحية.

يعرض الفيلم وعودا غير واقعية لإعادة تدوير الجبس الفوسفاتي بعد المعالجة، بما في ذلك استخدامه في صناعة الأسمنت والخرسانة، وتحسين التربة الزراعية، وصناعة الطوب والجبس الصناعي، لكن الواقع يظهر أن هذه الحلول ما هي إلا تسويف ومماطلة، فخزانات التخزين الموعودة ستعجز حتما عن استيعاب الكميات المتزايدة سنويا، والأخطار مستمرة بلا حل جذري.

لقاء الخطين.. الاحتجاجات والنضال البيئي

شهدت قابس منذ عام 2017 موجات احتجاجية متكررة، بعد صدور قرار حكومي، يقضي بتفكيك الوحدات الصناعية الملوثة، لكن هذا القرار لم ينفذ على الأرض.

وكان من أبرز هذه الاحتجاجات توقف مؤقت بالمجمع في 7 أغسطس/ أب 2020، أتاح لسكان المدينة العودة إلى السباحة، بعد سنوات من التلوث المستمر.

يستعرض الفيلم صراع المواطنين على حقهم في بيئة صحية، إذ يطالبون بتفكيك المجمع ويرون استمرار عمله جريمة بيئية، وإرهابا ضد الصحة العامة، في حين تتهرب الدولة من مسؤولياتها، وتغض الطرف عن التلوث المرئي بالعين المجردة، بل زاد الوضع سوءا عندما أزيل الجبس الفوسفاتي من قائمة المواد الملوثة والخطرة، مما يعكس استمرار التهرب الرسمي والتسويف.

امرأة من أهل قابس تتحدث عن الآثار السلبية لوجود المصانع الكيماوية في المدينة

على صعيد الحقوق الدستورية، ينص الفصل 47 من دستور 2022 على ضمان “حق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ”، وعلى توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي.

لكن هذا الحق ظل حبرا على ورق، ليس في قابس وحدها، بل في أغلب جهات تونس من شمالها إلى جنوبها، نتيجة تقاعس الدولة عن التنفيذ، وتحميل الأولويات الاقتصادية فوق صحة الإنسان والبيئة.

ينتهي الفيلم بالتقاطع الرمزي والواقعي بين محركي أحداثه، من البحارة الكهول الذين يعانون صمتا، محملين بمرارة سنوات التلوث وفقدان موارد رزقهم، ومن الشباب المتحمسين الذين ينظمون الحملات والعرائض والمسيرات، مطالبين الدولة بتحمل مسؤولياتها، تحت شعار “نحب نعيش”، فيمثل هذا اللقاء ذروة الفيلم، وهو يحاول أن ينقذ المدينة التي كانت منذ زمن قريب ذات نظام بيئي نادر، يجمع بين البحر والواحة.

سياسة قصيرة النظر في تونس

يُثار السؤال الجوهري التالي عند مشاهدة الفيلم: بما أن هذه المشاريع مربحة للدولة إلى حد التضحية بالفلاحة والسياحة والبحر وصحة الناس، فلماذا لا تنفق على نفسها لتطابق المواصفات العالمية وتحدّ من خطرها على الإنسان؟ وإن عجزت فلماذا لا تفكك هذه المشاريع؟ ولماذا تبذل المجموعة الوطنية في سبيلها كل هذه التضحيات؟

أليس من المنطقي أن تتحمل المؤسسات المربحة كلفتها البيئية، وأن تسهم في ترميم ما تفسده من هواء وماء وتربة وحياة بشرية؟

لكن ما يحدث في الواقع يكشف أن الربح المالي يتخذ ذريعة لتبرير الخسارة الجماعية، وأن الاقتصاد الوطني يبنى على حساب الإنسان والمجال، فالثروات التونسية موزعة بعدالة جغرافية، من حيث الطبيعة لا من حيث الاستفادة، فالفلاحة في الشمال، والفوسفات في الجنوب الغربي، والنفط في أقصى الجنوب، أما الفوسفات فيصنع في قابس، فتدفع الثمن الصحي والبيئي.

مسيرة منددة بالتلوث الذي تُحدثه مصانع الجبس الفوسفاتي في مدينة قابس التونسية

وفي حين يعاني الشمال الغربي العطش وهو يزود باقي البلاد بالماء، ويكابد الجنوب البؤس مع غناه بالثروات، ترفع شعارات التضامن الوطني لتغطية خلل صارخ في العدالة المجالية.

فما الذي قدمه التضامن حقا لتلك المناطق المفقرة المستنزفة؟ وإلى أي مدى ظل الاقتصاد التضامني شعارا معلقا في الخطابات أكثر منه ممارسة في الواقع؟

هنا تتبدى المسؤولية السياسية في أوضح صورها، فالخلل ليس قدرا طبيعيا، بل نتيجة مباشرة لعجز النخب الحاكمة عن صياغة رؤية عادلة ومتوازنة للثروة والتنمية.

لقد توارث السياسيون هذا النمط من التفكير المصلحي القصير، فصاروا رجال كرّاس أكثر منهم رجال دولة، لا يملكون شجاعة القرار الحاسم ولا إيمان الرؤية البعيدة، ويبررون تعسف الدولة على مواطنيها خشية مواجهة أزمات محتملة، أو توتر اجتماعي نتيجة لفقدان بعض الأسواق أو اتساع رقعة البطالة، فيختارون السكوت المريح والهروب إلى الأمام، بدل اتخاذ القرار الضروري، وتحمّل تبعاته كما يفعل القادة الشجعان.

يتوق أهل قابس لعودة مدينتهم وبحرهم نظيفين كما كانا قبل وجود المصانع

في حين تضحي الدولة بأقاليمها الطرفية في سبيل مركزها، وبالمدى البعيد في سبيل المدى القصير، فتنقلب وحدة الدولة إلى أداة تبرير لعدم المساواة، ويختزل التضامن الوطني في شعارات تردد ولا تطبق.

يعرض الفيلم صرخة أهالي قابس التي تشكو التلوث، ومن ورائها نسمع صرخة الأطراف التي تشكو التواطؤ المستمر بين السياسة والمصلحة الآنية منذ قيام الدولة الوطنية، وذلك ما جعل التنمية في تونس مشروعا معلقا بين الطموح والعجز، ومصدرا دائما للغضب الاجتماعي وفقدان الثقة في الدولة.


إعلان