اكتشافات تقلب مسلّمات الفيزياء والفلك.. هل نعيش داخل ثقب أسود؟

في أحد المشاهد الملحمية بعالم أفلام الخيال العلمي، في الفيلم الشهير “بين النجوم” (Interstellar)، يخطط “جوزيف كوبر” لاتخاذ جاذبية الثقب الأسود مقلاعا جاذبيا، لمساعدة المركبة الفضائية على بلوغ هدفها، بعد أن فقدت جزءا كبيرا من طاقتها.

وعند نقطة حاسمة، يجد “كوبر” نفسه مضطرا إلى تخفيف حمل المركبة، فيدفع نفسه والروبوت “تارس” خارجها، فيسقطان معا في الثقب الأسود “غارغانتوا”، في مشهد يحبس الأنفاس.

من فيلم “الثقوب السوداء.. سر الكون”

وعلى عكس المعروف فيزيائيا، فإن الثقوب السوداء من أخطر الظواهر الكونية، بسبب قوى المدّ الناتجة عن جاذبيتها الهائلة، فكلما اقتربنا منها تزداد شدة الجاذبية بالتسارع، فيختل التوازن بين طرفي الجسم (الطرف الأقرب والأبعد عن الثقب)، وتحدث استطالة شديدة للعظام والأنسجة، حتى تتفتت، وهي ظاهرة تسمى “التمدد السباغيتي” (Spaghettification).

أرى أن أبسط إشارة إلى دافع حركة الكون الدورانية، هي أن الكون قد ولِد في ثقب أسود دوّار.

عالم الفيزياء النظرية “نيكوديم بوبلاوسكي”

لكن في الفيلم، وجد “كوبر” نفسه حيّا في هيكل رباعي الأبعاد يسمى “التيسيوراكت”، أنشأته حضارة بشرية متقدمة من المستقبل، وفي هذا الهيكل الفيزيائي المثير، يصبح الزمن بُعدا رابعا يُتحكم به، فيمكن التنقّل فيه واستعراض الأحداث استعراضا فيزيائيا ملموسا.

وكانت الغاية من ذلك مساعدة “كوبر” في إيصال البيانات والمعادلات المتعلقة بالجاذبية الكمومية إلى ابنته “مورف”، لتحل معضلة الجاذبية، وتنقذ البشرية بإطلاق سفن فضائية عملاقة تغادر الأرض، بعد أن أصبحت بيئة الكوكب سامة غير صالحة للحياة.

تفترض فرضية “الثقب الأسود الكوني” أن كوننا نشأ داخل ثقب أسود في كون آخر

وتعد هذه من اللقطات السينمائية النادرة، التي تكشف ما يجول داخل الثقب الأسود، ولو كانت تلك شطحة فنية، فإن ما كشفته دراسة حديثة يضرب بكل المفاهيم الفيزيائية عرض الحائط، مشيرة إلى أننا ربّما نعيش في ثقب أسود، لا نحن فقط، بل إن الكون برمّته قد خلِق داخل ثقب أسود.

نتائج “جيمس ويب” تقلب المسلّمات الفيزيائية

في آذار/ مارس 2025، نُشرت دراسة صادمة في الدورية العلمية المرموقة “النشرات الشهرية للجمعية الفلكية الملكية” (Monthly Notices of the Royal Astronomical Society)، استنادا إلى ملاحظات رصدها تلسكوب “جيمس ويب” الفضائي، وقد أقدم باحثون في الدراسة على تحليل بيانات من 263 مجرة قديمة.

كشفت الدراسة أن نحو ثلثي هذه المجرات تدور في اتجاه واحد، وهو باتجاه حركة عقارب الساعة من منظورنا في مجرة درب التبانة، ويدور الثلث الآخر عكس اتجاه عقارب الساعة.1

مجرات رصدها تلسكوب “جيمس ويب” الفضائي، وتدور باتجاه واحد من منظور مجرة درب التبانة

تعد هذه النتائج مفاجئة، لأنها تتعارض مع الفرضية العلمية القديمة، التي تفترض أن اتجاه دوران المجرات يجب أن يكون عشوائيا. ووفقا لهذا التصور، كان يفترض أن تكون نسب المجرات التي تدور مع عقارب الساعة وعكسها متقاربة، مع احتمال وجود فارق طفيف في الأعداد، نتيجة للصدفة الإحصائية، أو التحيزات في الرصد.

لكن الدراسة تخالف ذلك التصور، وتقترح أن هذا التوزيع غير المتوازن في اتجاه دوران المجرات، قد يكون دليلا محتملا على أننا نعيش داخل ثقب أسود دوّار. ويطرح في هذا السياق احتمال آخر أيضا، وهو أن اتجاه دوران مجرة درب التبانة نفسها ربما يكون له تأثير على كيفية ملاحظتنا لحركة المجرات الأخرى، مما يستدعي تطوير نماذج رياضية دقيقة، لاختبار هذه الفرضيات، وفهم طبيعة هذا التوزيع غير المتوقع.

إن اكتشاف تلسكوب “جيمس ويب” أن المجرات تدور في اتجاه مفضل، من شأنه أن يدعم نظرية الثقوب السوداء التي تخلق أكوانا جديدة، وسوف أكون متحمسا للغاية إذا أقرت هذه النتائج.

عالم الحاسوب “ليور شامير”

تعتمد هذه الملاحظات على تحليل خاصية “الانزياح نحو الأحمر”، وهي ظاهرة تشير إلى زيادة في طول الموجة الكهرومغناطيسية الصادرة عن المجرات، كلما ابتعدت عنا بسرعة كبيرة، مما يجعل أطيافها تنزاح نحو الطرف الأحمر من الطيف الضوئي. وتشبه هذه الظاهرة كثيرا تأثير “دوبلر” المعروف في الصوت، إذ يتغيّر التردد عند المستقبِل حسب حركة المصدر.

هل تصمد نظرية الانفجار العظيم أمام المكتشفات الحديثة؟

هذه الملاحظات هي الأولى من نوعها على هذا المستوى من الدقة، وتفتح الباب على مصراعيه لإعادة النظر في عدة ركائز أساسية، يقوم عليها علم الفلك الحديث، وعلى رأسها نظرية الانفجار العظيم، ومشكلة “توتر هابل”، التي تشير إلى التباين بين قيم سرعة توسّع الكون المقاسة بطرائق مختلفة.

بل إن هذه الفرضية الجديدة قد تمهّد الطريق أمام تبنّي أفكارا أكثر شذوذا، منها نظرية الأكوان المتعددة، وفرضية ولادة أكوان جديدة في ثقوب سوداء، مما قد يغيّر نظرتنا إلى هذه الثقوب، من كونها نهايات قاتمة للزمان والمكان، إلى “حضانات كونية” تنشأ فيها أكوان مستقلة بقوانينها الفيزيائية.

تاريخ ظهور فرضية “الكون داخل ثقب أسود”

تعد الثقوب السوداء أجساما فلكية هائلة، تتميز بقوّة جاذبية تجعلها قادرة على التهام كل شيء حولها، فحتّى الضوء لا يستطيع الإفلات منها بمجرّد تجاوزه منطقة “أفق الحدث”، وهو الحد الفاصل بينها وبين الفضاء الخارجي.

تتشكل هذه الثقوب عادة من انهيار النجوم الضخمة بعد استنفاد وقودها، فتنهار المادة تحت تأثير جاذبيتها إلى نقطة ذات كثافة عالية جدا، وهي نقطة التفرّد (Singularity).

أفق الحدث هو الحافة التي لا يستطيع الضوء بعدها الهرب من جاذبية الثقب الأسود

وتفترض نظرية النسبية العامة التي وضعها العالم الألماني “ألبرت أينشتاين”، أنه عند نقطة التفرد هذه تتركز المادة والطاقة في نقطة ذات حجم صفري وكثافة وحرارة لا نهائية، ويصبح فيها انحناء الزمكان غير محدود.

وفي هذه النقطة، تتعطل قوانين الفيزياء المعروفة، ولا يمكن التنبؤ بسلوك المادة ولا الزمن ولا المكان، فتصبح “نقطة نهاية” للنموذج القديم من النسبية العامة.

ويُتصور أن نقطة التفرد المطلق ليست إلا نتيجة لنقص في فهمنا الحالي للجاذبية عند المستويات الكمومية، فالنظريات الحديثة -مثل الجاذبية الكمومية ونظرية الأوتار- تشير إلى وجود آليات تمنع الوصول إلى تفرد حقيقي، وتحل محلها حالة فيزيائية ذات كثافة عالية جدا لكنها محدودة، مما يسمح بتفسير أكثر اكتمالا لطبيعة الثقوب السوداء والكون.

الثقوب السوداء تعلّمنا أن الفضاء يمكن أن ينكمش وينطوي، حتى يصبح نقطة ذات حجم لا يذكر، وأن الزمن قد يتوقف تماما كالشعلة المطفأة، كما تبرهن على أن القوانين الفيزيائية التي نعتبرها ثابتة مقدسة قد تكون قابلة للتغيير تحت ظروف قصوى.

الفيزيائي “جون ويلر”

وفي هذا السياق، تفترض نظريات أن أكوانا محتملة قد تولد في هذه الثقوب السوداء، وتلك فرضية “الكون داخل ثقب أسود”، أو الثقب الأسود الكوني. وتعود جذورها إلى حقبة السبعينيات والثمانينيات، حين طرح بعض علماء الكونيات تساؤلات عميقة حول مصير المادة التي تسقط في الثقوب السوداء، قائلين إن نقطة التفرد لا تمثل النهاية، بل قد تكون بداية كون جديد بالكامل، بما في ذلك كوننا.

الأدلة الأولى على وجود ثقب أسود عملاق في مركز مجرتنا

وفي عام 1990، طرح الفيزيائي الروسي “إيغور نوفيكوف” وزملاؤه تصورا نظريا يسمى “جسر آينشتاين-روزن”، وهو نوع من الثقوب الدودية قد يصل بين ثقب أسود وكون آخر ناشئ، لكن هذا التصور ظل محصورا في إطار الفرضيات النظرية، من غير تأكيد تجريبي.2

أدلة نظرية تدعم الفرضية

تطورت فرضية أن الكون قد يكون ناشئا من داخل ثقب أسود تطورا ملحوظا خلال العقدين الماضيين، مدعومة بتراكم من الأدلة النظرية والمفاهيم الفيزيائية، التي تعيد النظر في طبيعة نشأة الكون.

ويستند هذا الطرح إلى تشابه لافت بين الخصائص البنيوية للثقوب السوداء، والظروف الفيزيائية التي رافقت الانفجار العظيم، مثل الكثافة الهائلة والتوسع السريع للزمكان أو النسيج الكوني. وقد أسهمت عدة نظريات حديثة في دعم هذا التصور، بنماذج رياضية ومفاهيم تتعلق ببنية الكون والأبعاد العليا، من أبرزها:

    • نظرية الأوتار والأبعاد العليا (String Theory): تفترض وجود أكثر من ثلاثة أبعاد مكانية في الكون، وتطرح إمكانية أن تكون الثقوب السوداء مداخل لأكوان أخرى ضمن أبعاد لا نستطيع إدراكها مباشرة.3
الثقوب الدودية فرضية تتحدث عن أنفاق تصل بين ثقوب سوداء في أكوان أو مجرات شتى
  • فرضية “الارتداد الكوني” (Big Bounce): ترى أن الانفجار العظيم ليس بداية مطلقة للزمان والمكان، بل حدث ناجم عن انهيار كون سابق في ثقب أسود، مما أدى إلى نشوء كون جديد، وهذا يعيد النظر إلى فكرة أن كل ثقب أسود في كوننا قد يحتوي على “كون مولود” ناشئ.4
  • النسبية العامة ونظرية الجاذبية الكمومية: توضح بعض النماذج المدمجة بين هاتين النظريتين، أن التفردات داخل الثقوب السوداء ليست نقاطا بلا أبعاد، بل مناطق ذات كثافة عالية جدا لكنها محدودة، مما يتيح إمكانية ظهور أكوان جديدة داخلها.
  • تشابه شروط الولادة: تظهر الدراسات أن خصائص “أفق الحدث” في الثقوب السوداء، تتقاطع مع بعض خصائص الزمكان الفيزيائية في لحظات الانفجار العظيم، مثل درجة الحرارة الهائلة والكثافة الشديدة، وكذلك تمدد متسارع للفضاء، وهذا التشابه يعزز الفكرة بأن لحظة انبثاق الكون قد تشبه حالة ما داخل ثقب أسود.5

“ظاهرة شفارتزشيلد الكونية”.. إعادة تعريف لنشأة الكون

إذا افترضنا جدلا أننا نعيش في ثقب أسود، وأن نشأة الكون كانت بسبب ارتداد كوني يعرف بالانفجار العظيم، فإننا نكون أمام “ظاهرة شفارتزشيلد الكونية”، المنسوبة إلى العالم “كارل شفارتزشيلد”، الذي قدم أول حل دقيق لمعادلات النسبية العامة لنموذج ثقب أسود غير دوار.

وفقا لمعادلة “شفارتزشيلد”، يمكن لأي مادة أن تصبح ثقبا أسود، إذا ضغطت داخل نصف قطر معين يتناسب مع كتلتها، فمثلا لو ضغطنا كتلة الأرض (نحو 5.972 × 10²⁴ كيلوغرام) إلى كرة بحجم 9 ملم فقط، أي بطول حبة العدس، فستصبح الأرض ثقبا أسود صغيرا.

صورة مباشرة من الثقب الأسود العملاق في مركز مجرتنا درب التبانة

أما الكون المرصود الذي يبلغ قطره نحو 93 مليار سنة ضوئية (وهي أبعد مسافة بين نقطتين يمكن رصدهما مرئيا في الكون)، فله كتلة هائلة، تجعلنا نتخيل وجود ثقب أسود عملاق على هذا المستوى الكوني.

ولعل كل ثقب أسود عملاق في كوننا يمثل بداية كون جديد له قوانينه الفيزيائية، مما قد يفسر بعض الظواهر الغامضة، مثل تسارع التوسع الكوني، وطبيعة المادة والطاقة المظلمة، اللتين تشكلان معا نحو 95% من محتوى الكون.6

 

المصادر:

[1] شامير، ليو (2025). دراسة: توزيع دوران المجرة في المسح العميق المتقدم خارج المجرة بواسطة تلسكوب جيمس ويب الفضائي. الاسترداد من: https://academic.oup.com/mnras/article/538/1/76/8019798?login=false

[2] فولورف، فارلي، نوفيكوف، إيغور (1990). دراسة: التأثيرات الفيزيائية في الثقوب الدودية وآلات الزمن. الاسترداد من: https://physics.uwyo.edu/~mbrother/acs/phsrevd.pdf

[3] موسكوفيتز، كلارا (2025). قد تكون الثقوب السوداء “متاهات هائلة” من الأوتار متعددة الأبعاد. الاسترداد من: https://www.scientificamerican.com/article/string-theorists-say-black-holes-are-multidimensional-string-supermazes/

[4] بوجولاد، مارتن (2001). دراسة: غياب التفرد في علم الكونيات الكمومي الحلقي. الاسترداد من: https://arxiv.org/pdf/gr-qc/0102069

[5] هاوكينغ، ستيفن (2014). دراسة: حفظ المعلومات والتنبؤ بالطقس للثقوب السوداء. الاسترداد من: https://arxiv.org/pdf/1401.5761

[6] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). الكون المرئي. الاسترداد من: https://www.britannica.com/topic/observable-universe?utm_source=chatgpt.com


إعلان